أشياء في البال… لم يكتبها جمال… بقلم أمينة مهدي كرماوي
اكتب إليكم بعد ان جف قلم والدي و فارق حبيبته الأزلية…الصحافة! لم أكن يوما من هواة الصحافة المكتوبة… واليوم ادركت اكثر انها لن تكون لي كما كانت لوالدي…من أين لي ان اعشقها عشقه و انا اكتب اول “مقال” لي لأروي تفاصيلا لم اختر يوما ان اعيشها و لأتحدث عن أشخاص لم اختر يوما ان يدخلو حياتنا فيدنسوها… سادتي الكرام، انا امينة جمال الدين كرماوي، ابنة حبيبي و صديقي و سندي الأوحد جمال الدين الكرماوي، جمال الذي عاش اكثر من أربعين عاما بين صفحات الجرائد… دخل بيوتكم و استقر في روتينكم اليومي، فلا صباح يمر دون آلو الإعلان و لا قهوة تحتسى دون أشياء في البال… و ان لم تعرفوه بالقلم فبكرة القدم… الم تفتقدوه؟ الم تروا عموده اليومي حزينا فارغا؟ الم تسالكم عنه مقاهي باردو و نهج فلسطين و وسط العاصمة أين كان يلاقيكم لتضحكوا بدموع شاردة في حال البلاد و العباد؟ هل تتذكرونه؟ أم ان الاكتئاب ابتلع ذاكرتكم أنتم أيضا؟! جمال الدين الكرماوي اليوم غائب، رغما عنه، غيبه الالم و التعب و سوء الحظ… او ربما سوء الاختيار… لا ادري! كل ما اعلمه انه انصهر بين حنايا الحزن، صار وحيدا منهكا في عالم بعيد لا يلقى فيه سوى سوء المصير… اعترف ان والدي اخطأ مرتين، أولاهما حين بخس نفسه حقها، و ثانيهما حين قبل بِشاَرٍ أرخص من جرة قلمه القديم… ربما لم يدرك حينها انه سلم تاريخه قربانا للشيطان و جعل مستقبله نارا تؤجج اسحاره… الى ان جاء هذا اليوم الذي صارت فيه كلمات الكرماوي رمادا تناثر في زوايا قلبه ليذكره كل يوم بألمه المدفون… اتساءل احيانا؛ هل يدفع ثمن اثم مهجور؟ أم ان القدر، ساخرا، ساوى بين الكبار و الأصفار؟ هل عليا ان اتقاسم معه الوجع و ادفع “الاتاوه”؟ أم ان خطيئته اكبر من ان يغفرها ضميري الذي لا يعلم عنه شيئا منذ ان فارقني سنة ١٩٩٤؟ و لكن “من منكم بلا خطيئة”… “اذهب يا ابي بسلام ولا تخطئ أبدا” و ذهب…دون عوده… دخل قفصه الجميل مستسلما و تناسى مفتاحه بيد من لا يرحم! من لم يرحم سنواتي الثلاث و اذاقني اليتم مفتخرا…من لم يرحم شقاء سنينه و افترش اسمه سجاده حمراء داسها بنعال مستعمل قاصدا…من لم يرحم عناءه و لا كرامته و حرمه العلاج و تاجر بمرضه لجمع بضع دنانير لا تساوي رائحة عطره في اروقة حواسي…من باع و اشترى و جرّح في عرضي و سمعته متناسيا اني امرأة حرة من ضلع رجل كبير…رغما عنهم! اللهم صبرا جميلا… جمال الدين الكرماوي حين بدا رحلة العلاج لم يكن يتمنى الشفاء الا لشيء؛ كتاب جديد،صغير،اخير… كتاب يحكي أشياءه التي كانت في البال و لم يطلع احدا عليها…اتفقنا ان ندونها قبل ان ينسفها المرض هي الاخرى…لعلها تكون يوما شفيعا له عند البعض منكم… حدثني عن حياته التي لم أشاركه فيها، ألوانه و أحزانه و أشعاره و احلامه التي تاهت منه في الطريق… الأمل و أوقات الضيق و أصدقاء الكفاح و أصدقاء السوء و الرِّجال… نصير شمه و صبيح العراقي، شبّاو و القلعة الملعب التونسي و “البوندنا” … حدثني عنكم جميعا…كل من مرَّ في حياته و كل المٌرِّ فيها… كان يريد ان أشاركه هذه المهمة السرية علها تجمع اسمينا للأبد… و ها انا الان أقف محملة بالحكايا على عتباتكم انتظر عودته… آسفة سيدي… نحن لم نعد بحاجة لكتاب… فقصصنا نٌشِرت على جدران الجوامع و في دفاتر المحاكم و على صفحات الأطباء و الدجالين… و لم يعد بيننا اسرار نتقاسمها حين نتمشى على كورنيش النيل… نُهبت كما احلامنا… لك الله…و لي اسمك و لا تحزن…فحياتك كانت جميلة…”جميلة من جهنم”
*جمال كرماوي هو احد ابرز الصحفيين في تونس، عرف بعموده اليومي في الشروق”اشياء في البال” كما صدر له مؤلف جمع فيه سلسلة مقالاته في جريدة الاعلان بعنوان”الو الاعلان”
امينة مهدي كرماوي: صحفية بتلفزيون القاهرة والناس وابنة جمال الكرماوي الكبرى