اول الكلام

الاغتيال: الدولة إذ تلجأ إلى “عدالة” القتل

القدس العربي-  رشيد خشانة

الاغتيال السياسي “حلٌ” أخيرٌ تلجأ إليه الأنظمة الاستبدادية للتخلص من خصم عنيد، عندما يتعذر احتواؤه والسيطرة عليه بالوسائل الناعمة. وفي تاريخنا العربي والإسلامي قصصٌ كثيرة عن اغتيالات شهيرة، وصل فيها التشفي والانتقام إلى درجة تشي بفقدان المشاعر الإنسانية تماما، مثلما حصل للصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي قُتل بوحشية وقُطِعت أوصاله بُغية تذويبها، مثلما تم تذويب جثة الزعيم المغربي مهدي بن بركة في حوض حمام، بعد اختطافه في باريس.

 وعادة ما تتولى تنفيذ هذه المهمة عصابات من القتلة المحترفين، العاملين في أجهزة المخابرات، أو المأجورين، أسوة بقاتل الزعيم السوري صلاح الدين البيطار في باريس، أو نائب رئيس الجمهورية وزير الدفاع العراقي حردان عبد الغفار التكريتي في الكويت، أو الرئيس الجزائري محمد بوضياف، بينما كان يلقي خطابا في مدينة عنابة. ظل الهدف الأساسي دوما هو ترهيب المنشقين والمعارضين، لكي يقول لسان حال المواطن البسيط أو المثقف الأعزل “إذا كان الزعيم أو الرئيس لم يسلم من ذراع الدولة الطويلة فماذا أستطيع أنا؟”. من هذه الزاوية يطرح اللجوء للتصفية الجسدية أزمة العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وبالأخص نُخبها التي تعجز عن احتوائها وإدارة الاختلاف معها بوسائل الحوار وتحت سقف الآليات الديمقراطية.

 كثيرٌ من المُغتالين استهانوا بالخطر فلم يُحيطوا أنفسهم بحُراس ولم يتخذوا إجراءات وقائية. لكن حتى من احتموا خلف إجراءات أمنية مُشددة لم يسلموا من التصفية، مثل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أو الزعيم الوطني كمال جنبلاط، أو مفتي لبنان الشيخ حسن خالد. في المقابل استطاع الحكام المستبدون أن يتخلصوا من معارضين كانوا يتمتعون بثقل رمزي وشعبي كبيرين من أجل تركيز الحكم على التخويف والعنف. وتٌعتبر تصفية الزعيم المغربي مهدي بن بركة، على سبيل المثال، أحد أشهر الاغتيالات السياسية، لأن الغموض ما زال يلُفها إلى اليوم، بالرغم من اعترافات كثيرة رفعت النقاب عن بعض جوانبها.

مهدي بن بركة

توعد الملك الراحل الحسن الثاني صديقه السابق مهدي بن بركة (1920-1965) بالقتل بعدما بات يتزعم المعارضة ويتمتع بشعبية عالمية، خاصة لما كان يُعدُ لعقد مؤتمر القارات الثلاث (آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية) في العاصمة الكوبية هافانا. وفعلا كان لتغييب بن بركة أثرٌ واضحٌ في فشل المؤتمر، الذي التأم في بداية 1966، بعد أسابيع من استدراج الزعيم إلى فخ في باريس، حيث تولت فرقة من القتلة بقيادة أحمد الدليمي خطفه وقتله، قبل أن تنقل جثته إلى المغرب. كان وزير الداخلية المغربي آنذاك اللواء محمد أوفقير يُتابع العملية خطوة خطوة على مدى سبعة شهور، مُعتمدا على المعلومات التي كان يحصل عليها من فريق مؤلف من أربعين عنصرا، مُكلف بتتبُع خطى بن بركة والتنصت على مكالماته. لم يكن من المعقول منطقيا أن أجهزة الأمن الفرنسية لم تكن مُتفطنة لوجود هذا العدد من المخبرين، ولم تلاحظ التنصت على المكالمات، حتى لو كانت هذه العملية تتم بتواطؤ مع عناصر مخابرات فرنسيين يعملون لحسابهم الخاص.

