نحبّوها… أمّا موش متاعنا
*بقلم الدكتور نادر الحمامي
لم تكن رئيسة الحكومة النيوزيلندية جاسيندا أردرن تعني للمسلمين شيئا قبل الأسبوع الماضي، ويمكن القول إنّهم لا يعرفونها البتّة. للأسف الشديد عرفوها إثر هجوم إرهاب على مسجدين في بلادها، نظر إليها مسلمو العالم بإعجاب كبير، وأكاد أقول بحبّ شديد وانبهار عظيم نظرا إلى كيفيّة تصرّفها الذي كان تصرّفا أخلاقيّا عميقا متعاليا عن كلّ انتماء ضيّق أو هويّة مغلقة. تنقلّت إلى عائلات الضحايا مرتدية الحجاب رمزيّا، دعت إلى دعم أسر الضحايا الّتي لا عائل لها، وصرّحت أنّ نيوزيلندا هي موطن الضحايا وأنّهم “منّا” على حدّ عبارتها. رفع الأذان في كلّ نيوزيلندا.
هذه السيّدة البالغة من العمر تسعا وثلاثين سنة، تنتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى، أبوها كان شرطيّا، وأمّها عاملة بمشربة مدرسيّة، انطلقت مسيرتها السياسيّة وهي في سنّ السابعة عشرة مع حزب العمل، عملت لصالح فقراء نيويورك بصفة تطوّعيّة، وعارضت رؤى المؤسّسة الدينية حول حقول المثليّين وأعلن إلحادها سنة 2000، وعارضت نقل سفارة بلادها من تلّ أبيب إلى القدس.
لنتخيّل الآن لو كانت جاسيندا أردرن سياسيّة في بلد مثل بلادنا وهي تحمل القناعات الدينيّة والأخلاقيّة نفسها وتعلنها.
أوّلا، يا سادتي، يحضر كل الموروث الذكوري دينيّا واجتماعيّا للحكم عليها من منطلق الدونيّة لأنّها تحمل “تهمة” لا تغفر في مجتمعاتنا وهي أنّها “امرأة” حقوقها في أقصى الحالات تصل إلى “النصف”، وكلّ ما تحصل عليه هو من باب “المكرمة” أو بما يجود به عليها “الرجل/الذكر”. ثمّ إنّها لدى الكثير منّا لا يحق لها “الولاية” فهذا الأمر “للرجال”.
ثانيا ستوصم بكل الفظاعات الأخلاقيّة البذيئة، إذا لا يكفي أنّها “امرأة” وتدافع عمّا يُعتبر “شذوذا وانحلالا وفسادا”، وتتوالى الخطب والبيانات والمنابر معلنة عن “اهتزاز عرش الرحمان”، وعن “المؤامرة العالمية” لتفكيك المجتمع الإسلامي، وعن اقتراب الساعة، وعن سعي “أعداء الدين” إلى تفكيك الأسرة، وإباحة “ما حرّم الله”. سيعلو صوت “حرّاس الهويّة المهدّدة” التي ينبغي الدفاع عنها و”التعضّ عليها بالنواذج” حتّى لا نفيق صباحا فنجد أنفسنا بغير هويّة. أمّا “غير المدافعين عن الهويّة” فيصمتون فالانتخابات قادمة ولا داعي لاستفزاز “الأصوات” الثمينة، ولنؤجّل المبادئ إلى حين.
ثالثا، سيتجّند “الأعوان الفايسبوكيّون” تحت إمرة “أحدهم” ليجعلوا منها مسخا، وينشروا عنها ما يصدّق وما لا يصدّق، وسيسهرون الليالي لفبركة الفيديوهات وتحضير المونتاج المناسب لأقصى ما يمكن من التشويه. سيبحثون لها عن طاولة تجلس إليها وعليها قارورة خمر، أو حفلة خاصّة ترقص فيها فرحا، أو صورة من هنا أو هناك تجمعها، وإن صدفة، مع أحد يمكن أن يكون صاحب شبهة.
رابعا، ولنتخيّل أيضا، أنّها تعاطفت وتضامنت مع من لا ينتمون إلى “الجماعة” الدينيّة أو العرقيّة أو القوميّة، فتأكّدوا أنّهم سيقولون عنها إنّها من “أتباع المحفل الماسوني”، أو هي “عميلة الصهاينة”، أو هي من “خدم الإمبرياليّة العالميّة” أو “حثالة الفرنكوفونيّة” أو “يد صندوق النقد الدولي” هذا وغيره من لافتات عوّضت عبارات “الفاسق” و”الماجن” و”المرتدّ” و”الزنديق” و”الخارج” القديمة.
نحن يا سادتي، نحبّ قيم المواطنة والحريّة والمساواة والقيم الكونيّة والأخلاق الإنسانيّة حين تمارس علينا وينظر من خلالها إلينا، ولكن وفي الوقت نفسه لا نريدها أن تكون هي الفيصل في مجتمعنا، نريدها أن تطبّق علينا حين نكون في الغرب، أمّا في مجتمعاتنا فلا لأنّها “موش متاعنا”.