اول الكلامفي العالم

العدالة – الاقتصاد – السلام: 3 عقبات بوجه القوى المدنية في سلطة السودان الانتقالية

غم الصيت الواسع والتضامن العالمي الذي اكتسبته الثورة السودانية التي أطاحت بواحدة من أعتى الدكتاتوريات في القارة الإفريقية والشرق الأوسط برئاسة عمر البشير، الذي استمر في الحكم لـ 30 سنة، إلا أن نجاح تجربة السودان نفسها في الوصول لنهايات ترسخ الديمقراطية والعدالة رغم تراكم محاولات الانعتاق من دائرة حكم العسكر منذ استقلال البلاد في 1956 لا تزال مفتوحة على سيناريوهات مختلفة ضمنها الانتكاس والتراجع عن النجاح النسبي عما تحقق.

تواجه حكومة الاقتصادي عبدالله حمدوك الذي عين رئيسًا للوزراء في شهر أغسطس الماضي، والذي يحظى بشعبية كبيرة وسط السودانيين تحديات جمة، ربما يأتي على رأسها قيادته لحكومة هجينة يتوسطها العسكر الذين يتقاسمون مع المدنيين مجلس السيادة والذي بدوره يتمتع بصلاحيات قانونية ودستورية واسعة في وقت ينظر فيه الكثير من الثوار والشباب للمجلس العسكري السابق باعتباره جزء لا يتجزأ من نظام المعزول عمر البشير.

الوثيقة الدستورية

بعد شد وجذب كبيرين بين المجلس العسكري الذي انقلب على البشير وسيطر على مجريات الحكم في البلاد منذ أبريل الماضي والمعارضة المدنية من جانب آخر متمثلة في تحالف «إعلان قوى الحرية والتغيير»، التي نظمت التظاهرات منذ ديسمبر 2018، توصل الطرفان لما يشبه التسوية السياسية، والتي قضت أن تحكم البلاد بصورة مشتركة بين العسكر والمدنيين في تجربة جديدة على السودان والمنطقة. حدث ذلك في خضم الضغوط الإقليمية والدولية وتعجل الأطراف كافة للوصول إلى تسوية سريعة توقف أو تؤجل احتمالات المواجهة الشاملة في البلاد.

تم التوقيع على ما سمى بـ «الوثيقة الدستورية»، التي تؤسس لكيفية حكم البلاد، وتقاسم السلطة بين الطرفين، وصلاحيات كل منهما، وبنى عليها الاتفاق النهائي الذي تم توقيعه في أغسطس الماضي وتأسست بناءً عليه الحكومة الانتقالية.

قضت الوثيقة بمنح العسكر خمسة مقاعد في مجلس السيادة مقابل خمسة للمدنيين وشخصية مدنية أخرى يتم اختيارها بالتشاور بين الطرفين. كما قضت الوثيقة بصلاحيات واسعة للمجلس السيادي تتعلق بإعلان حالة الطوارئ وتعيين النائب العام ورئيس القضاء، والمصادقة على تعيين الوزراء وولاة الولايات والولاية علي الجيش والمليشيات والأجهزة الأمنية. إلى جانب ذلك، منحت الوثيقة الحصانة للأعضاء العسكريين في مجلس السيادة.

علي الطرف الأخر، منحت الوثيقة القوى المدنية حق تشكيل مجلس الوزراء واختيار 50% من مجلس السيادة، إضافة إلى 67% من المجلس التشريعي، الذي تم تأجيل تشكيله لثلاثة أشهر تنتهي قبل نهاية العام الحالي بقليل.

خرج الطرفان بقبول مر للشراكة وبكثير من الريبة تجاه مستقبل العلاقة بينهما وكيفية حكم البلاد خلال السنوات الثلاث المقبلة.

صقور وحمائم الطرفان لا يزالان يتبادلان مواقع النقد والدفاع والجدل بشأن مراكز القوى في المعسكرين ولأي منهما ستميل كفة الترجيح خلال المرحلة الانتقالية. يرى العسكر أن ما تم تقديمه من تنازلات منحت المدنيين حكمًا تنفيذيًا كاملًا بالسيطرة على مجلس الوزراء برئاسة «حمدوك» وأغلبية بسيطة في مجلس السيادة، ما يعد أمرًا كافيًا لإثبات حسن نيتهم ويؤهلهم لحكم البلاد بجانب المدنيين، لا سيما وأنهم حماة النظام الجديد من ردة فعل تنظيم الإخوان المسلمين الذي لا يزال يتربص بالتجربة الديمقراطية الوليدة.

