اول الكلام

أحمد نظيف يكتب عن الذباب الازرق،تاريخ موجز لماكينة الكذب الاخواني

 

صوامع الحبوب والغلال في مرفأ بيروت شيدها العثمانيون، ولذلك صمدت”، هذه المعلومة العرضية والهامشية أمام هول الكارثة، نشرت على تويتر، وناشرها أحد عصارة الفكر الإخوانجي المعاصر، وطليعته المثقفة أحمد منصور، المؤذن السابق والصحفي الاستقصائي حالياً. معلومة منصور التافهة لم تصمد طويلاً أمام تدقيق المدققين، وبفضل كبسة زر واحدة على غوغل، تبين أن الإنجاز العثماني الوحيد في لبنان هي الاعدامات التي نفذها جمال باشا السفاح ضد حفنة من مناضلي “الإحياء العربي” في ساحة البرج في بيروت.
لكن تخيلوا معي ماذا كان يحدث قبل هذه الثورة التكنلوجية؟ قبل ظهور الإنترنت، كان أنصار الإسلام السياسي يعيشون في خلايا ضيقة، تسمى وفقاً للتراتبية التنظيمية “أسرة” وفيها يتلقون نتفاً من القرآن والأحاديث، بحسب ما يتناسب مع مشروعهم التمكيني، وينهلون من علم المشرف على الأسرة، والذي لا تتعدى ثقافته ثقافة أحمد منصور. عقول فارغة يتم ملؤها بشتى الخرافات والأكاذيب التاريخية ثم ترفع على ظهور أصحابها، كما ترفع القرب على ظهور الدواب. ومشرفو الأسر ليسوا جهالاً تماماً، على عكس الأتباع، لكنهم خبثاء بشدة، كخبث وُضاع الحديث في القرون الأولى. ينتقون بشدة الأكاذيب ويضعون لها إطاراً تاريخياً وسياقاً واضحاً كي تأخذ مكانها في عقول هؤلاء المساكين.

المقال منشور على صفحة احمد نظيف على الفيسبوك

ونظيف صحافي تونسي مهتم بالجماعات الدينية والاقليات، وهو كاتب ومخرج
في العام 1973، وضع الشيخ محمد الغزالي، أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين كتاباً لتصفية حساب الجماعة مع الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، سماه “قذائف الحق”، تراوح بين السب والقذف والتزوير، لعبد الناصر ونظامه ولم ينسى في طريقه التعريض باليسار والقوميين والبابا شنوده والاقباط. لكن اللافت في الكتاب وثيقة نشرها الغزالي، مشيراً إلى أنها تقرير سري يتضمن خطة الدولة المصرية للقضاء على الإخوان والحرب على الإسلام. يروي الإخواني، هيثم أبوزيد، قصة هذه الوثيقة قائلاً: “كان مما ورد في مقترحات الوثيقة، محو فكرة ارتباط الإسلام بالسياسة، والإبادة المادية والمعنوية لمعتنقي هذه الفكرة، وإبراز مفاسد الخلافة العثمانية، والتحري عن كتب ونشرات الإخوان في كل مكان ومصادرتها وإعدامها، وتحريم قبول الإخوان وأقاربهم حتى الدرجة الثالثة في السلك العسكري أو البوليسي، أو السياسي، وسرعة عزل الموجودين منهم فيهذه الأماكن، والعمل على إفقاد أعضاء التنظيم ثقتهم في زملائهم بإجبار بعضهم على كتابة تقارير عن الآخرين، ومواجهة كل طرف بما كتبه الآخر.
كما جاء في الوثيقة ضرورة التضييق على المتدينين في المجالات العلمية، وعدم إظهار تفوقهم، وعزلهم عن أي عمل جماهيري أوشعبي، وتشويش الفكرة الشائعة عن الإخوان في حرب فلسطين، وإبراز مسألة اتصال الهضيبي بالإنجليز، وإدخال الإخوان المنتمين للتنظيم في متاعب تبدأ بمصادرةأموالهم، واعتقالهم، مع استعمال أشد أنواع الإهانة والتعذيب، وتنتهي بإعدام كل منيبرز بينهم كداعية، أو يظهر أي صلابة داخل السجون.وقد وقع على الوثيقة، بعد عشرة اجتماعات كل من رئيس مجلس الوزراء، وقائد المخابرات، ورئيس المباحث الجنائية والعسكرية، ومدير المباحث العامة، والسيد شمس بدران، ثم وقع عليها بالاعتماد والموافقة الرئيس جمال عبد الناصر. وتركت هذه الخطة الإجرامية أثرها في نفسي، فهي تؤكد مدى وحشية وإرهاب النظام الناصري، وعدائه للدين وللمتدينين، ولكن لم يأتمنتصف عام 2005 إلا وأنا مستقيل من جماعة الإخوان، كي أنضم لحزب الوسط، باعتباره ممثلا للمشروع الحضاري الإسلامي، وللفكر الوسطي المستنير، كما كنت أعتقد وقتها.
