اول الكلام .. العنف

استمعت إلى سيدة تتحدث إلى إحدى الإذاعات (قلت إحدى الإذاعات ليس تجنبا “للإشهار المجاني” لهذه الإذاعة ولكني عدلت موجتها دونما اهتمام) عن حالة اعتداء تعرض إليها والداها: طرق على الباب، والدها المسن يسأل عن الطارق، يجيبه بسؤاله عن شخص ما، يرد الأب “ما عنا حد باسم هذا” يزداد الطرق حدة، يفتح الأب الباب الداخلي لمنزله للتثبت، يفاجأ بعدد من الشبان (نسيت عددهم ) وقد تسلقوا جدران المنزل وانهالو عليه وعلى زوجته ضربا، ثم قاما بتقييدهما، واستنطاقهما عن مكان المجوهرات و”الفلوس”، تمت عملية السرقة وغادروا المنزل والرجل المسن وزوجته في حالة حرجة

لا أريد أن أستعيد ما حدث لسيدة القيروان التي تعرضت إلى الاعتداء والاغتصاب حتى الموت، ولا أملك الشجاعة حتى لاستحضار صورتها التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، كما أرتبك كثيرا وأنا أتذكر اغتصاب طفلة كان تسير وحيدة في الشارع منذ أسابيع قليلة، كيف صار حال الطفلة بعد ما حدث لها؟ لا أحد يدري، لا أحد يتذكر، وحدها ستواجه ندوبها وجراحاتها التي ستتورم يوما بعد آخر، فنحن نعيش في مجتمع عنيف لا يستطيع أن يبرأ من طاقته السلبية، ومن إحباطاته ربما، ومن كل ما يمكن أن يجعله في مرتبة الإنسان، فيصير وحشا لا يمنعه شيء عن ارتكاب أي جرم

احتل العنف مساحات حياتنا، عنف مادي ومعنوي يسلط علينا من كل الاتجاهات ومن الجميع، علاقات باردة في العمل وفي الحياة، غدر، خيانة، انتهازية، أنانية، تسلط، اغتصاب، سرقة، اعتداء بالضرب، سيناريوهات مرعبة لعمليات قتل يومية تحدث داخل العائلة وبين الجيران وفي هذا المجتمع العنيف

ما الذي يمكن أن يبعث الأمل في هذا العالم الذي ضل طريقه إلى العدالة؟؟

كم أحب أن أكتب شيئا مبهجا، يبعث التفاؤل في من يقرؤني، أحدثه مثلا عن قصة حب جميلة تنتهي بزواج سعيد، أو عن بستان تتفتح فيه أجمل الزهور وأكثرها ندرة، عن شمس دافئة تتسلل بين الغيوم، عن قوس قزح الذي يحبه  ابني، عن رائحة جدتي رحمها الله، ولكن الورود تتفتح بلا رائحة، وقوس قزح لا يراه طفلي سوى في الصور، والبرد شديد لم تستطع الشمس أن تبث فيه دفئها، أما جدتي فلم يبق من حكاياتها سوى ما يتساقط من الذاكرة

أراد ابني أن يذهب إلى حديقة الحيوانات، لبيت له رغبته غير المكلفة وتوجهنا إلى الحديقة، وابني على صغر سنه قوي الشخصية، منذ دخولنا أراد أن يشاهد “النمر”، انزعج من رؤيته نائما وظل أمام القفص نصف ساعة كاملة وهو يقول “مسكين مريض هو” وأنا أحاول عاجزة إقناعه بأنه نائم، وعرضت عليه مشاهدة حيوانات أخرى جميلة ورقيقة فعرض طلبه “التعجيزي” الثاني “نحب نشوف الفيل” ورفض رفضا قاطعا واقع أنه لا وجود لفيل في الحديقة، عندما شاهد وحيد القرن اختلط عليه الأمر اعتقد أنه فيل استمرت نقاشاتنا وقتا طويلا أنا أقول هذا وحيد القرن وهو يقول لا هو فيل حتى تدخل رجل _لا أعرفه_ وقال “يا مدام قلو فيل ورتح مخك أنا تعبت في بلاصتك”، أجبته “ما نحبش نكذب عليه”

عدى الحيوانات التي تقاوم جوعها بالنوم كامل اليوم، شاهدت الكثير من التونسيين وظلت في ذهني صورة سيدة ترافق ابنتيها التوأم، سيدة جميلة تمسك بيدي طفلتيها الصغيرتين وزوجها الشاب يسير وراءهن من بعيد، يبدو عليه الانزعاج من هذه “الجولة” التي حرمته من “نومة” أو “قهوة مع الأصدقاء”… إحدى الفتاتين مشاكسة أزعجت والدها بما يكفي فانهال عليها ضربا، غادرت الحديقة وفي البال صورة السيدة متألمة لبكاء ابنتها، متحرجة من نظرات العابرين وصورة الزوج الشاب الذي قام بتفريغ غضبه في ابنته الصغيرة… ومن هنا يبدأ العنف