في العالم

كيف يوزع اتفاق الطائف السلطة في لبنان بناءً على الأديان، وهل أدى هدفه أو زاد لبنان انقساماً؟

في مدينة الطائف بالسعودية عام 1990، اجتمع رؤساء الأحزاب والقادة اللبنانيون بعد 15 سنة من الاقتتال والحرب الأهلية التي شهدت اشتباكات بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد والتوقيع على ما سُمي “اتفاق الطائف“.

كانت المبادرة سعودية بمباركة أمريكية ودعوة من رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، فهل كان اتفاق الطائف نعمة أم نقمة على اللبنانيين بعد 30 عاماً على توقيعه؟

فلنعد إلى تاريخ لبنان وكيف تأسس، وما الذي دفع بطوائفه إلى الاختلاف حتى التقاتل.

نظام الإقطاعية

تعود نشأة لبنان إلى القرن السادس عشر، حينها كان يُسمى “إمارة جبل لبنان”. تمتعت هذه الإمارة بحكم ذاتي في عهد الدولة العثمانية.

إلا أنَّ جبل لبنان كان منقسماً وفق “نظام الملل”، بين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين يمارسون دينهم وأعمالهم بِحرية لقاء جزية.

ولأن جبل لبنان كان ذا أغلبية مسيحية مارونية، معظمهم من الفلاحين والحرفيين والتجار وتحكمه الإقطاعية، شكَّل الأمر سبباً لنزاعات دائمة بين طائفة الدروز “الإقطاعية” التي كانت تحكمها عقلية قبلية وعشائرية.

بل شهدت الإمارة منافسة شديدة بين الأسر الإقطاعية نفسها من أجل نيل رضى الباب العالي في إسطنبول.

كان النظام الإقطاعي جائراً بحق الفلاحين وأشعل مواجهة شعبية مع الأمير الشهابي بشير الثاني الذي حكم من عام 1788 حتى 1840. سمحت هذه البلبلات بتدخل القوى الأوروبية في المشرق تحت عنوان “نشر السلام في الشرق”، وعندها زاد التدخل الفرنسي والبريطاني في المنطقة.

نظام القائمقامية

بعد ذلك اقترح المستشار النمساوي، فنزل مترنيخ، تقسيم جبل لبنان لتصبح هناك منطقتان إداريتان: الأولى تخضع لحاكم درزي والأخرى يحكمها مسيحي، وبذلك بدأ أول حكم طائفي، فتحولت الأكثرية إلى أقلية.

دفع هذا التقسيم القبائل الدرزية إلى الاقتتال مع المسيحيين، ثم أرسل الباب العالي شكيب أفندي؛ لفرض نظام طائفي عبر إنشاء مجلس مكون من 12 عضواً؛ لمساعدة كل قائمقام.

شمل المجلس أعضاء من الطوائف الموجودة من موارنة ودروز وروم أرثوذوكس وروم كاثوليك وسُنة وشيعة.

أثمر هذا النظام تمرداً وثورة للفلاحين ذهب ضحيتها 200 شخص، وعاش جبل لبنان حرباً أهلية من عام 1841 حتى عام 1861، أي على مدى 20 عاماً، فازداد الانقسام شرخاً.

نظام المتصرفية

كانت النتيجة إنهاء هذا النظام وإقرار نظام المتصرفية الذي فرضته الدولة العثمانية بإدارة حاكم عثماني مسيحي غير لبناني وغير تركي.

ضمِن هذا النظام حكماً ذاتياً للبنان بضمان دول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا والنمسا.

لهذا المتصرف مجلس إدارة يتكون من 12 استشارياً يُنتخبون على مرحلتين: الأولى من قِبل أهالي القرى والبلدات فينتخبون “شيوخاً شباباً”؛ والثانية عندما يجتمع هؤلاء الشيوخ لكل دائرة انتخابية فينتخبون 12 عضواً لمجلس الإدارة.

كان أساس هذا النظام المساواة بين المسيحيين والمسلمين، ثم تم تعديله ليضم 7 مقاعد للمسيحيين و5 للمسلمين.

صبَّ هذا النظام في مصلحة المسيحيين الموارنة، والذي وإن فرض حالة من الاستقرار، فإنه عزز انقساماً ثقافياً بين ارتباط جبل لبنان اقتصادياً مع الشام، لكونه يتبع والي دمشق من جهة، ومن جهة أخرى، حصلت طفرة ثقافية وقفزة غربية فهاجر عديد من اللبنانيين إلى فرنسا.

انتهى عهد المتصرفية عام 1918، بعد أن هُزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ليبدأ الانتداب الفرنسي، معلناً دولة لبنان الكبير.