ويبدو أن أبو العلا ماضي، وكيل مؤسسي الحزب، وزميله عصام سلطان، ظنا في خيرا، فعرضوا على الهيئة العليا للحزب أن أكون من بين أعضائها فوافقت الهيئة بالإجماع، ثم لم تمر أشهر حتىطلب مني أبو العلا أن أنتقل إلى القاهرة، لأكون المدير التنفيذي للحزب، وأساهم في عملية تأسيسه وبنائه متفرغا تفرغا كاملا بأجر. وفي ذات نهار من شهر يونيو 2008، كنت جالسا على مكتبي بمقر حزب الوسط بشارع قصر العيني، بينما أغلق أبو العلا ماضي باب مكتبه عليه وقد استقبل ضيفا لا أعرفه، وطالت الزيارة، ثم خرج الضيف، وودعه أبو العلا عندالباب، ثم عاد سريعا وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة كبيرة، وأشار إليّ بيده قائلا: تعال بسرعة.. ذهبت إليه، وأغلق الباب، ثم خاطبني قائلا: “قنبلة” .. قلت ما الخبر؟ .. قال: أتعلم من كان يزورني؟ إنه المهندس مراد جميل الزيات، من قيادات نقابة المهندسين، وأحد الإخوان المتفتحين، وله انتقادات على أداء قيادات الإخوان، وكان مسجونا في عهد عبد الناصر، وخرج ضمن من خرج في السبعينات. لم يمهلني ماضي لأستفسر عن “القنبلة” فواصل قائلا: لقد أخبرني المهندس مراد بقصة خطيرة، فبعد الإفراج عنه في السبعينات، سافر إلى أوروبا، والتقى القيادي الإخواني يوسف ندا، وظل يحكي له ما عاناه الإخوان في السجون، ثم ذكر لندا ما نشره الشيخ الغزالي في كتاب قذائف الحق عن “الوثيقة” التي أعدتها المخابرات واعتمدها عبد الناصر للقضاء على الإخوان، فإذا بيوسف ندا يضحك حتى استلقى على ظهره، فخاطبه الزيات متعجبا: لم الضحك يا أخ يوسف؟ فأجابه ندا فورا، لأنني أنا من وضع هذه الوثيقة، لتشويه نظام الحكم الناصري.. فتساءل الزيات: لكن هذه فبركة.. فأجابه ندا بثقة: “الحرب خدعة”.
أصابني الذهول، وقد كنت أعلم أن الإخوان يبالغون، وأحيانا يكذبون، لكن لم يخطر ببالي –حينها- أن يصل الأمر للاختلاق الكامل، وتأليف الأوهام والافتراءات، وقد رأيت حينها أن رواية الزيات لا تكفي للاعتماد عليها، فربما كان هناك أي ثغرة أو خطأ في النقل، بل ربما كان يوسف ندا يمزح، حتى ولو كان هذا الاحتمال ضئيلا، لذا قلت لأبو العلا إنه لا داعي لاستخدام هذه القصة، مالم يتوفر لها قدر أكبر من الثبوت، لكن ماضي رأى أن من الضروري فضح الإخوان وإظهار أكاذيبهم. كان كل ذلك في يوم ثلاثاء أو أربعاء، ومر الخميس والجمعة كإجازة اعتدناها في مقر الوسط، ثم جاء يوم السبت، الذي نلتقي فيه أسبوعيا بمحاضرة الدكتور محمد سليم العوا، التي يلقيها في جمعية مصر للثقافة والحوار، بمكتبه القديم، وكعادة دائمة، كانت قيادات حزب الوسط تلتقي بالعوا بعد انصراف الجمهور،وتدور أحاديث، وتنقل معلومات.. وفي هذا اليوم، انصرف الجمهور، بينما وقف العوا للكلام والدردشة مع مجموعة من قيادات الحزب، حيث أراد أبو العلا ماضي أن ينقل له تلك القصة الخطيرة التي سمعها من مراد الزيات عن وثيقة ندا.
