اول الكلام
خميس الحكومة الاسود ، بقلم سامي بن سلامة
يوم 24 جانفي 1978 دعا أمين عام اتحاد الشغل الحبيب عاشور إلى إضراب عام يومي 26 و27 جانفي 1978. عرف يوم 26 جانفي 1978 في التاريخ التونسي بـ“الخميس الأسود“ وسجل كتاريخ أول إضراب عام منذ الاستقلال. تسبب ذلك الإضراب الناجح في شلل تام بالبلاد وأدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة بين النقابيين و المواطنين وقوات الأمن وأعمال عنف وشغب في العاصمة خصوصا وأدى إلى نزول الجيش إلى الشوارع لأول مرة منذ الاستقلال بعد إعلان حالة الطوارئ وفق الأمر الشهير عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 والذي لا زال ساري المفعول وينظم حالة الطوارئ بالبلاد إلى حدّ اليوم.
أدانت الجماعة الإسلامية المتظاهرين في تلك الفترة محملة إياهم مسؤولية أعمال العنف والشغب ولا تختلف مواقف الإسلاميين الداعمين الوحيدين للحكومة الحالية عن مواقفهم في ذلك الزمن الذي عبروا فيه عن شدة عدائهم للعمل النقابي ولاتحاد الشغل رغم تغير الظروف والأوضاع.
وقد كان حصيلة الخميس الأسود مرتفعة وأسفرت عن مئات الضحايا بين قتلى وجرحى تتضارب الروايات حول أعدادهم بالتحديد إلى حد اليوم، كما أدت إلى تنظيم محاكمات شملت مئات النقابيين وعلى رأسهم أمين عام الاتحاد الحبيب عاشور. تتجه تونس غدا الخميس 22 نوفمبر 2018 نحو إضراب جديد بيوم واحد وفي يوم خميس رمزي آخر لا يشارك فيه أهم القطاعات وأثقلها في الاتحاد وهو قطاع النقل. وتماما كما كان الوضع سنة 1978 تعيش تونس اليوم تحت ظل حكومة ليبيرالية تستهين بالتردّي الكبير الذي تشهده الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبمعاناة المواطنين. ومثلما كان عليه الأمر في سنة 1978، فإن المعركة الحقيقية لا تقتصر فقط على معركة تخوضها النقابات ضد الحكومة بل أنها في الواقع معركة سياسية بالدرجة الأولى.
كان الحبيب عاشور يرى في نفسه سنة 1978 بديلا لبورقيبة وينازعه الشرعية التاريخية حتى أنه أعتبر في اجتماع عام إمعانا في استفزاز ”المجاهد الأكبر“ بأن لا مجاهد غير الشعب. تتداخل عديد العوامل سنة 2018 كما في سنة 1978 في التصعيد الذي تشهده الأزمة إذ لا يطمح الطبوبي وهو من التيار العاشوري إلى السلطة ولكنه يعترض على محاولات تحجيم دور اتحاده وعلى إقصاء منظمته لأول مرة منذ الثورة سنة 2011 من مشاورات تشكيل الحكومة. تغترّ الحكومة بانتصارها على نقابات التعليم الثانوي السنة الفارطة ومن الدعم الشعبي الذي سجلته حينها في تلك المعركة الخاطئة والتي أفقدت الاتحاد العام التونسي للشغل جزءًا كبيرا من رصيده لدى المواطنين. ولكن يبدو أن جميع حساباتها كانت خاطئة هذه المرة للدعم الواضح الذي تحظى به المنظمة الشغيلة من مختلف الفاعلين في المجتمع المدني والسياسي ومن المواطنين الذين سحقهم تدني مفزع في مقدرتهم الشرائية مع الارتفاع الجنوني للأسعار. ليس اليوم كالبارحة وعلى خلاف نقابات التعليم يشعر التونسيون بأن الاتحاد يدافع عنهم وبأنه الحاجز الأخير المتبقي أمام الانهيار الشامل الذي ينتظرهم بعد تبين فشل الأحزاب في صيانة مصالح وطنهم أمام تغوّل الحكومة وغياب برامجها ولا مسؤوليتها وفشلها في تحقيق أي منجز. إضافة إلى الاتهامات المتكررة والمتصاعدة لها ببيع الوطن بالقطعة إلى جهات أجنبية وعدم البحث عن حلول داخلية لتنمية موارد الدول من الاقتصاد الموازي خاصة. يحظى الاتحاد هذه المرة بدعم سياسي قوي من مختلف الأحزاب التقدمية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات وطنية بارزة ومن عدد مهم من المواطنين ولو أنهم لا يستوعبون تماما خلفيات المعركة.
يعرف عن رئيس الحكومة الحالي التهور والميل إلى اتخاذ القرارات الارتجالية بدون التشاور ولا التداول مع أعضاء حكومته ولا تحظى الحكومة المنقسمة بالتالي على نفسها بغير دعم قوي من حزب حركة النهضة ومناصريه إضافة للمؤسسات الدولية المقرضة، بعد أن ضاعت محاولات مكشوفة من بعض الإعلاميين لمساعدتها على تجاوز أزمتها في الزحام ورغم تفاني بعض السياسيين في الدفاع عن موقفها وتعنتها في رفض التفاوض وإيجاد الحلول التي كانت لتتفادى بها الإضراب العام .