في المقابل يتمسك الكثير من الثوار بحق «المدنية» الوارد في ميثاق الحرية والتغيير، وينظرون بعين الريبة للعسكر ويرون فيهم مجرد امتداد للنظام القديم بمصالحه الاقتصادية وقوته العسكرية، إلى جانب تورطه بقتل المتظاهرين في المدة من أبريل إلى أغسطس 2019.

العدالة

باتت قضية تحقيق العدالة والقصاص لقتلى «مجزرة القيادة» العامة وغيرها في أعلى مراتب أولويات المتظاهرين وأسرهم والرأي العام في البلاد، وذلك في ظل شبهة تورط المجلس العسكري ومليشيات الدعم السريع التي يقودها الرجل القوي محمد حمدان دقلو الشهير بـ «حميدتي»، والتي كانت تدين بالولاء للرئيس السابق في مقتل أكثر من 100 شخص عندما فضت السلطات بالقوة اعتصامًا استمر لأكثر من شهر أمام قيادة الجيش للمطالبة بتسليم السلطة.

وبالنسبة للآلاف من المتظاهرين المنضمين تحت لجان الأحياء، ومبادرة مفقودي القيادة، وتجمع أسر الشهداء، وتجمع المهنيين وغيرهم، تعد قضية العدالة هي مسألة محورية لتعبيد الطريق نحو الدولة المدنية ومحاسبة رموز النظام السابق. كما أنه بالنسبة لكثير منهم، تمتد قضية العدالة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية في مناطق النزاعات في السودان، ولا سيما إقليم دارفور.

في المقابل، مشاركة القادة العسكريين الحاليين في حماية نظام البشير حتى أيام قليلة قبل سقوطه، بل واشتراكهم في قمع المتظاهرين، خلق حالة من الفصام بين قوى التغيير التي تجلس في مقاعد مجلس واحد مع العسكر وقواعدهم من المتظاهرين الذي يرون في العسكر مجرد عدو سابق.

ينتظر التحقيق في مجزرة القيادة حسب نص الوثيقة الدستورية، لكن حواجز كثيرة من عدم الثقة تحيط بهذا الأمر إذ إن العسكر يتمتعون بالحصانة ويحق لهم وهم جزء من مجلس السيادة تعيين رئيس القضاء والنائب العام، الأمر الذي أدى لتأجيل البت في تعيين هؤلاء المسؤولين لأكثر من شهر حتى الآن.

وفي محاولة للوفاء بالتزامات تحقيق العدالة والموعد المقرر لبدء التحقيق وفقًا للوثيقة الدستورية، شكل رئيس الوزراء في سبتمبر الماضي لجنة تحقيق في مجزرة فض الاعتصام، والتي واجهت انتقادات حادة من المتظاهرين والقانونيين. ودار نقد اللجنة حول أنها ليس لها الاختصاص في تحويل القضايا للنيابة ولا القضاء، كما أنها محاطة بالحصانات، إضافة لوجود ممثلين للجيش والشرطة في تكوينها، مما يؤثر على استقلاليتها بالنسبة لكثيرين، بينهم تجمع المهنيين نفسه الذي أبدى تحفظًا واضحًا تجاه تكوين اللجنة، مؤكدًا أنه سيتجه لمراجعة ومناقشة الأمر مع رئيس الوزراء.

ويرى كثيرون أن قضية ضحايا فض اعتصام القيادة ربما تمثل حالة قطيعة بين المتظاهرين وقيادة المجلس السيادي من المدنيين، وربما تؤدي لتدهور في العلاقة بين المدنيين والعسكريين وتمثل العقبة، التي ربما تتكسر أمامها حالة الشراكة الهشة التي تحققت تحت ضغوط المجتمع الإقليمي والدولي.

الاقتصاد

لم تبد الحكومة الانتقالية التي أدت اليمين الدستورية في سبتمبر الماضي خطوات عملية تجاه تعقب الفساد وأموال السودان المهربة إلى خارج السودان والأصول الكثيرة التي تقدر بالمليارات لعدد من المنسوبين للنظام السابق داخل السودان وخارجه.

وفي ظل عجز حكومة الفترة الانتقالية عن تعقب أموال الفساد، إضافة لتركة النظام السابق المتمثلة في الانهيار الاقتصادي، يبدو أن النظام الجديد، وخاصة الشق المدني منه الذي يبحث عن سبيل سريع لإقناع المواطنين بجدوى وجوده في السلطة بعد ثورة انطلقت بسبب غلاء المعيشة والتردي الاقتصادي، لم يجد غير التوجه نحو طلب المنح والدعم من الغرب متمثلًا في البنك الدولي وغيره من مؤسسات المال الغربية.

