الرئيسيةفي العالم

أسد الصحراء.. عن شهيد الثورة الليبية ورائعة العقاد

هو مشهد أشبه بقصص الخيال للأطفال، أو بفيلم رومنسي من بلاد بعيدة، شروق شمس وأزهار تحت سفوح جبال ليبيا الجميلة، أطفال يلعبون، ثم المفاجأة: انفجار.

هكذا افتتح مصطفى العقاد رائعة فيلمه “عمر المختار” بعد أقل من خمس سنوات على فيلم “الرسالة”، ذلك الفيلم الأشهر باللقطة الأشهر في ذاكرة العرب جميعا “رُدها عليّ إن استطعت”.

يُصور فيلم “أسد الصحراء” آخر عامين من حياة عمر المختار (1929-1931)، أي إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا، والتي أَرسل خلالها الزعيم الفاشي “بينيتو موسوليني” الجنرال “رودولفو غراتسياني” للقضاء على الثوار البدو الذين كان يقودهم الشيخ “سيدي عمر المختار” المُلقب بأسد الصحراء.

كان المختار مُعلما دينيا ناهز العقد السادس من عمره، لكنه وجد نفسه قائدا يخطط للمعارك، ويقود الثوار لمواجهة عدو يمتلك أحدث الأسلحة.

حوار الحق والباطل

ثماني دقائق كانت كافية للمخرج السوري مصطفى العقاد ليؤكد “نبوءة” المقاوم الليبي عمر المختار، والتي ألقاها على الجنرال رودولفو غراتسياني عند لقائهما في مكتب القائد الإيطالي، حيث قال “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت، سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي”.

مشهد الحوار الذي دار بين عمر المختار الذي يجسد شخصيته الممثل المكسيكي الأمريكي أنطوني كوين، وبين الجنرال غراتسياني؛ كان أكثر المشاهد تأثيرا في الفيلم، فعظمة “سيدي عمر المختار” جسدتها نظرات الممثل أوليفر ريد الذي تقمص شخصية الجنرال الإيطالي غراتسياني، والتي كان فيها شيء من التمني بأن يكون له خيار بقاء المقاوم الليبي حيا.

كان المشهد مزيجا رائعا اتخذه المخرج العقاد حين اعتمد على الممثل أنطوني كوين الذي كان في أوج مجده ليتقمص دور “شيخ المجاهدين”، وبين عناصر النص والديكور والإضاءة. كان مشهدا هادئا خاليا من الموسيقى، لكنه كان مؤثرا وحماسيا بامتياز، فالحوار بين “العدوّين” كان محاكمة للقوى الاستعمارية، وذلك حين قال المختار “قريبا ستجردني من كل شيء، وتريدني أن أبرر سرقاتكم؟ لا حق لأمة في احتلال أمة أخرى”.

وربما بسبب ذلك التاريخ المخزي والعلامة السوداء في تاريخ إيطاليا، منعت الأخيرة عرض الفيلم طيلة قرابة ثلاثة عقود بدعوى أنه يشوه صورة الجيش الإيطالي، حتى رُفع الحظر عن الفيلم عام 2009، فبثت قناة “سكاي إيطاليا” الفيلم تزامنا مع زيارة للرئيس الليبي معمر القذافي.

عمر المختار.. قصة تتجاوز الزمان والمكان

استطاع المخرج مصطفى العقاد أن ينقل صورتين من أكثر الصور الإنسانية قسوة، الأولى حين صوّر معاناة النساء والأطفال في المعتقل الصحراوي الذي أقامه الإيطاليون للسكان الأصليين، والثانية حين صوّر وجه طفل كان ضمن الحشد الذي أُجبر على مشاهدة عملية شنق شيخ سبعيني هو عمر المختار. لكن الأهم من هذه الصور هو الشخصية في حد ذاتها، فاختيار قصة المختار كانت بمثابة اختيار أيقونة إنسانية وعالمية لا تخضع لحدود الزمان والمكان.