وأظهرت كتب عدة صدرت منذ اختطاف بن بركة واغتياله في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965، تورط المخابرات الفرنسية على عهد الرئيس شارل ديغول، وكذلك المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في عملية الاختطاف والاغتيال، بالنظر للخطر الذي كان يُمثله زعيم “الاتحاد الوطني للقوى الشعبية” على مصالح تلك الأطراف. وأطلق بن بركة على مشروعه المُوجَه للمغرب والعالم الثالث عموما اسم “الاختيار الثوري”.

ومع أن الصحافي السعودي جمال خاشقجي لم يكن معارضا ولا ثوريا في أي يوم من الأيام، هناك أوجه شبه كثيرة بين اختطافه واختطاف بن بركة، وإن كان الأول ذهب إلى القنصلية السعودية في اسطنبول برجليه، بينما وقع بن بركة في مقلب مُعد سلفا للإيقاع به ونقله إلى المغرب. وصورة الحيلة التي تم حبكها تتمثل في إيهام بن بركة، بواسطة أشخاص فرنسيين يعملون مع المخابرات المغربية، بكونهم يُعدون لإنتاج شريط سينمائي عن مكافحة الاستعمار في افريقيا بعنوان “باستا” (كفاية). وتتشابه الجريمتان من حيث عملية التعذيب التي تدلُ على منسوب التشفي، والتي تسبق القتل البارد، ثم تقطيع الأوصال وتذويبها بالمواد الكيميائية.

لم يشفع لبن بركة أنه كان أستاذ الملك الحسن الثاني الذي علمه الرياضيات، لما كان وليا للعهد، فأطلق الملك بنفسه الدعوة علنا لبن بركة للعودة إلى المغرب، مُتوجها إليه في خطابه بالقول “أريد أن يعود أستاذي في مادة الرياضيات، لأن لدي معادلة أريد حلها معه لصالح المغرب”. وجرى فعلا حل المعادلة لكن بشطب أحد طرفيها.

صلاح الدين البيطار

كان مُسلح واحد من مخابرات حافظ الأسد كافيا لتصفية ثاني مؤسسي حزب البعث صلاح الدين البيطار (1912-1980)، صبيحة 21 حزيران/يونيو 1980، على باب الشقة المتواضعة التي كانت تؤوي صحيفته “الإحياء العربي” في باريس، بعدما أفلت من الاعتقال والسجن في سوريا. واتُخذ قرار الاغتيال بعد إخفاق جميع المحاولات التي قام بها حافظ الأسد لإقناع البيطار بالعودة إلى سوريا بما يُضفي شرعية على حكمه. وأتت عملية الاغتيال في سياق سلسلة من الاغتيالات طاولت قادة عسكريين وحزبيين أبرزهم وزير الدفاع محمد عمران الذي لجأ إلى مدينة طرابلس بعد إطلاقه من السجن، فلحقته كتيبة الموت إلى هناك وأردته قتيلا في 14 آذار/مارس 1972. وكان البيطار، الذي أسس حزب البعث مع ميشيل عفلق في 1939، تولى رئاسة الحكومة في سوريا أربع مرات، ووصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة لدى الإعلان عن الوحدة المصرية السورية، قبل أن يستقيل من المنصب في العام التالي. والأرجح أن الحوار الذي استمر خمس ساعات بين البيطار وحافظ الأسد يوم 25 أيار/مايو 1978 كان حاسما في اتخاذ الأسد قراره بتصفية غريمه ورفيقه السابق في “حزب البعث”، إذ بدا الخلاف عميقا حول دولة الحزب الواحد والرأي الواحد والزعيم الأوحد. وكانت رؤية البيطار المدافعة عن إشاعة الديمقراطية، بما فيها حرية الصحافة واستقلال التنظيمات الاجتماعية والسياسية، تتعارض تماما مع رؤية الأسد الذي اعتبر سوريا غير مهيأة للانتقال إلى النظام الديمقراطي.

