اول الكلام

فتحي ليسير مؤلف كتاب دولة الهواة يكتب؛ثقافة الاستقالة، يبطى شوية

نشر استاذ التاريخ المعاصر والراهن بالجامعة التونسية الدكتور فتحي ليسير نصا مهما عن  رئيس الحكومة وشبهة تضارب المصالح، ننقله من الفيسبوك تعميما للفائدة

 

على رئيس الحكومة أن يستقيل. بل أن يعجّل بالاستقالة . لقد قُضي الأمر بما أن الجريرة التي أتاها رئيس الحكومة ، وهي المسمّاة بتضارب المصالح قويّة ثابتة الأركان ، و قد زادها رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تأكيدا من خلال تصريحه الشهير حول هذه “القضية” التي شدّت الرأي العام . و على هذا الحدّ ثبتت مسؤولية السيد الفخفاخ حتى و إن لم يتم التصريح بمسؤوليته هذه من قبل هيئة قضائية متخصّصة . و الحق أن رئيس الحكومة قد زاد في تعقيد ” وضعيته” و هو يدفع عن نفسه ما نُسب اليه ، أمام البرلمان ، حين رفع السبّابة محذرا منتقديه قبل أن يُتحف سامعيه و مشاهديه ب “يبطى شويّة..” ،فتحول هذا المأثور الشعبي الى ضغث على إبّالة . ثم أمعن ، بعدئذ ، في تحدّي “الشعور و المزاج العامّين ” – تصريحا أو تلميحا – من خلال التأكيد على رفض الاستقالة بل إنه أصبح يردّد بلجّة و ضجّة à cor et à cri و في ثقة و إعتداد أنه “يحظى بثقة التونسيين..” .
و الرأي عندي أن السيد الفخفاخ ، الذي يبدو أنه لم يحصّن نفسه قبل الجلوس على كرسي رئاسة الحكومة بتعويذة أو برقية شرعية ، قد بدأ يفقد تعاطف أنصاره و ثقتهم و إن تظاهر بعضهم بخلاف ذلك . و يأتي على رأس هؤلاء رئيس الجمهورية الذي أقام حملته على نظافة اليد و الاستقامة و نقاء السيرة..الخ . و هذا معناه – في التحليل الأخير – أن ظهر السيد الفخفاخ لم يعد قويّا ناحية ساكن قصر قرطاج .
و الغريب ههنا أن نجد في معسكر المساندين “المطلقين” les inconditionnels بعضا ممّن أعتبروا حتى وقت قريب مرتّلي آيات les chantres التشنيع على الفساد و المفسدين ، رهط من سياسيي “اليومين دول” خفتت منهم الأصوات و آثروا التحصّن بالصمت أو أنهم اكتفوا في أحسن الأحوال بغمغمات غير مميّزة. بل إن السيد محمد عبو لم يجد غضاضة في تبييض صفحة رئيسه..
و لعل ما زاد في تأجيج المسألة شيئا ما بالنسبة لرئيس الحكومة تزامن ما يمكن أن نسمّيه بشئ من التجوّز ” الفخفاخ غايت” مع وصول أخبار من فرنسا ( والتونسيون يتابعون أخبار فرنسا في تفاصيلها الزهيدة حتى و إن تظاهروا بعكس ذلك..) كدّرت على التونسيين صفوهم و هم في معمعان القضية المذكورة و ذكّرتهم أنهم ينتمون إلى بلد صغير يديره سياسيون صغار ( و التونسيون أيضا ميّالون بطبعهم إلى عقد المقارنات و إقامة الموازنات) . و عنينا هنا الخبر الذي يتعلق بالحكم بسجن الوزير الأول السابق فرانسوا فيون بسبب و ظيفة وهمية أسندها إلي زوجته خلال فترة إقامته في قصر ماتينيون ( خمس سنوات سجن للزوج و ثلاث سنوات للزوجة من أجل “جرد” وظيفة وهمية..) . و كذا خبر تقديم الوزير الأول إدوار فيليب استقالته وهو في أوج شعبيته . حدثان ذكّرا التونسيين – و لو إلى حين – بالبون الشاسع بين عالمي السياسة و العدالة في البلدين..
نرجع إلي مرجوعنا بعد جولة الأفق هذه الى ما بدأنا به الحديث ،أي الى مسألة استقالة السيد إلياس الفخفاخ الذي أنفذ – و الحق يقال – إنطلاقة خاطئة كبّلته و عمّقت عطوبيته vulnérabilité بحيث أصبح بقاؤه على رأس الحكومة – في تقديرنا – أقرب الى الفعل العبثي بعد وقوع المحظور. و هنا أريد التشديد – و لو خطفا – على أمر مهمّ ألا وهو غياب ثقافة الاستقالة عندنا بوصفنا عربا عموما و بوصفنا تونسيين خصوصا . .