كنا خمسة من قيادات الوسط هم المهندس أبو العلا ماضي وكيل المؤسسين، والدكتور صلاح عبدالكريم، أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة، وعضو الهيئة العليا للحزب، والمهندس حسام خلف، عضوالهيئة العليا وزوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوي، والأستاذ محمد الطناوي، مسئول الموقع الإلكتروني للحزب، وكاتب هذه السطور.. خاطب أبو العلا العوا بما سمع من مراد الزيات.. فإذا بالعوا يقاطعه قائلا .. نعم، هذه رواية حقيقية، وأنا أعلم بها من نحو أربعين سنة !!. ثم أردف العوا ببقية المفاجأة، فقال: إن”الوثيقة” الأصلية التي كتبها يوسف ندا، موجودة عنده في مكتبته، وأنه مكث هو والأستاذ حسن العشماوي، ليلة كاملة بمكتب الأخير بالكويت، يجهزون الرد الفقهي والشرعي بالأسانيد على يوسف ندا، والتأكيد على أن الافتراء والفبركة لا تجوز بأي حال. تأكدت القصة إذن، ولم يعد هناك مجال لشك أوتشكيك.. طلب أبوالعلا من العوا أن يعلن هذا الكلام، فهز الرجل أكتافه قائلا:”وأنا مالي.. عاوز تعلن أعلن أنت”.. عدنا إلى بيوتنا ونحن مذهولون، بينما عاد أبو العلا وكل همه أن يخبر مصر كلها بقصة الوثيقة المختلفة.”
وليس بعيداً عن تونس، في العام 2009 قام الشيخ السعودي الإخواني، سلمان العودة، بزيارة إلى تونس بدعوة من بن علي، على هامش الاحتفال بالقيروان عاصمة للثقافة الإسلامية، و في أعقاب الزيارة نشب جدل واسع حول ما كتبه العودة عن انطباعه وعما شاهده في تونس، مقارنة بما كان يتخيله. يكتب العودة متحدثا عن هذه المفارقة:” زرت بلداً إسلامياً، كنت أحمل عنه انطباعاًغير جيد، وسمعت غير مرّة أنه يضطهد الحجاب، ويحاكم صورياً، ويسجن ويقتل، وذاتمؤتمر أهداني أخ كريم كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهد في ذلك البلد العريق فيعروبته وإسلاميته. ولست أجد غرابة في أن شيئاً من هذا القيلحدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة، أو بتصرف شخصي، أو إيعاز أمني، أو ما شابه. بيدأني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما ؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ لست أعني أنني وجدت عالماً من المثل والكمالات والفضائل، وقد لا تخطئ عينك أو أذنك همساً يسأل بتردد وخوف، وكأنه يحاذر عيوناً أن تراه وآذاناً أن تسمعه. بيد أن الصورة كانت مختلفة شيئاً ما، وهذا ما حدا بي إلى أن أقول لجلسائي إن علينا أن نفرّق بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية.” والطريف أن “الأخ الكريم” الذي أشار إليه العودة في مقاله وأهداه “كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهد” في تونس هو الشيخ محمد الهادي الزمزمي، القيادي في حركة النهضة ومؤلف كتاب ” الإسلام الجريح: شهادة صادقة عن مأساة الإسلام في الديار التونسية”، وهو نفسه الذي كشف في مقالةً سابقة له في الغابرات من الأيام، قبل أن تتحول حركته إلى “الإسلام الديمقراطي اللطيف” عن الخطر الكبير الذي تشكله مجلة الأحوال الشخصية ، وضع لها عنوان:”أفحكم الجاهلية يبغــون؟!” اعتراضاً منه على المجلة ، الذي حسب رأيه دفعت النساء التونسيات إلى “مواقعة الفاحشة! والسّقوط في مهاوي الرّذيلة! وملاحقة السّياح الأجانب واللهاث وراءهم ومرادودتهم على الاقتران بهنّ”.
