الاستثناء التونسي والأسئلة «المدنية»
القدس العربي
تثير التطورات الاجتماعية والسياسية في تونس، وخاصة توصيات «لجنة الحريات المدنية والمساواة» فيما يتعلق بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، ومشاركة المرأة في «الولاية» على الأسرة، عديداً من الأسئلة حول ما يراه كثيرون «استثناء تونسياً» على الصعيد العربي. فاللجنة شكلها الباجي قائد السبسي، الرئيس العربي المنتخب الوحيد، حتى لو تم اعتباره وجهاً من «وجوه النظام القديم»ـ والجدل الاجتماعي التي أثارته يتم في ظل نظام سياسي تعددي، يتميز بتنوع الجهات الفاعلة، والتركيز على «مدنية الدولة»، واعتبار الدستور المرجعية الأعلى على الصعيد الوطني، بما يتجاوز أي مرجعية أخرى قد يراها البعض عابرة للدول والتواضعات الاجتماعية. فلأي درجة يمكننا الحديث فعلاً عن «الاستثناء التونسي»؟
يمكن القول أن مشروع الدولة العربية الحديثة، الذي نشأ فيما يسمى «عصر النهضة» أواخر العهد العثماني، انبنى أساساً على ركيزتين أساسيتين: الجيش والدين. أي أن مشروع «التحديث» ارتبط أولاً بضرورات إنشاء جيش قوي يحقق الطموحات الإقليمية، أو حتى الإمبراطورية، للحكام المحليين. مع توجيه كل المشاريع الصناعية والزراعية والاجتماعية لخدمة هذا الهدف. واتسم ثانياً بسيطرة الدولة على الحياة الدينية، واعتبار الدين عنصراً سياسياً لتحديد توجه السلطات وعقائدها الاجتماعية والحربية وفلسفتها القانونية. نحن لا نتحدث هنا عن تحويل الدين إلى «هوية وطنية» فحسب، بل عن دول لها دين معين كما تعلن في دساتيرها. مع ملاحظة عنصر الغرابة في هذه الصيغة: هنالك دول يُفترض أنها ليست دولاً ثيوقراطية، ولا يتمتع حكامها بمنزلة دينية، لها رغم ذلك «دين» مثل الأفراد والجماعات. الثيوقراطيون كما هو معروف يجمعون السلطة الدينية والزمنية في شخوصهم أساساً (الملوك والباباوات والملالي و«مرشدو الثورات» مثلاً)، أما وجود أجهزة دولة، أي مؤسسات مادية، تملك ضميراً شخصياً يخولها أن تصبح متدينة، فهذا من العجائب الدستورية الحديثة.
جمعت السلطات العربية في كل الأحوال بين ثنائية الجيش والدين، بالإضافة لتجسد هذه الثنائية كثيراً في ثنائية أخرى هي عسكر/إسلاميون. فالعسكر يحكمون بشرع القوة وبالاعتماد على توازانات مجتمعية غير مستقرة، مع توزيع ما تيسر من الريع على الجماعات الأهلية المتعددة وفقاً للولاء والظروف العامة، ويتنافسون دوماً مع الجماعات الإسلامية على الأحقية بادعاء الشرعية الدينية في أجهزة الدولة. أنتج هذا التنافس ظاهرتين: الأولى هي الأسلمة المتزايدة للدولة والمجتمع ومظاهر الحياة العامة، والثانية هي الاستخدام المتزايد للإسلاميين من قبل العسكر، إما لإسباغ الشرعية على وصولهم للسلطة، كما في الحالة السودانية، أو لضبط الحياة السياسية والحراك الاجتماعي، كما في فترة حكم «الرئيس المؤمن» في مصر، أو للتخفيف من حدة العواقب الكارثية للصراع الأهلي، كما في حالة تواطؤ نظام الأسد مع المنظومة المشيخية المدينية في سوريا. فضلاً عن التواطؤ العام في مرحلة الحرب الباردة بين العسكر والإسلاميين و«العالم الحر». لم تكن معظم الحركات الإسلامية يوماً نقيضاً للاستبداد العسكري. فكلاهما يقومان على الثنائية المؤسسة بنيوياً للدولة العربية: الجيش والدين.