وقد قال العقاد “إن سر تأثير عمر المختار يقوم على أنه شيخ ومعلم للقرآن، وأنه لم يكن مقاتلا محترفا وعسكريا مهنيا، لقد كان مجرد فرد في المجتمع يقوم بدوره بحسب المعتقد الديني والاجتماعي والتاريخي”.

كان فيلم العقاد الذي اختار فيه تصوير آخر سنوات عمر المختار مرجعية دينية واجتماعية، فهو تعبير شامل عن صراع بين الحق والباطل، بين شخص يقاتل من أجل أرضه وعرضه وبين مستعمر أتى طامعا يدكّ أصحاب الحق بالرصاص والقنابل. ألا نرى أن هذه الصورة لا تزال قائمة إلى يومنا هذا؟ ألا نرى أن أمثال عمر المختار وغراتسياني كُثر عبر التاريخ حتى يومنا هذا؟

هنا تكمن عبقرية العقاد حين اختار موضوع فيلمه وكأنه يقول إن قضية عمر المختار هي قضية الحق والباطل منذ الأزل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وربما هي تكملة منطقية لفيلم الرسالة، حيث كان الفيلم يصور صراع الكفر والإيمان، وفي عمر المختار صراع المستعمَر والمستعمِر، وفي كلا الفيلمين امتداد واضح وصريح في شهادة على انتصار الحق وإن طال الزمان.

فيلم عربي بضخامة هوليود

بدأ العقاد تصوير “أسد الصحراء” أواخر سنة 1979، وعُرض الفيلم شهر أبريل/نيسان 1981، وقد موله الرئيس معمر القذافي، وكانت ميزانيته قرابة 35 مليون دولار.

استعان المخرج العقاد بالكاتب الإيرلندي هاري كريغ كاتب سيناريو فيلم “الرسالة” لكتابة سيناريـو فيلم “أسد الصحراء”، ومكنته حرفية كريغ في الخروج من مأزق التأريخ إلى رحابة الدراما، وذلك بسيناريو متماسك يمكن للمخرج فيه أن يُبحر في عالم الممثلين والأحداث وتعقيدات القصة.

اعتمد العقاد في ذلك على الأرشيف الإيطالي للفترة بين 1929 وحتى 1931 تاريخ إعدام المختار، ولم يكن له حرج في استعمال الوثائق التاريخية أو في سرد الأحداث كما وقعت فعلا بكل عناصرها التاريخية والدرامية، على عكس ما حصل في فيلم “الرسالة” الذي واجه خلاله رقابة تفوق الوصف، حيث كان يسير ضمن محاذير المُقدّس، والذي جعل السلطة الدينية تطارده وتحاول عرقلته من خلال الضغط على المملكة المغربية التي كان يُصور على أرضها الفيلم من أجل منعه من إتمام عمله.

كل ما واجهه العقاد في فيلم “أسد الصحراء” هو نقل المعدات الحربية القديمة في عمق أكثر من ستين كيلومترا داخل الصحراء الليبية، وتصوير مشاهد التفجير التي أتقن العقاد تصويرها بحرفية فنية كبيرة، معتمدا على براعة مدير التصوير البريطاني جاك هيلدير، وعلى حماسة موسيقى موريس جار.

كان العقاد أمينا في نقل الأحداث كما حصلت في التاريخ، حيث حرص على تصوير الأحداث في أماكنها الحقيقية، ليكون فيلما تاريخيا بحق، وتوثيقا لما عاناه الليبيون من الاستعمار في تلك الفترة.

ميزانية ضخمة وخسائر ضخمة

عند تصوير فيلم “أسد الصحراء” أقيمت قرية خاصة وسط الصحراء لفريق الإنتاج والممثلين الذين وصل عددهم نحو 500 شخص، واستخدم قرابة عشرة آلاف من الممثلين الكومبارس، ونقلت المواد اللازمة لبناء هذه القرية من بريطانيا إلى الصحراء الليبية.

