رحلة في الميترو الخفيف
عندما تتحدث بتعاطف عن المنسيين في البلد، يقفز من لا يعجبه العجب ليسائلك قائلا “ياخي منين تعرفهم انت الناس اللي تعاني؟ تسكنوا معاهم؟ تعرفوهم آش ياكلو وكيفاش يجريو الصباح في الفجاري باش يخلطوا على الكار الصفراء” وغيره من الكلام الذي يجعلك تشعر أنك تنتمي إلى كوكب آخر لا يحق لك الحديث عمن خارجه… هم الأوصياء حتى على من يضعون أمامهم ألف لقب: الزواولة، الطبقة الشعبية، الفقراء، المساكين على الرغم من أن المساكين ليسوا دائما من الفقراء، والفقراء أيضا ليسوا مساكين دائما!!
بعضنا ينتمي بقلبه إلى الطبقة الشعبية المطحونة… وأغلبنا يعرف جيدا الحاجة والفقر والكار الصفراء باكتظاظها وتأخيرها الأبدي ورائحة العرق الكريهة المنبعثة صيفا وشتاء… وبعضنا أيضا مازال يتكبد عناء الصبر على وسائل النقل العمومي بكل ما يجري فيه من تحرش ومشاحنات وبراكاجات واكتظاظ كثيرا ما يمنع على سائق الحافلة أو المترو غلق الأبواب
يوم أمس وجدتني في “برشلونة”… منذ سنوات لم أذهب إلى هناك، لا أعرف السبب الذي دفعني إلى الذهاب إلى هناك، بل أعرف: إنها الرغبة في كتابة شيء ما… وهذا المكان مغر بالكتابة لأنه مزدحم بتونس في وجهها الآخر… فوضى الحافلات والميتروات… وسيارات الأجرة المرابطة أمام محطة القطارات تنتظر حريفا يتجه إلى إحدى الضواحي أما المسافات القصيرة فهي خارج الجغرافيا بالنسبة إليهم… “فريب” و”نصابة” ورائحة “المرقاز” و”برويطة العظم المروب” وتدافع في الصفوف أمام شبابيك التذاكر… قررت امتطاء الميترو الخفيف الثقيل بمعاناة “حرفائه”. جاء الأول فازدحم بالركاب، انتظرت الثاني فجاء بعد ربع ساعة، وفي الأثناء تقدم شاب نحو فتاة جميلة ترافق سيدة في الأربعين يتقرب منها متعللا ببيع شيء ما! فهمت الفتاة الجميلة أنه بصدد معاكستها فردت بابتسامة وقلبها يقول “لا مانع”، صافح الشاب بلياقة مصطنعة السيدة الأربعينية التي ترافق الفتاة الجميلة وهو يقول “ربي يفضلك بنتك”، شعرت السيدة بالحرج، يبدو أنها ليست والدتها وأنها لم تتزوج بعد… فعندما تتزوج المرأة لا تجد حرجا في التصريح بعمرها… لكن متى كانت عزباء أو مطلقة تخشى الزمن ويذكرها العمر بأن محطة الانتظار قد طالت أكثر مما ينبغي، ردت السيدة الأربعينية بعد تردد وارتباك “بنتي إيه عبارة على بنتي”
تركت الحكاية في منتصفها ولحقت بالميترو القادم على مهل… ازدحام شديد، حاولت العثور على مكان أقف فيه وأخفيت هاتفي بحذر فقد تعلمنا من التجربة أن كل ما تملكه مفقود في وسائل النقل العمومي…
بين الاكتظاظ والروائح الكريهة وجدتني أسرع في النزول في محطة الحبيب ثامر وتركت خلفي أصواتا كثيرة بعضها مسموع من الجميع والبعض الآخر مسموع من أصحابها فقط… أصوات ما عادت لها طاقة على احتمال ظروف التنقل في وسائل النقل العمومي ولكنها صابرة حتى وإن فقدت أملها في أن يتحسن يوما ما!
كوثر النوري