إذا أردنا تقصي «استثناء تونسي» فيجب أن نقوم بذلك من هذا المنظور بالتحديد: عملياً لا تملك تونس جيشاً بالمفهوم العربي، بل هو أقرب لحرس الحدود وخفر السواحل، وهو الجيش الأصغر عربياً بالنسبة لعدد السكان، وتعداد أفراده في الخدمة الفعلية لا يكاد يتعدى 40 ألف عسكري. كما أنه لا يتمتع بأي دور اقتصادي أو إنتاجي، والأفقر عربياً من حيث الموارد، حيث لم يتجاوز الانفاق عليه في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في حين كانت 40 إلى 50٪ من الميزانية تنفق على التعليم والخدمات الاجتماعية في الستينيات والسبعينيات. هذه الأرقام (المستندة لمعهد «كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط») مدهشة فعلاً إذا قارناها بالأرقام المرعبة للميزانيات الدفاعية لبقية الدول العربية.
الديكتاتورية التونسية كانت دوماً ديكتاتورية مدنية، خوف الرئيس بورقيبة من أن يتم الانقلاب عليه عسكرياً جعله «يهمش» الجيش ويعتمد على الأجهزة القمعية المدنية لوزارة الداخلية، مع استثناءات قليلة جداً في لحظات احتدام الصراع الطبقي، مثل قيامه باستخدام الجيش لكسر الإضراب الكبير الذي نفذه الاتحاد الوطني للشغل عام 1978، أو لقمع «ثورة الخبز» بين عامي 1983 ـ 1984. حتى «الانقلاب الأبيض» الذي قام به زين الدين بن علي، وعزل بموجبه بورقيبة من الحكم، تم بالاستعانة بـ«الحرس الوطني» التابع لوزارة الداخلية. وعندما بدا أن بن علي يعتمد بشكل متزايد على العسكر، تآمرت الداخلية ونقابات الشرطة وأعضاء الحزب الحاكم على اقصاء الجيش من خلال ما يعرف بقضية «براكة الساحل» عام 1991، حيث اتُهم ضباط كبار بالتواطؤ مع حركة النهضة الإسلامية للانقلاب على النظام. ما دفع بن علي لتهميش الجيش من جديد.
من الناحية الدينية اشتركت السطة التونسية مع زميلاتها العربية بامتلاك جهاز دولة «متدين»، فدستور عام 1959 يؤكد أن الدولة التونسية لها دين هو الإسلام. كما هيمنت الدولة على المؤسسة الدينية ووجهتها. إلا أن تونس لم تتورط بسياسات الأسلمة المتزايدة التي انتهجتها معظم الدول العربية والإسلامية، ولم تستعن بالإسلاميين بشكل كبير لضرب حركات سياسية أخرى أو لتصدير الجهاديين بشكل موسع إبان الحرب الباردة. وكانت مواقفها عموماً أكثر تقدمية في المجالات الدينية والاجتماعية.
من عناصر «الاستثناء التونسي» الأخرى هو تقدم بنيتها المدنية والسياسية النسبي، ففي أعتى عصور الديكتاتورية لم تفقد البلاد الحد الأدنى من القاعدة المؤسساتية. فعرفت دوماً الأحزاب السياسية، التي نشطت رغم القمع (وهذا دليل أن القمع لم يكن قائماً على الإبادة على الطريقة السورية مثلاً)، ودوراً مهماً وبارزاً للتنظيمات النقابية والمهنية، خاصة الاتحاد الوطني للشغل، فضلاً عن حياة أكاديمية متطورة نسبياً، على الأقل بالمقارنة بدول المشرق العربي، وحركة طلابية ناشطة أثارت في يوم من الأيام إعجاب ميشيل فوكو نفسه، الذي لم تعجبه بنفس القدر الثورة الطلابية الفرنسية.