الجمهورية اللبنانية الأولى

في 23 ماي عام 1926 تحديداً، كان إعلان الجمهورية اللبنانية بمجلسي نواب ووزراء وفق دستور يعزز التقسيمات الطائفية استكمالاً لإرث القرن الماضي الثقيل.

صراع الهوية تمثَّل جلياً في “وثيقة الاتفاق الوطني” التي خرجت شفوياً عام 1943 بين رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، بعد إعلان انتهاء الانتداب الفرنسي.

من خلالها تم تأكيد أن يتخلى المسلمون عن حلم الدولة العربية، بينما يقبل المسيحيون الانفصال عن فرنسا، لكن الثمن هو احتكار المسيحيين ثلاثة مناصب: رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، والبنك المركزي اللبناني.

في عام 1948، وبعدما تم احتلال فلسطين هاجر إلى لبنان ما يقارب من 150 ألف لاجئ فلسطيني بينما كان عدد اللبنايين يتخطى المليون نسمة؛ أدى هذا التحول الديمغرافي إلى فرض معطيات جديدة، مُعرِّضاً الاستقرار لتحدٍّ جديد.

بعد أحداث “أيلول الأسود” في الأردن عام 1970 وطرد المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان، انقسم اللبنانيون بين يسار متحالف مع المقاومة الفلسطينية، ويمين مسيحي رافض للوجود الفلسطيني على أرض لبنان.

ازداد التوتر والشجن السياسي إلى أن اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، وشهد لبنان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث دخلت إسرائيل من الجنوب وصولاً إلى بيروت، قبل أن تتراجع وتستقر في الجنوب بعد عامين.

كانت فاتورة هذه الحرب ثقيلة على اللبنانيين مادياً واقتصادياً، أما خسائر الأرواح فتخطت 120 ألف نسمة، مع وجود آلاف المفقودين حتى الساعة.

استمر القتال 15 عاماً، ليشكل حقبة سوداء في تاريخ اللبنانيين، من ضحايا وتهجير ونزوح جماعي وحواجز ميليشيات كانت مهمتها قتل العابرين وفقاً لهويتهم وطائفتهم.

اتفاق الطائف

في عام 1989، صدرت الدعوة السعودية إلى “اتفاق الطائف” الذي عزز هذا الانقسام الطائفي بين زعماء الحرب في لبنان. حضره ممثلون عن الموارنة والسُّنة والشيعة والدروز، بينما تم برعاية كل من السعودية وأمريكا وسوريا وفرنسا.

في هذا الاتفاق الجديد، تقلصت صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح منصب رئيس الوزراء، بقيت رئاسة الجمهورية للمسيحيين ورئاسة الوزراء للسُّنة ورئاسة النواب للشيعة، بالإضافة إلى حل كل الميليشيات العسكرية ما عدا حزب الله، وإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان.

وكان من ضمن البنود الأخرى التمثيل المتساوي في البرلمان بين المسيحيين والمسلمين، وفجأة تحوَّل الموارنة إلى مجرد طائفة من ضمن 7 طوائف مسيحية أخرى، لكن لها الأغلبية في البرلمان بـ34 نائباً من أصل 64 مقعداً للمسيحيين، بينما تقاسم السُّنة والشيعة والدروز والعلويون المقاعد الـ64 مقعداً الأخرى، ضمِن للسُّنة والشيعة الحصول على 27 مقعداً لكل من الطائفتين.

كما تطرق الاتفاق إلى حق لبنان في تحرير جميع أراضيه، مع تأكيد العلاقات الأخوية المشتركة مع سوريا، وعدم السماح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة تهدد أمن الدولتين.

اغتيال الحريري يعيد تشكيل التحالفات

شهد “اتفاق الطائف” نهاية الحرب الأهلية، وبعد 3 أعوام، تسلَّم رجل السعودية وراعي “اتفاق الطائف” اللبناني رئيس مجلس الوزراء الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة.

لعِب دوراً كبيراً في إعادة إعمار لبنان واستقرار العملة اللبنانية إلى أن تم اغتياله بقنبلة تزن 1800 طن في 14فيفري عام 2005.

مر لبنان بعد اغتيال الحريري بحقبة أمنية وسياسية مضطربة شهدت ما يسمى “ثورة الأَرز”، حيث طالب قسم كبير من اللبنانيين بخروج القوات السورية من لبنان، موجهين أصابع الاتهام إلى سوريا بالضلوع في اغتياله (تيار المستقبل التابع للحريري، القوات اللبنانية المسيحية، الحزب الاشتراكي للدروز). أما على الجهة المقابلة فكان جماعة حزب الله وحركة أمل الشيعيتان متحالفتين مع حزب التيار الوطني الحر، الذي كان يتزعمه آنذاك رسمياً العماد ميشال عون.