وقبل سفره بجانب رئيس الوزراء إلى نيويورك بأيام قلائل، كشف وزير المالية إبراهيم البدوي عن لقاء سيجمعه مع مدير البنك الدولي لطلب دعم قيمته اثنين مليار دولار بصورة عاجلة لسد العجز في البلاد، وبدء برنامج إسعافي عاجل للاقتصاد تصل مدته إلى تسعة أشهر.

وبعيدًا عن سلبيات وإيجابيات هذا التوجه المحكوم بسياسات صندوق النقد الدولي المشهورة بالهيكلة الاقتصادية ورفع الدعم وتعويم العملة المحلية مقابل الحصول على الدعم المالي وإعادة جدولة الديون، فإن الضغوط السياسية التي يواجهها المدنيون في الحكومة متمثلة في سيطرة العسكر على الاقتصاد وبين رغبتهم في إحداث نقلة اقتصادية وسياسية ربما تدفعهم للبحث عن طريق سريع لتحسين الاقتصاد مهما كانت السبل والتنازلات، بما في ذلك بناء علاقات قوية مع الحلف الإقليمي بقيادة السعودية والإمارات بمساعدة من العسكر أنفسهم.

وضمن الحصانة الممنوحة للعسكريين ليست فقط حماية الأفراد من المحاسبة، بل استمرار قبضة اقتصاد الجيش والمليشيات على سوق الاستيراد والتصدير، لا سيما في مجالات الذهب والحبوب الزيتية، إضافة للشركات التابعة لمليشيات الدعم السريع على رأسها شركة الجنيد المملوكة لقائد الدعم السريع «حميدتي»، والتي تسيطر على معظم مناجم الذهب في البلاد. ومن غير المعلوم حتى الآن ما إذا كانت تلك الشركات التابعة لمؤسسات الجيش والمليشيات وجهاز الأمن ستخضع للمراجعة العامة وفقًا لولاية وزارة المالية والسياسات المالية النقدية لبنك السودان، بل وابعد من ذلك التحقيق في كيفية حصول المليشيات وغيرها على تلك الامتيازات خلال عهد البشير وسط شكوك كبيرة بوجود شراكات واسعة بين قادة المليشيات ورجال أعمال ورموز تابعين للنظام السابق تسيطر على مناجم الذهب وغيرها من مصادر الدخل الاساسية في البلاد. ووصل أمر السيطرة الاقتصادية العسكرية لدرجة أن قائد الدعم السريع «حميدتي» هو من دفع مرتبات القطاع العام في البلاد كافة لشهر أغسطس الماضي، حسبما كشف مصدر حكومي.

ورغم الانفتاح الذي تبديه حكومة «حمدوك» تجاه الدول الغربية ومؤسسات التمويل الدولية ورغم الاستقبال الحافل الذي قوبل به لدى مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك مؤخرًا، إلا أنه بدا متعثرًا في قدرته على إقناع الإدارة والكونجرس الأمريكيين برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي يعد عائقًا رئيسيًا أمام عودة السودان للاندماج في الاقتصاد العالمي والحصول على القروض والضمانات البنكية وجذب الاستثمارات.

وقال «حمدوك» في ندوة في الخرطوم نظمها المعهد البريطاني الملكي للعلاقات الخارجية (شاتام هاوس) حضرها لفيف من الرموز الإسلامية وقوى التغيير وأكاديميون واقتصاديون -بلهجة بدت غاضبة- إن عدم رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب سيدفع باتجاه فشل الدولة في السودان. وحذر في الندوة التي عقدت تحت عنوان «خيارات الاستقرار والنمو الاقتصادي في السودان» من انهيار السودان وتهديده للأمن الإقليمي بصورة أكثر خطورة من الأوضاع في سوريا أو اليمن أو ليبيا.  وأضاف «لا استطيع أن افهم كيف تأخذ إجراءات رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب أولوية أكثر أهمية من التداعيات المحتملة في حال تأخر اتخاذ هذا القرار».

وفي ظل قلة الخيارات الاقتصادية المتاحة أمام حكم المدنيين، لا تزال اقتصاديات الجيش والمليشيات تسيطر على السوق وتجلب السلع الأساسية مثل الوقود بموجب اتفاقيات مباشرة مع الحلفاء الإقليميين للجيش والمليشيات ممثلين في السعودية والإمارات، إضافة لتركيز الكتلة النقدية في يد تلك المؤسسات نفسها.