****

في الغرب المتمدن ، يُنظر إلى إستقالة الوزير أو المسؤول الكبير من منصبه على أنها التجسيد الأسمى للشعور بالمسؤولية تجاه الذات و الوطن . وهي أسلوب حضاري راق جدا للتعبير ، بشجاعة ،عن تحمّل المسؤولية و تبعاتها و إتاحة الفرصة لآخرين ، قد يكونون أكثر قدرة على تقديم فائدة أو إضافة ملموسة للبلاد .
يستقيل الوزير في البلدان الديموقراطية بسبب خطإ أو سوء تقديرو تدبير حتى و إن لم يكن هو المسؤول المباشر عن ارتكابه ، و لكنّه يعتبر أن مسؤوليته المعنوية عمّا حدث تُحتّم عليه تحمّل تبعات ذلك الخطإ أو التقصير . كما يستقيل المسؤول الكبير في تلك البلدان نتيجة شعور بعدم القدرة على تقديم عمل مفيد للدولة و للشعب حتى و إن تم انتخابه لمثل ذلك المنصب أو المركز . و تزداد قيمة هذه الاستقالة أهمية عندما تكون سببا مباشرا في تحقيق مصلحة عامة عاجلة ، و درء خسارة عامة عاجلة أيضا . و لقد ضرب بعض كبار المسؤولين في الغرب أروع الأمثلة في فقه الإستقالة : ففي اليابان مثلا كان خروج قطار جامح عن سكّته سببا في إستقالة وزير النقل . وفي ألمانيا استقال وزير الدفاع لمّا علم بأن غارات أطلسية على منطقة قندز بأفغانستان أوقعت ضحايا في صفوف المدنيين . و في الولايات المتحدة قدّم جورج تينيت رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية و نائبه استقالتيهما على خلفية جمع معلومات خاطئة و مضلّلة عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل . وفي فنلندا استقالت وزيرة بعد أن تفطنت الى أنها تصرفت، على وجه الخطأ، في ما قدره 35 دولار من المال العام ..والأمثلة على هكذا تصرفات و مواقف مشرفة أكثر من تحصى أو تعد . و حاصل الكلام إن ثقافة الإستقالة منتشرة في الغرب و هي من جملة الركائز التي تشذّ أزر أنظمة الحكم الرشيد هناك . و هي فوق ذلك من عناوين الضمائر الحيّة و الصدق مع الذات و الجرأة و الإخلاص و الحسّ الوطني . في الغرب المتمدّن أيضا لا وجود لأية لواصق بين الوزراء و الكراسي التي يجلسون عليها..
أما في البلاد العربية فإنه ليس هناك ما يشير إلى وجود ثقافة إسمها ثقافة الإستقالة و التنحّي عن المنصب أو الموقع . ذلك أن أدب تحمّل المسؤولية و الاعتراف بالخطإ و التقصير غائب تماما. فمعظم الوزراء في بلادنا ، على سبيل المثال ، لا يُبالون بما يقوله الناس عنهم . المهمّ بالنسبة إليهم أن يكون من عيّنهم راضيا عنهم و عن أدائهم – حتى وان كانت سجلاّتهم زاخرة بالتجاوزات و الأخطاء بل و الخطايا أحيانا – بحيث أنهم يتبادلون أنخاب خداع النفس مع من استوزروهم . زد على ذلك أن الحاكم ، في البلاد العربية ، تحت أي مسمّى كان (رئيس ، ملك ، أمير ، رئيس حكومة..) يرفض أن يستقيل وزراؤه بل و يستفظع ذلك و يعتبر مجرد ذكر الاستقالة عيبا أو جريرة و كفرا بالنعمة و هي علامة من علامات نكران الجميل بل ضربا من الخيانة..
و السؤال الذي يعنّ هنا : متى يبدأ التأسيس لثقافة الاستقالة في بلادنا و بذا يفتح الباب للممارسة الحرّة لرياضة الضمير الحيّ .ومن يقرأ التاريخ يقف على أسماء رجال و نساء لم ينالوا رفعة في حياتهم و ذكرا جميلا بعد مماتهم إلاّ لأنهم اتخذوا مواقف شجاعة و لم يصدّهم عن الجهر بما يعتقدون أنه الحق خوف أو مصالح مجنّبين أنفسهم وخز الضمير و تأنيبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.