اول الكلام

هل يحق لرئيس الدولة ان يكون المفسر الرسمي للدستور؟

مرت البلاد خلال الأيام القليلة الماضية بعديد الإشكاليات والإضطرابات السياسية أبرزها استقالة الحكومة وتعطيل عمل مجلس النواب . وبرز رئيس الجمهورية كالمنقذ للبلاد في ظل تعطل المؤسسات الدستورية وعجز الطيف السياسي عن التوصل لحلول تطمئن المواطن والمستثمر .
في هذا السياق برزت عديد المغالطات التي تم الترويج لها في الساحة السياسية وبتواطى مقصود من بعض وسائل الإعلام وبعض قيادات الأحزاب وعديد المحللين السياسيين وخاصة المتطفلين منهم. إن تأويل الدستور وتقديم مختلف القراءات لفصوله لا يتم من طرف أية جهة أو سلطة معنية بتطبيقه، وهو مبدأ قانوني مطلق انبنت عليه المبادئ القانونية العامة سواء في مجال القانون الخاص أو في مجال القانون الدستوري، لذلك حدد دستور تونس لسنة 2014 ، مثل سائر دساتير العالم، الجهة المختصة بتأويله وهي جهة محايدة ومستقلة عن السلطة التنفيذية المكلفة بتنفيذ الدستور واحترام علويته وهي المحكمة الدستورية التي هي جزء من السلطة القضائية.
وفي غياب المحكمة الدستورية فإن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين هي الجهة المختصة في تأويل بنود الدستور حتى ولو انقضى وقتها نظرا لغياب هيئة قارة تحل محلها، وذلك على غرار سائر الهيئات في تونس والتي لا تزال تعمل وتؤثر في الواقع التونسي دون أن يثير أحد مسألة انتهاء مدتها مثل هيئة الإتصال السمعي البصري وهيئة مكافحة الفساد وهيئة حقوق الإنسان ، وهي هيئات انتهت مدتها وبقيت تعمل في انتظار انتخاب الهيئات الرسمية والنهائية. و لو سلمنا باختصاص بقية السلط في تأويل بنود الدستور فسوف نجد تأويلا خاصا برئيس الجمهورية ويتنافى مع مصلحته وتأويلا خاصا بمجلس النواب وآخر خاصا برئيس الحكومة . هناك مغالطة ثانية يتم الترويج لها خطأ وتعمدا وهي أن رئيس الجمهورية هو صاحب التأويل الرسمي للدستور ، وهو خطأ جسيم ، فالمنطق يفترض أن لا يكون الرئيس في الآن نفسه خصما وحكما ، فهو في صراع دستوري من حيث الصلاحيات مع الشق الثاني من السلطة التنفيذية وهي الحكومة ومع مجلس نواب الشعب ، فكيف يرجع له تأويل الدستور ؟ إن الجهة المعنية بتأويل الدستور يجب أن تبقى دائما جهة محايدة وهي القضاء ممثلة في الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ولا يمكن للرئيس أو لأساتذة القانون أو لرؤساء الأحزاب تأويل الدستور حسب الهوى أو حسب الطلب.
هناك من يواجه هذا الرأي بأن رئيس الجمهورية هو الضامن لعلوية الدستور ولاحترامه. وهو أمر معقول وتضمنه دستور 2014 والمقصود به هو دور الرئيس في ختم مشاريع القوانين بعد التداول حولها والمصادقة عليها من قبل مجلس نواب الشعب، فيمكن لرئيس الجمهورية رفض ختم قانون لتعارضه مع الدستور ، وفي هذه الصورة إما أن يعيده للمجلس لإعادة الدراسة أو أن يعرضه على الإستفتاء الشعبي ، وهذا هو الدور الموكول للرئيس لحماية الدستور ولا يمكنه بأي صورة من الصور تأويله . وقد طرح هذا الإشكال بمناسبة تكليف رئيس الجمهورية للشخصية التي ستتولى تشكيل الحكومة على إثر استقالة الفخفاخ. وقد شاب هذا التكليف انحراف بالسلطة وتعد على الدستور . كيف ذلك؟ إن صورة تكليف الرئيس للشخصية التي ستتولى تشكيل الحكومة ليست الصورة الأصلية، بل هي أمكانية منحها الدستور للخروج من وضعية عجز الحزب الفائز في الإنتخابات عن تمرير حكومته، وتنصيص الدستور على تكليف الرئيس جاء مقترنا ومشروطا بالتشاور مع الأحزاب . فهذه الصورة لا يقصد بها افتكاك المبادرة من الأحزاب ومنحها للرئيس بل أن السلطة تبقى للأحزاب وهي التي تقترح والتفاوض مع الرئيس وهي التي تمنح الثقة للحكومة، ويعتبر تكليف الرئيس للشخصية الأقدر تدخلا شكليا بحتا لتعود السلطة بعد ذلك للمجلس للمصادقة على الحكومة من عدمه. وهو عكس ما ذهب إليه طيف كبير من الساسة في تونس وخصوصا الذين لهم مصلحة في سحب البساط من الأحزاب ذات الوزن الكبير في المجلس وجاراهم في ذلك رئيس الجمهورية، وقد أطلقت بعض الأحزاب إسما غريبا وعجيبا على الحكومة المستقيلة وهو اسم حكومة الرئيس متناسين أن دستور 2014 وضع نظاما برلمانيا ليس للرئيس فيه سوى بعض الصلاحيات البروتوكولية في حين خص مجلس نواب الشعب بأكبر السلطات ومنها أساسا التشريع وتعيين الحكومة ومراقبتها وإمكانية سحب الثقة من رئيس الجمهورية.
والخلاصة بناء على ما تقدم تفصيله أن رئيس الجمهورية ليس له حسب الدستور والأعراف الدستورية والذوق السياسي أن يتغاضى عن ترشيحات الأحزاب ويعين رئيسا للحكومة من اختياره هو . وهو تصرف فيه خرق جسيم للدستور الجاري به العمل وتعد على الأحزاب
صحيح أن الدستور الحالي والنظام السياسي الحالي تسببا في عديد الإشكاليات التي برزت في الواقع وعرقلت سير دواليب الدولة ووجب التفكير في مراجعتها وملائمتها مع الواقع التونسي. إلا أن التصرف اليوم، و في ظل الدستور الحالي كرئيس جمهورية كامل الصلاحيات في نظام رئاسي حاد هو مخالف للدستور ولا يوفر مناخا سليما لعمل الحكومة الجديدة المطالبة أساسا بتجاوز الأزمة المالية الخانقة والبحث عن تمويلات الميزانية، و إيجاد حلول للوضع الإجتماعي المتأزم والذي ينذر بتنامي الطلبات الإجتماعية في كل القطاعات والجهات بعد الهدنة الإجتماعية التي فرضتها الكورونا واستقالة الحكومة، والإعداد لإقلاع الإقتصاد الوطني وإرجاع الدورة الإقتصادية بعد الركود الطويل لتحريك عجلة النمو و إعادة نسق التشغيل وإصلاح وضع الدينار التونسي. كل هذه التحديات تتطلب حكومة مدعومة حزبيا وبرلمانيا ولها قيادة قوية بخبرتها وبمعرفتها بالملفات الحارقة وقدرتها على الحوار وذات علاقات داخلية وخارجية وازنة
*بقلم:لطفي.خ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.