محمود سعيد في ذكراه الرابعة: ما الذي بقي من رحلة الهدم التلفزيوني؟
دفاتر غوتنبرغ — ربما أدرك الممثل الفلسطيني محمود سعيد الذي رحل قبل أربع سنوات في مثل هذه الأيام بالضبط بحدسه المدرب أن أيامه التلفزيونية ” الذهبية ” قد ولّت منذ زمن، شأنه شأن أقرانه الآخرين الذين تغدر بهم الشاشة الفضية في الأوقات الحرجة، ونادراً مايحظون بالاهتمام والترحيب، حتى أنه وطّد نفسه من بعدها على سلوك طبيعي في تأمل الحياة بعد أن عاف أشياء كثيرة فيها، فصار يقيم بين بيته في قبرشمون، ومقهى أبو علي في منطقة عاليه اللبنانية.
صار يشرب قهوته الصباحية ويعود بسيارته الى البيت. قال في أحاديث خاصة لمقربين منه قبل رحيله إنه صار يقضي جُلَّ وقته في عدّ الأشجار في الذهاب والاياب، حتى أنه تعرف على القطط والكلاب والسلاحف والدجاج في طريقه وصار يعرّفها بالاسم.
لم يكن الأمر في حياته مزحة من أي نوع. هو اختصر في شكل من الأشكال (الضياع) في حياة ومسيرة شعبه أيضاً منذ أن أمنّت له أمه اللبنانية (البيروتية) خروجاً آمناً من فلسطين (يافا) عام 1948 إلى مدينة صيدا وهو في عمر السابعة، وتركت وراءها أشقاءه الأكبر سناً للدفاع عنها. درس في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ونتيجة لوفاة الأب وتحت وطأة الفقر المدقع، عاش ردحاً من الزمن في دار للأيتام. اكتشفه في لبنان رئيس قسم المذيعين في الاذاعة اللبنانية شفيق جدايل في خمسينيات القرن الماضي، وهو يتردد على الدار، بحثاً عن وجوه مسرحية مدرسية مع نهاية كل عام، وأسند له دوراً سيتكرر في كل مسرحية يعدها جدايل، فقد اكتشف فيه موهبة مبكرة، وصوتاً رخيماً وسليماً في الأداء لازمه واشتهر به حتى نهاية حياته.
في عام 1959 عين محمود سعيد الجارية في الاذاعة اللبنانية ممثلاً ومؤدياً، وعرف باسمه الفني محمود سعيد، لتنهال عليه عروض التقديم والمسرحيات، الى أن شهد عام 1961 اطلالته الأولى في تلفزيون لبنان في برنامج بعنوان (من وحي البادية)، بجملة بدوية واحدة.
بعد اطلالات مشابهة قدمها له في ذلك الوقت رشيد علامة ظهر سعيد في مسلسلات لبنانية مثل (سر الغريب) بتوقيع انطوان ريمي عام 1967. وعرفت السينما في تلك الفترة مشاركاته في أفلام مثل (عنتر يغزو الصحراء) و (غارو) و (أسير المحراب). بعد هذه الانطلاقة عاش محمود سعيد مجده الذهبي، فقد وقع عقداً احتكارياً مع تلفزيون لبنان والمشرق الذي توسع قوسه في المحيط العربي، وصار يترك له أمر تحديد الممثلين والكاتب على أن يكون منتجاً تنفيذياً في نفس الوقت. وبين التلفزيون والسينما صار سعيد يشكل بيضة القبان لمنتجين ومخرجين كثر، فقد شكلت موهبته وسحنته السمراء وصوته المميز علامة فارقة وانقلاباً على صورة النجم المطلوب في تلك الآونة.
لايمكن اختصار سيرة محمود سعيد بكلمات محدودة، وان شاءت له الأقدار أن يظهر في مسلسلات بأسماء ستبدو غريبة اليوم بعد تأملها من زوايا عدة، ومتطابقة مع نهاياته المؤلمة، ففي مسلسل ( التائه ) اللبناني عام 1970، المقتبس عن رواية (مرتفعات وذرينغ) لاميلي برونتي اشتهر سعيد باسم (غريب)، وقد لازمه هذا الاسم فترة طويلة أنى وطأت قدماه الأرض، الى أن جاء المسلسل البدوي الأول (فارس ونجود) بتوقيع ايلي سعادة عام 1973 ليكسر وهم الاسم ويعطيه اسم فارس، وهو المسلسل الذي أفرغ الشوارع حين مشاهدته في تلك الفترة، وللمفارقة هنا عاش سعيد وطأة الاسمين (فارس ونجود). صار هو الفارس والمحبوبة في آن، وصارت التلفزيونات العربية المتوفرة في تلك الفترة تتلقف أي مسلسل يشارك به محمود سعيد.
قادته شهرته الضاربة في تلك الآونة الى دور الصحابي خالد بن الوليد في فيلم (الرسالة) 1976للمخرج الراحل مصطفى العقاد. ومع اشتداد الحرب اللبنانية غادر الى أثينا وعمان وعاش متنقلاً بينهما، وظل أميناً لمشاركاته. حمل لقب (صقر الشاشة العربية) بالنظر الى مشاركته في وقت مبكر في مسلسل (صقر العرب). لم يفده اللقب بشيء، فقد عرضت عليه قناة فضائية عربية في آخر أيامه دوراً هزيلاً في أقل من صفحة واحدة: سائق لبناني يقوم بايصال فتاة لبنانية الى مطار. مطار يوزع الطائرات والبشر والأدوار على ممثلين بوجوه بيضاء في مسلسلات (البان آراب). بالطبع رفض محمود سعيد الدور. صرخ في وجه المنتج ورمى الورقة في وجهه، واعتكف من بعدها تماماً في منزله. صار يقرأ أكثر ويقضي وقته في تأمل مخلوقات الطبيعة التي يصدفها في طريقه وفي حياته التي أنهكها المرض المتجبر. ربما عاد الى سيرته الأولى في الحل والترحال، وصارت رحلة تيه اختيارية هذه المرة-بعد أن كانت الأولى اجبارية.
كأن صوته تلك العلامة الفارقة التي ظهرت في عشرات البرامج والرسوم المتحركة شكلت له بداية تشبه نوعاً ما رحلة التيه الذي سيفرض عليه لاحقاً في مسيرته الفنية، فقد قام منتج فيلم (الضياع ) 1971، وهو أحد أفلام النجم المصري الراحل رشدي أباظة في حقبته اللبنانية بعمل دوبلاج لصوت أباظة الذي تغيب عن العمليات الفنية للصوت بتسجيل صوت سعيد في محله، الأمر الذي رفضه أباظة والموزع المصري، وانتزعا قراراً بوقف عرضه.
(الضياع) ليس فيلماً واحداً فقط. إنه مفهوم سائد امتد الى مرحلة ربما طويت برحيل محمود سعيد أو ربما لم تطوَ. ليس كل مافيها وردي بالتأكيد، ولكنها من المؤكد طالت ذاكرة كاملة، وأهدتها نوعاً من الهدم يشبه نوع المسلسلات التلفزيونية الحديثة التي تُصور اليوم في أمكنة مختلفة ويشرف عليها صنّاع مهرة من مختلف الجنسيات.