ثقافة وفنون

الدورة 54 لمهرجان قرطاج الدولي مسرحية “الشقف” لسيرين قنون ومجدي بومطر: الشقف للعبور من الجحيم إلى النعيم

عندما تتمرد الذات البشرية على مصيرها الدنيوي المحتوم طمعا وظنا منها في عيش أقدار مريحة في ضفة أخرى من الحياة المرسومة في مخيالها الذهني هروبا من وجع الواقع المعيش فتمتطي قاربا صغيرا تحسبه جسرها من الجحيم إلى النعيم لكنه في الحقيقة مجرد “شقف” حيث الفصل بين حدود الحياة والموت، تلك هي ملامح الفكرة الدراماتورجية التي دارت في ذهن المسرحي الراحل الكبير عز الدين قنون قبل وفاته لتنفذها ابنته سيرين قنون رفقة مجدي بومطر في عمل مسرحي بعنوان “الشقف” تم عرضه يوم السبت 28 جويلية بفضاء مدار قرطاج في إطار فعاليات الدورة 54 لمهرجان قرطاج الدولي وتكريما لروح فقيدة المسرح رجاء عمار.

تناقضات الإنسان وصراعاته مع ذاته ومع واقعه تكشفها في هذا العمل المسرحي وضعية التجربة، و”الشقف” هو محك هذه التجربة المحملة بالتحديات والصعوبات والآلام لتعري مواقع القوة والضعف في كل شخصية اختارت ركوب هذا القارب، ولئن اختلفت الدوافع والرهانات في اختيار “قارب النجاة الوهمي” لدى كل شخصية إلا أنها تشترك في الخوف العميق من الموت من خلال خطابها المباشر وحضورها المادي والروحي على الركح.

التجليات النفسية لهذه الشخصيات المنتمية لجنسيات مختلفة، في اعترافاتها وانفعالاتها وتفاعلاتها مع بعضها في سياق زمني طويل وقاس وإطار مكاني عديم الأمان، شكلت طرحا عميقا لقضايا إنسانية حارقة عبر رحلة الهجرة غير الشرعية التي تعد في حد ذاتها جوهر القضايا المطروحة في ترتيب سلم تداعيات ومخلفات الحروب وكبح الحريات الفردية والبطالة وغيرها من العراقيل الواقعية المنتشرة في المجتمعات العربية والإفريقية.

فالحركية الحسية والتفاعلية بين شخصيات المسرحية المتأرجحة بين التواصل والتوتر، كانت تحاكي حركة البحر فهي تبدو في صراع وعلى اختلاف عندما يكون البحر هادئًا والمركب آمنًا، لكنها تصبحُ فجأة متضامنة في ما بينها ويلفّها التآزر والاتحاد عندما يكون البحر متموّجا والمركب متمايلا، هذه الحركية المزدوجة والمتوازية ربما كان مقصدها رسالة مفادها أن الخلاص من الكارثة لا يكون إلاّ جماعيا وليس فرديّا بما أن الجميع على متن مركب واحد.

مآسي هذه الشخصيات بكل تفاصيلها وباختلاف أحزانها من لوعة أم تبحث عن إبنها وشباب عاش الضياع وفقد الإحساس وآخرين شهدوا قسوة الحرب الأهلية والفقر والجوع، وتلك التي تبحث عن ضالتها وحريتها في فن الرقص الذي رفضه مجتمعها وأهلها…أسباب مختلفة تصب في أوجاع نفسية مرهقة تقتل حب الحياة لدى كل شخص بشكل بطيء ومؤلم.

فرحلة الموت لمجموعة من بني آدم من ذوي جنسيات مختلفة تونسية وعربية وإفريقية تعددت أسبابها ولكن المبتغى من المراهنة على ركوبها واحد هو الهروب من واقع مرير والابحار في عالم بديل، ولكن في النهاية خابت الآمال وبلغت القلوب الحناجر، ولم يغنهم صياحهم من الموت شيئا، غلبتهم أمواج البحر فمنهم من غرقت أرواحهم في ملكوت بارئها ومنهم من سقط في قبضة الحرس البحري.

ورغم اختلاف الجنسيات والبلدان، تبقى القضية الأم في هذا العمل هي الانتصار للحريات ولثقافة الحياة ضد الطغيان وثقافة الموت، إنه انتصار للذات البشريّة.

“الشقف” ومن على متنه يحملون دلالات رمزية عديدة يمكن تطويع قراءتها في كل مرحلة من مراحل العرض، فهو تونس اليوم بمتغيراتها المجتمعية واختلاف اتجاهاتها الفكرية والايديولوجية، وهو الوطن العربي المتخبط في صراعات داخليّة وتسوده الفرقة والحروب. “الشقف” باختصار هو الحياة الدنيا تسير بمختلف مفارقاتها في توزيع الحظوظ والخيبات ويعيش فيها الإنسان وهو يجهل خفايا أقدارها.

وقد أدّى أدوار هذا العمل الذي استغرق 75 دقيقة، كلّ من الممثلين عبد المنعم شويات وريم الحمروني والبحري الرحالي وأسامة كوشكار من تونس والسورية ندى الحمصي واللبنانية صوفيا موسى والإفريقيين “غي أونصونوصي” ومريم دارا”.
*سهيلة العيفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.