استمرت المناكفات السياسية بين الفريقين تحت عنوان “8 آذار” و”14 آذار”، وهما يرمزان إلى يومي المظاهرات التي تجمع في كل منها مؤيدو التحالفات الجديدة في مظاهرات حاشدة ببيروت، الأمر الذي خلق توازناً طائفياً إلى حد كبير، منع اندلاع اشتباكات بين الفريقين، وبدأت مرحلة التخطيط للمنافسة على الحياة السياسية الجديدة مع ظهور سعد الدين الحريري كوريث سياسي لوالده.

تطورات العامين 2006 و2008

في 6 فيفري من العام 2006، وقّع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ورئيس التيار الوطني الحر (آنذاك) العماد ميشال عون، التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني، ليشكل أساس التوافق الذي سيدعم باتجاه انتخاب عون رئيساً للجمهورية اللبنانية مقابل حماية مصالح حزب الله.

وكان عون عاد من منفاه بفرنسا في 7 ماي عام 2005، ليخوض الانتخابات النيابية صيف ذلك العام.

وفي جويلية منذ ذلك العام، شهد لبنان حرباً شنتها إسرائيل على لبنان ضد حزب الله، راح ضحيتها الآلاف إلى جانب تدمير عديد من البنى التحتية والجسور وشركات الكهرباء لمدة شهر، وذلك بعدما أسر حزب الله جنوداً إسرائيليين على الحدود.

عون وحزب الله مقابل الحريري وبقية المسيحيين

ثم في 30 أكتوبر 2006، نفذ تحالف المعارضة من حزب الله وحركة أمل والتيار الحر وتيار المردة حركة احتجاجية تجسدت باعتصام شهد نصب أكثر من 600 خيمة حول مقر رئاسة الحكومة (يترأسها فؤاد السنيورة). بقيت الاحتجاجات قائمة حتى 21 ماي عام 2008 مع نجاح اتفاق الدوحة.

نص الاتفاق على انتخاب عون رئيساً للجمهورية وإقرار قانون انتخابي جديد يقسم بيروت إلى 3 دوائر انتخابية بعدما كانت دائرة واحدة، وأخيراً تأليف حكومة جديدة تتكون من: 16 وزيراً للموالاة، 11 وزيراً للمعارضة، و3 وزراء لرئيس الجمهورية.

لكن هذا الاتفاق لم يتم إلا بعد تصعيد أمني على الأرض بما يُعرف بأحداث “7 أيار” في بيروت وبعض مناطق جبل لبنان بين الفريقين.

تعد هذه الأحداث هي الأخطر منذ انتهاء الحرب الأهلية، وكانت إثر صدور قرارين من مجلس الوزراء اللبناني بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، وهو الأمر الذي اعتبرته المعارضة تجاوزاً للبيان الوزاري الذي يدعم المقاومة.

في 27 جوان 2009، كلف الرئيس ميشال سليمان، سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة الأولى له.

صراع مسيحي والفراغ الرئاسي الأطول في التاريخ

وعند انتهاء ولاية سليمان كرئيس للجمهورية عام 2014، اتسعت حدة الخلافات بين الفرقاء اللبنانية، ليسجل لبنان فراغاً رئاسياً هو الأطول في تاريخ دول العالم، حيث استمر عامين ونصف حتى 2016، عندما انتُخب ميشال عون بعدما وافق حزب القوات اللبنانية ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري على دعمهما لعون بعد التوصل إلى اتفاق سمي “اتفاق معراب“.

تضمن هذا الاتفاق توزيع المقاعد المسيحية بين المنافسين و”احترام الطائفة السنية لدى اختيار رئيس الحكومة تبعاً لقاعدة تمثيل الأقوياء لطائفتهم” إلى جانب بنود أخرى تم تسريبها لاحقاً.

مَطالب بإسقاط الطائفية السياسية

ويبدو أن جميع الاتفاقات السياسية والمواثيق والمعاهدات كانت تعزز الانقسامات الطائفية، فيتمسك كل طرف بحصته في مراكز الدولة العليا وحتى داخل الوزارات نفسها والقيادات الأمنية والعسكرية.

أما احتجاجات 17 أكتوبر 2019، فطالبت عند اندلاعها بضرورة سقوط هذه المنظومة السياسية والبحث عن بديل سياسي آخر، وما زالت فصول السياسة اللبنانية تتوالى، وآخرها انفجار بيروت الكارثي.

المصدر:عربي بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.