ربما يئس البيطار من التغيير بعد هذا اللقاء الأخير، الذي رسخ في ذهنه فكرة الهجرة واللجوء إلى أوروبا، ففضل السفر إلى باريس، لاسيما أن هناك حكما بالإعدام صدر في حقه غيابيا في سوريا منذ العام 1969. ومن باريس بعث مؤسسة إعلامية في 1979 أحيى من خلالها صحيفة “الإحياء العربي”، التي كان أصدرها مع عفلق في ثلاثينات القرن الماضي. وانتقد في صحيفته حملات القمع في حلب وحماه، مُحذرا في الوقت نفسه من الإجراءات التي اعتبرها تمهيدا لكسر النسيج الوطني للمجتمع السوري. وطلب من الأسد سحب القوات السورية من لبنان، واصفا إياها بكونها تتصرف كجيش احتلال، كما طالب بإبعاد العسكر عن الحكم وحل اللجنة العسكرية في حزب البعث. هذه الرؤية راسخة لدى البيطار إذ سبق أن فصل 200 ضابط مؤدلج من الجيش، ما أدى إلى تنفيذ أعضاء اللجنة العسكرية (صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران) انقلابا ضده في شباط/فبراير 1966.

بعد مضي سنتين على لقاء البيطار مع الأسد، وفي أعقاب انتقاله إلى المنفى الاختياري في باريس، أبصر المصير الذي عرفه كثير من المعارضين والمنشقين عن “البعث”، إذ اغتاله قاتل محترف على باب الشقة التي كان يتخذ منها مكتبا لصحيفته “الإحياء العربي”، لتتجه كل أصابع الاتهام بارتكاب الجريمة إلى الأسد الأب.

كمال جنبلاط

في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) تعرض المحامي كمال جنبلاط (1917-1977) أهم شخصية محورية في لبنان آنذاك للاغتيال، ما شكل ضربة قوية للحركة الوطنية اللبنانية، التي احتضنت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعد إجلائها بالقوة من الأردن في العام 1971. واستطاع جنبلاط أن يتحول من زعيم درزي إلى رئيس للحركة الوطنية اللبنانية، ما جعل عدة أطراف إقليمية (بينها إسرائيل) ومحلية تعمل على التخلص منه لكسر الرابطة القوية القائمة آنذاك بين اللبنانيين والفلسطينيين. وظهرت مؤشرات على ذلك مع إلقاء القبض على ضابط من جهاز الموساد الإسرائيلي في 1973 اعترف بكونه تردد على بلدة المختارة مقر جنبلاط وحاول التقاط صور لها.

أقام جنبلاط بصفته رئيس الحزب الاشتراكي التقدمي علاقات واسعة مع أحزاب عدة في العالم العربي وأوروبا من خلال “الرابطة الدولية للأحزاب الاشتراكية”، وهو ما عزز إصرار أعدائه على التخلص منه. وعارض بشدة دخول القوات السورية إلى لبنان تحت غطاء “قوات الردع العربية”، ما جعل نجله وليد جنبلاط يُوجه إصبع الاتهام إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالوقوف وراء اغتيال والده. وتمت عملية الاغتيال في جبال الشوف غير بعيد عن حاجز للقوات السورية في لبنان، يوم 16 آذار/مارس 1977، بواسطة سيارة تحمل لوحة أرقام عراقية للتمويه. ومن ذيول العملية أن السكان الدروز هجموا على قرى مسيحية في جبال الشوف فقتلوا 144 من سكانها، مُعتقدين أنهم هم من يقف وراء اغتيال زعيمهم.

لم يخسر العالم العربي باغتيال جنبلاط سياسيا فذا، وإنما خسر أيضا مثقفا كبيرا وعالما أفنى شبابه في دراسة العلوم، إلى جانب دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة السوربون، ما أتاح له وضع عدة مؤلفات في الاشتراكية والقضايا القومية والفلسفة والتاريخ.

محمد بوضياف

 لم يشفع للرئيس الجزائري المغدور محمد بوضياف (1919-1992) أنه كان أحد المفجرين الستة لحرب التحرير سنة 1954، التي أجبرت فرنسا على الجلاء عن البلد، فتآمر عليه بعض القادة العسكريين وقرروا تصفيته في ظروف غامضة، لم تنجل حقائقها إلى اليوم. كان الرئيس الذي أتى به الجيش إلى الحكم، بعد ما أمضى ثلاثين عاما منفيا في المغرب، يُلقي خطابا في مدينة عنابة (شرق) لما تفجرت خلفه قنبلة أعقبها إطلاق نار أرداه قتيلا، وأشاع الرعب والفزع في القاعة. كان الرئيس، يخطب من على المنصة شارحا خطة المصالحة الوطنية، التي وافق على أساسها على تسنُم الرئاسة. لكنه لم يكن مُدركا لما كان يدور خلف الستار الذي وراءه.