كل هذه العناصر سمحت بثورة أكثر نجاحاً وأقل دموية على النظام الديكتاتوري المدني، وساهمت في التطورات الاجتماعية والسياسية التي تثير غبطة كثير من العرب اليوم. دولة تونس أفضل بكل المقاييس: «الفلول» دخلوا اللعبة الديموقراطية، الإسلاميون أقل تطرفاً وأكثر تقبلاً للمرجعية الدستورية، الجيش، رغم تصاعد دوره بعد الثورة وبروز شخصية رشيد عمار لفترة بوصفها تطوراً نابليونياً محتملاً للثورة، تم احتواؤه بشكل كبير من قبل الحكم المدني، ويدار بشكل أكثر مؤسساتية اليوم، خصوصاً بعد استقالة الجنرال عمار.
لا يزال دستور تونس لعام 2014 يصرّ على الأجهزة المتدينة للدولة والمرجعية الدينية للقوانين، وهو ما يهدد النجاح في تطبيق توصيات لجنة «الحريات المدنية والمساواة»، إلا أن أنصار المرجعية الدينية ليسوا وحيدين في الساحة، مما يرسم صورة عامة أقرب للتفاؤل، رغم بعض التصريحات المثيرة للقلق التي أطلقها البعض، والتي قد تكون تلميحاً للاقتتال الأهلي والاضطراب الاجتماعي.
تونس رغم تقدمها العربي لا تزال دولة عالمثالثية، تعاني حياتها السياسية كثيراً من المشاكل، مثل الإنقسام الجهوي بين ساحل غني نسبياً وداخل مهمش، واللجوء إلى العنف والاغتيال السياسي في بعض الأحيان، وعدم اقتناع عدد من الأطراف، من اليمين واليسار، باللعبة الديمقراطية. رغم كل هذا لدى تونس كثيرٌ مما يمكن قوله للعالم أجمع، فالصراع السياسي والاجتماعي والثقافي، رغم كل المنغصات، يدور في حيز عام وطني يزداد نمواً وحيوية، ينشط فيه مختلف الفاعلين بوصفهم جهات سياسية حداثية وليسوا ممثلين لهويات أولية. ويمتلكون لغة سياسية مشتركة يتداولون من خلالها الشؤون العامة والأفكار والحجج، بدلاً من الدفاع عن «حساسيات» يتم تفتيت الحيز العام لحمايتها من «الأذى»، ويكون التفاهم بينها مستحيلاً لغياب المشتركات. بهذا المعنى قد تكون تونس قادرة على إبراز عناصر سياسية أكثر تطوراً حتى من بعض الدول الغربية، التي شوشت سياسات الهوية بشكل كبير على حيزها العام وحياتها السياسية والثقافية. وهذا لا يعود فقط إلى «تجانس» المجتمع التونسي، فسياسات الهوية اثبتت أنها قادرة على خلق الهويات من العدم.
مهما كان رأي المرء بالربيع العربي، الذي انطلق من تونس، لا يمكن إنكار أنه كان مؤثراً بشكل إيجابي بالحراك السياسي على الصعيد العالمي، فقد استلهمه عدد من الحركات الاجتماعية، كما في فرنسا وإسبانيا، بل وحتى الولايات المتحدة، وربما لدى تونس اليوم الفرصة لتقديم إلهام سياسي جديد بعد سنوات من ثورتها الأولى.
بالعودة لميشيل فوكو وتجربته التونسية، من المفيد أن نقتبس جملة شهيرة من إحدى حواراته الصحافية، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات التاريخية والفكرية: «لم يكن أيار/مايو 1968 بفرنسا هو من غيرني، بل آذار/مارس 1968 في بلد من العالم الثالث».