اول الكلام

“وفى الراي” على “صنّاع الرأي”

“وفى الراي” على “صنّاع الرأي”

نادر الحمّامي

 

تقول الأرقام العنيدة إنّ 37 في المائة من المصوّتين للفائز في الانتخابات الرئاسيّة حسب النتائج الأوّليّة قيس سعيّد ينتمون إلى الشريحة العمريّة المتراوحة بين 18 و25 سنة، وبالتالي فإنّ هذا الفئة هي التي ساهمت بالقسط الأكبر في فوزه. أسئلة كثيرة ينبغي طرحها: ما الذي جعلهم يميلون إلى مرشّح قد يبدو للكثيرين ألاّ لا صلة له بهذه الفئة من الشباب؟ ماذا وجدوا فيه؟ كيف استمالهم؟ أليس في أذهاننا أنّها فئة التواصل اللغوي المركّب والمنحوت من لغات عديدة قد يستعصي على الكهول فهمها؟ أليسوا من أولئك الذين حوّلوا الحروف أرقاما وكتب الدارجة بالحروف اللاتينيّة وعزّ عليهم تركيب جملة عربيّة سليمةفكيف مالوا إلى من خاطب الناس بالعربيّة الصرف؟ بل كيف مالوا إلى أحد أقل المترشّحين ظهورا في الحملة الانتخابيّة وقبلها؟

حين سئل بعض هؤلاء الشباب عن سبب انتخابهم لقيس سعيّد تلخّصت الإجابة في الأوصاف المتكرّرة التالية: نزيه ومستقلّ ومثقّف. ولكن إذا عدنا إلى مسألة قلّة ظهور قيس سعيّد يمكننا أن نسأل: من أين كوّن هؤلاء الشباب هذه الصورة؟ وعلى أيّ شيء بنوا حكمهم خاصّة أنّهم لم يطلعوا على برنامجه الانتخابي وهو بعيد عن جيلهم وربّما فيه ما يجعله بعيدا عن هذه الفئة أكثر ممّا يجعله قريبا منها؟

بعض الإجابة عن كلّ هذه التساؤلات يمكن أن تنطلق من النظر في خصائص هذه الفئة العمريّة لا في شخصيّة المترشّح الفائز. فمن الناحية العلميّة الاجتماعيّة هذه الفئة أصبحت معروفة بالعبارة la génération Z وهو جيل يعيش تقريبا في الفضاء الافتراضي متنقّلا بين وسائل التواصل الاجتماعي إذ هو ذلك الجيل الذي ولد في إطار انفجار رقميّ وهذا أثّر تأثيرا بالغا في ذهنيّته ونظرته إلى الاشياء وكيفيّة تقبّله للأمور وأهمّ ميزاته حسب الدراسات أنّ حكمه على موضوع ما بأنه يهمّه أو لا يهمّه يُتّخذ في ثوان قليلة لا تتجاوز عشر ثوان، ولا يمكنه متابعة موضوع ما بتركيز وتأنّ إلاّ بضع دقائق.

إنّ مثل هذه المعطيات تؤكّد أنّ السياسيّين كثيري الظهور والذين يفتكون الكلمة في وسائل الإعلام التقليديّة ويطيلون الكلام في البرامج السياسيّة الحواريّة لم يعد لهم أيّ تأثير في هذه الفئة العمريّة من شباب 18- 25 سنة إذ أنّهم مباشرة سيغيّرون القناة بالضغط على آلة التحكّم منذ الثواني الأولى ليس منذ بداية حديث السياسي فحسب وإنّما حتى قبل أن يُنهي مقدّم البرنامج مقدّمته إذ هذا الجيل هو جيل يكره المقدّمات والتأطير والصور النمطيّة ثمّ إنّه من المستحيل تقريبا أن يبقى متابعا لحوار سياسي لمدّة ساعتين لمقارنة الأفكار إن وجدت. إنّ هذه الخاصيّة خدمت بشكل كبير قيس سعيّد نظرا إلى قلّة ظهوره، وإن ظهر فلدقائق معدودة ونعلم جميعا أنّه يجيب مباشرة على السؤال المطروح مع تعوّده في أكثر من مناسبة على تقديم قصير جدّا وطريف في شكل قصّة/ملحة بأسلوب جذّاب ونذكر بالخصوص قصّة الحمار آكل الدستور، أو قصّة بورقيبة مع ضيفه من أحد البلدان الإفريقيّة وحكاية الغراب إلخ. قيس سعيّد له استراتيجيّة خطاب لا يمكن بأيّ حال أن تكون عفويّة أو عن غير وعي. وربّما يكون هو نفسه بعيدا عن كلّ أدوات التواصل الاجتماعي ولكن العارف بصفحات الفايسبوك يمكنه أن يلاحظ أنّ صفحات شبابيّة كثيرة تروّج له منذ مدّة بالطريقة التي يحبّذها شباب 18- 25. لقد تحوّل قيس سعيّد منذ 2011 بحضوره من حين إلى آخر حضورا لا يتجاوز الدقائق الثلاث في بعض نشرات الأخبار أو البرامج المتسائلة عن إشكال دستوري إلى ما يشبه “الميث” ساعده الغياب على الحضور فنسبت إليه الأقوال والحكم حقّا وانتحالا ولم يتمكّن أحد خلال العشريّة الأخيرة من نسبته إلى جهة بعينها حزبيّة كانت أو إيديولوجيّة فالرجل لم يتكلّم يوما إلاّ بصورة تقنيّة مغرقة في الشكلانيّة الدستورية والقانونيّة انزاح عنها قليلا أثناء الحملة الانتخابيّة بشكل عابر وحين انزاح مال إلى المحافظة وهذا مع طريقة الحضور البرقيّة عنده جلب إليه الشباب من جهة والمحافظين من جهة أخرى دون أن يكون محسوبا على أيّ طرف.

القضيّة في جوهرها عمل مرتكز على كيفيّة التوجّه إلى المجتمع وأدواته، عمل فهم أنّ الجيل السابق مرّ وانتهى، لم نعد في مرحلة la génération X التي تصنع التلفزات ووسائل الإعلام التقليديّة رأيها، وكان فيها لصنّاع الرأي كلمة مؤثّرة، صناعة الرأي اليوم مع الشباب في الومضات السريعة المباشرة بتقنيات أخرى غير التي كان عليها أهل القرن الماضي. هل سيفهم السياسيون التقليديون أن الزمن غير الزمن وأنّ آليات الخطاب تغيّرت وأنّ الأجيال الجديدة لم تعد لها بنية ذهنية تمكّنها من البقاء ساعة أو أكثر للاستماع إلى لغة محنّطة مكرّرة تسمعها من الجميع فتصبح بلا معنى؟

إنّ هذا القول لا يعني أي نوع من الإشادة أو الإعجاب فطروحات قيس سعيّد بعضها خطير جدّا على الدولة قد تكون لنا لها عودة بالتفصيل حين يفصح عن نفسه أكثر ونتثبّت ممّا عندنا، حديثنا هنا كان على الطريقة ولا أحسبها عفويّة ولا هي بنت حينها، فالأمر أكبر من ذلك وأذكى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.