تعددت الروايات عن هوية الذين أمروا بالاغتيال وخططوا له، وسرعان ما بدأ الترويج لرواية تُركز أصابع الاتهام على حارسه ضابط الصف مبارك بومعرافي. لكن روايات أخرى أكدت أن القاتل شخص آخر كان يقف إلى جانب بومعرافي خلف الرئيس. ومن أجل محو آثار الجريمة تم ترتيب قتل بومعرافي في سجن سركاجي، بعد عشر سنوات من الحادثة، بدعوى اندلاع حريق راح ضحيته عدة سجناء آخرين. واللافت أن موت بومعرافي المريب أتى في أعقاب مطالبة ناصر بوضياف، نجل الرئيس المغدور، بكشف الحقيقة عن عملية الاغتيال. أما الكتب والشهادات التي صدرت لاحقا، فيُوجه معظمها إصبع الاتهام إلى المخابرات العسكرية، فالأرجح أن العسكريين هم الذين أتوا به من المغرب، حيث كان يدير مشروعا خاصا في رعاية الملك الحسن الثاني، وهم أيضا من تخلص منه، بعدما بدأ هو الاعداد لمشروع سياسي مستقل، إذ كان اجتماع عنابة خطوة في سياق حشد الدعم للحزب الذي كان يستعدُ لتشكيله خارج قبضة العسكر.

في الأساس أريد لبوضياف أن يمنح شرعية لانقلاب العسكريين على نتائج أول انتخابات برلمانية تعددية، بعدما فاز بشوطها الأول مرشحو “الجبهة الاسلامية للانقاذ” في كانون الأول/ديسمبر 1991، ولكي يملأ الفراغ الذي أحدثته الاستقالة المفاجئة للرئيس الشاذلي بن جديد، الذي رفض شطب نتائج الانتخابات. غير أن بوضياف رفض لعب دور الدمية في أيدي العسكر، فدفع الثمن غاليا.

وقبل بوضياف تعرضت شخصيات سياسية بارزة للاغتيال، حتى أثناء الحرب التحريرية، في مقدمها القائد السياسي عبان رمضان الذي كان يُدير الصراع مع الاحتلال الفرنسي في الداخل، ونجح في عقد أول مؤتمر للثوار في جبل “الصومام”، قبل أن يستدرجه رفاقه إلى المغرب حيث اغتالوه في كانون الأول/ديسمبر 1957. وبعد الاستقلال تعرض قياديان بارزان من مؤسسي “جبهة التحرير الوطني” للمصير نفسه، وهما محمد خيضر الذي عارض انقلاب هواري بومدين في 1965، فقُتل في مدريد على أيدي عنصر من المخابرات الجزائرية، وكريم بلقاسم الذي اختلف أيضا مع بن بللة وبومدين، وصدر في حقه حكم بالإعدام في 1967، فهاجر إلى ألمانيا حيث لحقه الموت، وهو في مدينة فرانكفورت. لكن الرئيس الشاذلي بن جديد ردَ له الاعتبار في 1984 واستقدم رُفاته لتدفن في مقبرة الشهداء. واللافت أن الاغتيالات طاولت أيضا رئيس المخابرات العسكرية الأسبق قاصدي مرباح، الذي كان أحد أعمدة النظام ولعب دورا حاسما في اختيار العقيد الشاذلي بن جديد خلفا لهواري بومدين. كما تعرضت شخصيات معارضة للاغتيال أبرزها عبد القادر حشاني الرجل الثالث في “الجبهة الإسلامية للانقاذ” المنحلة.