وللنساء جانب كبير من الدعاية الإسلاموية المظللة والخادعة، فقد دأبت جماعة الإخوان المسلمين على”فبركة المظالم” لإنتاج خطاب تحريضي خلال سنوات “المحنة” أوفي “الحروب”. ولعل أشهر “فبركة في تاريخ الدعاية الإخوانية”هي تلك الصرخة التي تطلقها “الحرائر الأسيرات في سجون الطواغيت، عندما تقول مستنهضة ههم الرجال إن لم تستطيعوا تحريرنا فأرسلوا إلينا حبوب منع الحمل” في إشارة لحوادث الإغتصاب التي يتعرضن لها، والحقيقة أنه لا توجد حروب أو معتقلات لم تحدث فيها فواجع التعذيب والإغتصاب ضد المعتقلين والأسرى في كل مكان وزمان وضد الجميع، إخواناً كانوا أو ليسوا إخوان، لكن ما يؤكد أن هذه الصرخات التي يروجها جهاز الدعاية الإسلاموي للتحريض “صرخات مختلقة لم تحدث إلا في أذهان من صنعها” هو تكررها حرفياً في مواقع مختلفة وأزمنة متباعدة، نشر بعضها لتحشيد المقاتلين العرب في حرب أفغانستان (1979 – 1992) وكثير منها في حرب البوسنة وفي حرب أفغانستان الثانية (2001) وخلال غزو العراق وفي الحرب السورية. حتى أن المعتقل السوداني السابق في غواتنامو، وليد محمد حاج، يروي في شهادته (التي سردها في برنامج لأحمد منصور نفسه) عن أسباب إلتحاقه بالجماعات الجهادية أنه خلال إحدى جلسات ترويج “الفبركات الإسلاميوية” أعطيت لهم ورقة كتبت بالعديد من اللغات وهي عبارة عن “رسالة من امرأة شيشانية تقول للأمة الإسلامية نحن لا نريد من الأمة رجالا يدافعون عن حرمات المسلمين ولا نريد مالا للمساعدة ولا نريد سلاحا للدفاع، فقط نطلب منكم أن ترسلوا لنا أقراص حبوب منع الحمل حتى لا نحمل من الروس.” ومن باب أنه “لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم” قرر الحاج التوجه للقتال في الشيشان، ثم عندما لم يستطع، مكث يقاتل في أفغنستان حتى وقع في أيدي الأمريكان، لتذبل زهرة شبابه هباءً في مهاجع الجزيرة الكوبية البائسة ملاحقاً أكذوبة صنعها “إخواني” يحترف التجارة في إحدى عواصم أوروبا الغربية.
لكن هل يمكن أن ندافع عن قضية مهما كانت عدالتها وقدسيتها بالأكاذيب؟ تبدو لي إجابة يوسف ندا لرفيقه الزيات “الحرب خدعة” صادقة إلى أبعد الحدود، فهي جزء من حديث نبوي، يستند ندا في استعماله على تراث ثقيل من التفاسير والشروح التي تجيز “الخداع” للتغلب على “الكفار”، وندا وجماعته يعتقدون أن من سواهم في هذا العالم كفاراً ويجوز خداهم ونسج الأكاذيب حولهم. وإن كان المثقفون – وفقاً للعبارة اللينينة – هم أقدر الناس على الخيانة لأنهم أقدر الناس على تبريرها، فإن الإخوان أقدر الناس على الكذب والتدليس لأنهم أقدر الناس على تبريرهما دينيا، وللدين في النفوس مكانة مقدسة، وكل ما يأتي عبره – حتى إن كان انسانياً- يعتبر صادقاً لا يرقى إليه الشك ويأتيه الباطل أبداً. ولعل إجابة ندا الواضحة والصادقة، بإعتبارها قيلة في مجلس خاص، تبدو كاشفة عن الذهنية الذي يعيش بها الإخوان، أو بالأصح قادة الإخوان، لأن الأتباع لا تفكير مستقل لهم خارج ما يفكر فيه القادة. القادة هم من يصنعون الأكاذيب ويوزعونها ولا يبقى للأتباع إلا الإستهلاك والدفاع الأعمى. إن هذه الجماعة تحولت إلى محرقة كبيرة للشباب والمغرر بهم وللذين يتنازلون عن استعمال عقولهم لفائد الأخرين. تقول لي “إن كل الساسة يكذبون” أقول لك نعم، أغلبهم يستعملون الكذب، لكن هؤلاء يستعلمون المشترك الروحي لتمرير أكاذيبهم يستغلون العواطف القابعة في قاع النفوس لحشد الناس كالخراف نحو المسالخ ثم يمرون فوق الجثث إلى الكراسي، هؤلاء يرفعون المصاحف على أسنة الأكاذيب، هؤلاء يحترفون التزويرعملاً والكذب ديناً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.