السلام 

رغم التجاوب الذي لاقته حكومة «حمدوك» من قبل الحركات المسلحة -المتحالفة أصلًا مع قوى الحرية والتغيير- خلال المفاوضات التي تمت في جوبا وانتهت بتوقيع اتفاق سريع لوقف العدائيات وإطلاق سراح سجناء الحرب، إلا أن شروخًا مختلفة شابت تلك العلاقة تركزت بشكل أساسي في تمثيل الحركات في هياكل الحكومة الانتقالية وما وصفوه بتجاوزهم، وعدم مخاطبة جذور الحرب في السودان والمتمثلة في التهميش والاقصاء من قبل المركز لأطراف البلاد. ورغم دخول أطراف إقليمية ودولية عديدة وحضور عشرات المبعوثين الدوليين للاتفاق إلا أن إرادة جميع الأطراف تجاه تحقيق السلام لا تزال على المحك.

تعاني الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق من انقسامات تنظيمية وسياسية عديدة، بل وحتى في رؤيتها للسلام ولأسس بناء الدولة السودانية رغم اتفاقهم على الوقوف ضد التمييز والتهميش ومطالبتهم باعادة تقسيم السلطة والثروة وإعادة هيكلة أجهزة الدولة كافة، بما في ذلك الجيش.

 وبينما تبدو الجبهة الثورية –تحالف حركات الحركة الشعبية جناح «مالك عقار» ، وحركة تحرير السودان جناح « أركو مناوى»، وحركة العدل والمساواة- أكثر مرونة وتقاربًا مع حكومة «حمدوك» باعتبار وجودها العضوي في قوى التغيير، يبدو عبدالعزيز الحلو قائد الجناح الأخر للحركة الشعبية –التيار الأقوى عسكريا وسط الحركات المسلحة- أكثر راديكالية وتمنعا تجاه قضية السلام مطالبًا بتحقيق حق تقرير المصير لإقليم جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان. وفي ذات السياق يبدو عبدالواحد محمد نور، الذي يقود حركة تحرير السودان بدارفور أكثر تطرفًا إذ يطالب باسقاط الحكومة الانتقالية ويصفها بكونها تمثل امتدادًا لحكومة البشير.

علي الطرف الأخر، تبدو توجهات المدنيين والعسكريين تجاه قضية السلام مختلفة عن بعضها البعض، ففيما يتمسك المدنيون بضرورة تحقيق السلام أولًا قبل بحث القضايا المتعلقة بالمشاركة في السلطة، أبدى «حميدتي» الذي قاد وفد الحكومة في المفاوضات مرونة تتعلق بتلك المشاركة واعدًا الحركات المسلحة بفتح هياكل السلطة الانتقالية من جديد من أجل مشاركتهم بما في ذلك نسب المشاركة في مجلس السيادة، وتأجيل تعيين ولاة الولايات، إضافة لتأجيل تشكيل البرلمان الانتقالي. ويرى محللون أن الوعود التي أطلقها «حميدتي» تشي بعدة اتجاهات سلبية منها رغبته في الاستقواء بالحركات المسلحة على قوى التغيير، عدم اهتمامه بنصوص الوثيقة الدستورية إضافة لما يمكن أن يحدثه التأجيل من إضعاف لهياكل السلطة الانتقالية مما يفتح الباب أمام تدخل مجلس السيادة في اتخاذ قرارات في ظل غياب البرلمان.

ويحذر هؤلاء بأن وعود «حميدتي» تمثل قنبلة مكتومة قابلة للانفجار بين المدنيين والعسكريين وستقلل من فرص الوصول لاتفاق عاجل وربما تعمق الخلافات بين قوى التغيير والحركات المسلحة.

حتى الآن يرى البعض أن تجربة السودان ربما لم تحقق الكثير –حتى الآن- في مضمار حقوق الإنسان والمساواة والعدالة مقارنة بتجارب إقليمية أخرى مثل تونس إذا ما قورنت بالربيع العربي، رغم أنها تمثل تجربة شديدة التفرد في محيطها الإفريقي، الذي يعاني من شبح فشل الدول كما في جنوب السودان والصومال وليبيا  وإفريقيا الوسطى أو حكم الدكتاتوريات العاتية كما في أوغندا وتشاد وإريتريا وغيرها.

نقلا عن مدى مصر بقلم محمد الامين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.