حردان عبد الغفار التكريتي

الاقدام على اغتيال الرجل الثاني في الدولة العراقية الفريق حردان عبد الغفار التكريتي، (1925-1971) شكل الحلقة الأولى من سلسلة التصفيات التي ارتكبها النظام العراقي السابق، ليس فقط في حق معارضيه، وإنما أيضا في حق أركان النظام، الذين سُجن بعضهم وقُتل بعضهم الآخر، فيما اختار الناجون المنفى القسري. كان قائد سلاح الجو وزير الدفاع ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة حردان التكريتي ثاني ثلاثة في قيادة حزب البعث الذي استولى على السلطة في 1968 بعد تسفير الرئيس المخلوع عبد السلام عارف إلى الخارج. تسلم أحمد حسن البكر الرئاسة وأُعطي للتكريتي منصبان هما نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ووزير الدفاع، ما جعله متقدما على صدام حسين. ونجح التكريتي على ما تقول الروايات في إيغار صدر البكر على صدام، فوافق الأول على نفيه إلى الخارج أسوة بالمصير الذي عرفته شخصيات سياسية عدة. غير أن صداما لم يلبث أن عاد إلى العراق بعد أسبوع واحد، وأقنع بدوره البكر بأن وزير الدفاع يُخطط للانقلاب عليه، فعزل التكريتي من وزارة الدفاع وسماه في الوقت نفسه نائبا لرئيس الجمهورية، وهو منصبٌ شكليٌ لا غاية منه سوى تجريده من السلطات الواسعة التي كان يتمتع بها. وفي سياق هذا الاستبعاد انتقل خصومه إلى درجة أعلى بتجريده من جميع المسؤوليات الحزبية والحكومية في تشرين الأول/اكتوبر 1970.

 تزامنت تلك التطورات مع اندلاع معارك طاحنة بين الجيش الأردني وفصائل المقاومة الفلسطينية في سياق ما بات يُعرف بـ”مجازر أيلول الأسود”. وحض التكريتي القيادة العراقية على نُصرة الفلسطينيين بدفع القوات العراقية المرابطة حول عمان، إلى الوقوف إلى جانب الفصائل الفلسطينية، لكن ما أن تلقى مجلس قيادة الثورة تلك البرقية حتى طلب منه العودة فورا إلى بغداد حيث تولى أعضاء المجلس توبيخه وتأنيبه، وقرروا تسفيره إلى الجزائر.

وبالرغم من إرساله إلى المنفى، تم تعيينه سفيرا في مدريد في فترة أولى، ثم سفيرا لدى الجزائر. سئم التكريتي المصير القاسي الذي اختاره له خصومه، وبين المنصبين عاد إلى العراق محاولا البحث عن تفاهم معهم، لكن من دون جدوى. واللافت أن الحكومة الجزائرية رفضت اعتماده سفيرا لديها، فاختار اللجوء لفترة قصيرة في لندن، قبل أن تُعينه الحكومة العراقية سفيرا في السويد. لم يقبل التكريتي بهذا المصير ولم يباشر مهامه في ستوكهولم، بل اتجه إلى الكويت، حيث استراب الخصوم من أمره، مُرجحين أنه كان يعتزم الاعداد لانقلاب عسكري، من دون أن تكون لديهم إثباتات على ذلك. وبناء على ذلك التوجس تقرر على الأرجح تصفيته، وتولى عنصر من المخابرات العراقية يُدعى فتيان العاني إطلاق الرصاص على التكريتي قرب المستشفى الأميري بمدينة الكويت، حيث كان في ضيافة الشيخ سعد الصباح، فأرداه قتيلا يوم 30 آذار/مارس 1971. وتميل الروايات المختلفة إلى تحميل صدام حسين مسؤولية الاغتيال.

صالح بن يوسف

بعد ثلاثة عقود من النضال المشترك ضد الاستعمار الفرنسي، دبَ الشقاق بين زعيمي الحركة الوطنية التونسية حبيب بورقيبة وصالح بن يوسف (1907-1961)، وأخذ بالتصاعد درجة بعد أخرى إلى أن انتهى بتجنيد بورقيبة ثلاثة قتلة لاغتيال غريمه في غرفة الفندق الذي كان ينزل فيه بمدينة فرنكفورت يوم 12 آب/اغسطس 1961. كان المحاميان بورقيبة وبن يوسف، من الشباب المتعلم الذي انضم إلى “الحزب الحر الدستوري”، العامود الفقري للحركة الوطنية. وسرعان ما ثارا على اللجنة التنفيذية للحزب التي كانت تتوخى الأساليب العتيقة في العمل السياسي ولا تؤمن بالعمل الميداني. وانتهى بهما الخلاف مع القيادة إلى الانشقاق وتأسيس “الحزب الحر الدستوري الجديد” في 1934، مع شخصيات وطنية من مُجايليهما.