لا يمثل موقف رئيس الجمهورية لغزا يستعصي عن الفهم ومنطقيا يبدو أنه ينظر بعين الرضى لتطورات الأزمة التي ستمكنه من استثمار نتائج تحركات حليفه الموضوعي القوي نور الدين الطبوبي لمواصلة محاولاته استرجاع المبادرة التي تمكنه من إضعاف رئيس الحكومة وهو لن يتدخل كما تدخل زمن حكومة الحبيب الصيد للمساعدة على إيجاد حل يرضي الطرفين. غدا الإضراب العام وهو موعد مفصلي في تاريخ تونس الحديث قد تتطور بعده الأمور بشكل إيجابي وقد تتدهور بسرعة تفقد فيها السيطرة على الوضع. وهو إضراب يتم في ظل احتقان كبير تشهده تونس على المستوى السياسي والاجتماعي مما يجعل الأوضاع في العاصمة وفي مختلف مناطق الجمهورية وخاصة في المناطق الشعبية على تخوم المدن قابلة للاشتعال في أية لحظة.
عاشت تونس في الأسابيع الأخيرة على وقع أزمات متلاحقة ألقت بظلالها على الوضع العام بالبلاد وكانت أبرزها تداعيات كبيرة لأزمة كشف لجنة الدفاع عن الشهيدين معطيات خطيرة حول ما يعرف بــ“قضية مصطفى خضر“ والجهاز الخاص لحركة النهضة والغرفة السوداء والتي أنكرت الحكومة كما الحركة تفاصيلها في البداية ولكنها أسفرت عن جلسة مساءلة بداية الأسبوع لوزيري العدل والداخلية بمقر مجلس نواب الشعب لم يقنعا فيها جمهور المتابعين.
يشعر الجميع أن تونس برمتها على صفيح ساخن، فالخزينة مفلسة ورغم ذلك يعيب التونسيون على الحكومة تسببها في تدهور أوضاعهم المعيشية بسياساتها الاقتصادية العبثية ورفضها لفكرة التقشف وتعمدها الخضوع لتعليمات صندوق النقد الدولي في إسقاط قيمة الدينار التونسي والتسبب في مزيد من المعاناة لمختلف القطاعات الاقتصادية مما أفرز أزمات خانقة لم تقترح أية حلول لها.
لا أمل للتونسيين في تحسن الوضع مع حكومة الشاهد وقد انقطع الأمل معها وهم يعلمون علم اليقين بأن تلك الحكومة لا تفعل شيئا من أجل تحسين أوضاعهم بل تتلقى التعليمات الخارجية وتطبقها بدون مراعاة خطورة الوضع الداخلي.
يشارك عديد التونسيون في الإضراب العام غدا رغم عدم انتمائهم للوظيفة العمومية كتعبير عن مساندتهم لمواقف اتحاد الشغل وبالرغم من انتقادهم لسياساته في فترات سابقة. إذ لا تتراءى لهم أية حلول سياسية في الأفق ويميل عديدون منهم إلى تغليب رأي الشارع.
ترفض الحكومة الحالية كما الحكومات السابقة الكشف عن مآل المبالغ الضخمة التي تركها نظام الطاغية بن علي في خزينة الدولة وعن حقيقة ومقدار التعويضات التي صرفتها حركة النهضة لما كانت في السلطة لأنصارها. ولا عن الرقم الحقيقي لمن انتدبتهم منهم في الوظيفة العمومية وفي المؤسسات العمومية أو المبالغ الحقيقية التي تكبدتها الصناديق الاجتماعية لتسوية وضعياتهم وعن حقيقة المبالغ التي سيتم صرفها لهم في إطار ما يعرف بصندوق الكرامة. إلا أن التونسيين ومع تذمرهم من الوضع الحالي وتحميلهم الأطراف المشاركة في الحكم المسؤولية التامة عنه إلا أنهم لا يريدون ثورة جديدة تفاقم من معاناتهم الاقتصادية وهم يريدون فقط إفهام الحكومة بأنه من المستحيل مواصلة سياساتها الحالية بدون أن تدفع الثمن.
تدفع تونس غدا ثمن حريتها بإضراب عام كان ضروريا لإيقاف النزيف. فالنجاح الشعبي للإضراب سيجعل تأثيره السياسي قويا على المستقبل القريب. نتمنى أن يكون يوم الغد يوم خميس ”أبيض“ وأن يمرّ الإضراب العام بسلام وأن تفهم الجهات المسؤولة من خلاله الرسالة وخاصة رئيس الحكومة، إذ لا يمكن لأي رئيس حكومة مهما كان عدد داعميه الأجانب ولا قوتهم أن يبقى بدون دعم من الشعب وعليه أن يذهب متى قرر ذلك الشعب.
*سامي بن سلامة هو عضو في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات برئاسة كمال الجندوبي