واجه فريق التصوير صعوبات بسبب طبيعة مكان التصوير، حيث استلزمت عملية تصوير مشاهد الفيلم نفض الرمال عن الكاميرات والأجهزة الأخرى والأسلحة التي استخدمت في الفيلم كل ساعتين، ورغم كل الجهود والإمكانيات التقنية والحبكة الدرامية وقيمة الشخصية (أي عمر المختار)، فإن الفيلم وبغرابة لم يحقق الإيرادات المطلوبة، بل بالعكس.

يقول الناقد محمود الزواوي في كتابه روائع السينما “ورغم الميزانية الضخمة التي رصدت لفيلم أسد الصحراء وثناء نقاد السينما الأمريكيين على الفيلم، فقد اقتصرت إيرادات الفيلم في دور السينما الأمريكية على مليون ونصف المليون دوﻻر، وذلك بسبب النطاق الضيق لعرض الفيلم في صالات العرض الأمريكية، ويحتل الفيلم من الناحية الرسمية المركز الرابع عشر من بين الأفلام التي حققت أكبر الخسائر في تاريخ السينما”.

استغرقت الأبحاث المتعلقة بقصة ومشروع فيلم “أسد الصحراء” عاما ونصف العام، اعتمد خلالها مصطفى العقاد على الأفلام التسجيلية للحملة الإيطالية في ليبيا، حيث كان لدى الزعيم الإيطالي موسوليني اهتمام كبير باستخدام الأفلام الدعائية وبروباغندا الصورة.

كان الفيلم وثيقة تاريخية وفنية باعتراف كبار النقاد، فقد كتب الناقد السنيمائي الأمريكي فنسنت كانبي في صحيفة “نيويورك تايمز” في أبريل/نيسان 1981، أي بعد عرض الفيلم على شاشات السينما الأمريكية “يمكن ألا يشتري المالُ السعادة، لكن فيلم أسد الصحراء لصاحبه مصطفى العقاد يؤكد أن المال يمكن أن يشتري ما يكفي من المواهب ومن الدراية لصنع فيلم تاريخي كبير، والذي يعتبر تقنيا على قدر من الأهمية”. يعتبر الفيلم الأضخم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ عرض فيلم “الخروج” للمخرج أوتو بريمينغر.

كان فيلم أسد الصحراء مثيرا لبعض المؤرخين أيضا، فقد قال المؤرخ البريطاني دينيس ماك سميث “لم أشاهد رعبا ونبلا في الوقت ذاته لدى المقاتلين في ساحات المعارك مثلما شاهدته في فيلم أسد الصحراء، لم يحدث أبدا أن شُجب ظلم الاستعمار بقوة شديدة مثلما نقلته مشاهد الفيلم. إن الذين يعتمدون في نقدهم لهذا الفيلم على معيار الموثوقية التاريخية لا يمكنهم إلا أن يُعجبوا به”.

أسد الصحراء.. حكاية شهيدين

لم يكن مصطفى العقاد مجرد مخرج مغامر فتحت له هوليود ذراعيها، فقد كان يطمح لإيصال قضية باستعمال المنهج الهوليودي، ولعل هذا ما يفسّر حرصه الكبير على التدقيق التاريخي في الأحداث حتى لا تسقط قضيته في الخطأ والتأويل المغلوط، فقد كان عمر المختار بطلا اجتماعيا وواقعيا، وكانت قضيته قضية العقاد نفسه، والتي عبَّر عنها بقناعة فكرية وفنية.

وشبّه الناقد السينمائي فنسنت كانبي شخصية “عمر المختار” كما صورها المخرج العقاد بشخصية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وقال إن الفيلم كأنما يرسم وجه شبه بين ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي لم يكن مُعترفا به للتفاوض لأنه لا يمثل دولة مستقلة، وبين عمر المختار الذي رفض الإيطاليون التفاوض معه للسبب ذاته.

في الأخير وبتلك النظرة البطولية المتحدية استشهد المختار، وبقي أيقونة من أيقونات الثورة العربية على الظلم والطغيان، واستشهد العقاد وسيبقى أيقونة تدافع عن قضايا الإنسانية، وبين الشهيدين بندقية وكاميرا وكلمة حق. رحم الله الشهيدين وسيبقى الباطل زهوقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.