ذاق بورقيبة وبن يوسف مرارة السجن والمنفى معا، وغداة المواجهة الدامية بين الحركة الوطنية وقوات الاستعمار في نيسان/ابريل 1938 من أجل المطالبة ببرلمان تونسي، ألقي القبض عليهما وعلى قادة الحزب الآخرين، وأودع الجميع سجن سان نيكولا، في فرنسا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم تُسجَل طيلة تلك الفترة أي خلافات عميقة أو مشاحنات بين الزعيمين، إذ كان بورقيبة رئيسا للحزب وبن يوسف أمينه العام. وعندما اضطُرَ بورقيبة للسفر برا إلى مصر عبر ليبيا في العام 1947 للإفلات من قبضة سلطات الاحتلال، التي كانت مُصرة على مطاردته واعتقاله بتعلة التعاطف مع دول المحور، تولى بن يوسف إعادة بناء فروع الحزب ومساعدة الاتحادات الشعبية والنقابية على استئناف نشاطها، بعدما وضعت الحرب أوزارها.

 ربما بدأ التباعد بينهما مع تشكيل حكومة تفاوضية برئاسة رجل الأعمال الوطني محمد شنيق، والتي انضم إليها بن يوسف وزيرا للعدل في بواكير الخمسينات من القرن الماضي. والأرجح أن بورقيبة لم يكن سعيدا بوجود وزيرين من الحزب الدستوري الجديد في الحكومة لأن ذلك قد يُضعف من قدرته على المناورة. لكن الأمر مرَ بسلام بعدما قوضت فرنسا الحكومة في 1952 وودعت رئيسها وأعضاءها بين السجن والمنفى.

بعد عامين ومع إعلان رئيس الحكومة الفرنسية بيار منديس فرانس، عن منح تونس الحكم الذاتي، اندلعت شرارة خلاف حاد بين “الدستوريين” لم يلبث أن تطور إلى ما يُشبه الحرب الأهلية بين رأسي الحزب، إذ اعتبر بورقيبة أن الحكم الذاتي خطوة نحو الاستقلال الكامل، فيما رأى بن يوسف أنه خطوة إلى الوراء وخيانة لكفاح الجزائر التي انطلقت للتو في حربها التحريرية. وألقى الخلاف بظلاله على الفدائيين المتحصنين في الجبال، فتخلى بعضهم عن سلاحه، ونزل البعض الآخر ليسلم السلاح لقيادة الحزب، فيما حض بن يوسف الآخرين على مواصلة العمل المسلح. غير أن هذا التباعد تحول إلى احتكاكات مسلحة وتصفيات جسدية بين الوطنيين، إلى أن أصدر بورقيبة أمرا باعتقال غريمه بن يوسف. لكن الأخير فرّ إلى مصر عبر ليبيا فوجد دعما كبيرا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وبالرغم من حصول تونس على الاستقلال الكامل في آذار/مارس 1956، لم يُمح الخلاف. وجرت محاولات عدة لعقد مصالحة بين الزعيمين، آخرها اجتماعهما في جنيف مطلع العام 1961، لكنها باءت جميعا بالفشل. ويبدو أن بورقيبة قرر اغتيال بن يوسف بعدما يئس من إقناعه بوجهة نظره، وكشف بنفسه في محاضرة ألقاها في العام 1973 في الجامعة التونسية، أنه كلف فريقا بقيادة بشير زرق العيون، قريب بن يوسف، باستدراج الأخير إلى فندق “روايال” بمدينة فرنكفورت الألمانية، حيث أطلق عليه النار مسلحان خرجا له من الحمام فأردياهُ قتيلا.

وما زالت الاغتيالات تلاحق أصحاب الرأي الحر والنشطاء السياسيين والحقوقيين، حتى لو كانوا دعاة إصلاح يعملون في كنف القانون.

[metaslider id=8624]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.