اول الكلام

لقد شوّهوا كلّ رسالة بقلم نادر الحمامي

 

تحمل عبارة “الرسالة” في الضمير الديني عموما معنى مقدّسا إذ ترتبط في الأذهان بالدين والرسُل فهي ربط بين الإنساني والإلهي، إنّها بلاغ الربّ عن طريق رُسله إلى البشريّة، وكم شاهدنا من مرّة فيلم مصطفى العقّاد “الرسالة” الذي لم يشفع له فقُتل تفجيرا. وتحمل العبارة نفسها منعى جماليّا لدى أهل الأدب والفنّ فتذكّر فنّ الترسّل فتحضر إلى الذهن “طوق الحمامة” لابن حزم، و”رسالة الغفران” للمعرّي و”رسالة التربيع والتدوير” لابن شهيد الأندلسي، وغيرها كثير من رسائل الأدباء العظام شرقا وغربا. وقرأنا رسائل الوعظ والأخلاق والوصايا النبيلة ورسائل المعلّمين كما قرأنا “الرسائل الفارسيّة” يحبّرها مونتيسكيو، على الرغم من إنكاره، بين ياسبيك وريكا في رحلتهما من أصفهان إلى أوربا فنتخيّل مجتمع الشرق الأدنى وأوربّا القرن الثامن عشر على حدّ سواء. وللعبارة وقع في النفوس الجميلة المحبّة تجعلها تحنّ إلى رسائل العشّاق وتجعلها تتخيّل الحمام الزاجل يقف على شرفة الحبيبة المنتظرة بلهفة ما تبلغها به حمامة بيضاء عن حبيب طال بُعده وعظم الشوق إليه. واستلهمت الأغاني الرسائل والمراسيل فشدت فيروز “يا مرسول المراسيل”، وتغنّينا بـ “بمرسول الحبّ” مع الدوكالي، و”ما ترجعليش جواباتي” مع وردة، و”رسالة من تحت الماء” مع عبد الحليم.

كلّ شيء في الرسائل جميل إلاّ عند هذا الرهط من المحسوبين على البشريّة خطأ وزورا، لم يتركوا شيئا لم يسخّروه لفظاعاتهم فشوّهوه وحمّلوا جماله قبحا لا يضاهيه سوى قبح أفكارهم البائسة. رسائلهم مسمومة لا ترى في المرسل إليه إلاّ هدفا للقتل. كلّ ما على الأرض وما تحتها يستعملونه لجرائمهم بمناسبة وأحيانا دونها. يكفي أن تتنفّس بغير طريقتهم لتكون مباح الدم عندهم، “خلوقة رعاع همّج”، مزّقوا كلّ الرسائل الجميلة وصنعوا من فتاتها السمّ لا يبتغون به سوى الكره. ليس جديدا عليه اختراع تقنيات القتل، وليس مبتدعا في عرفهم هذه الرسائل المسمومة التي كانوا ينوون إرسالها إلى صحفيين وإعلاميين ونقابيين وشخصيات عامّة لا لشيء إلاّ لأنّهم التزموا بفضح إجرامهم وإجرام من والاهم وإجرام من تواطأ معهم ونذر حياته للدفاع عنه صباحا مساء رافعا لافتة الحقوق يلوي عنقها، والقانون يطوّعه، والتشويه ينشره، والتكفير يصرّح به ويلمّح.

سيرسل التاريخ عليهم ريحه الصرصر عاتية تعصف بهم في غياهب الجحيم ونستعيد رسائلنا، رسائل الحريّة والفكر والعدالة والمساواة، رسائل النور والأدب والفنّ والحياة، رسائل البهجة والفرح والبشر والمرح، أمّا رسائلهم، فـ “مزّق “رسائلهم” يا إلهي، ليسعد قلبي”، فقد شوّهوا كلّ رسالة

*نادر الحمامي، أستاذ جامعي، رئيس جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية،

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.