شهادتي عن البجبوج: الصحافي في مواجهة جاذبية الرئيس، بقلم محمد بوغلاب
وانا في قناة التاسعة مساء الخميس25جويلية للمشاركة في بلاتو عن رحيل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي
تذكرت فيلم المخرج السوري الراحل عمر اميرلاي “الرجل ذو النعل الذهبي” الذي عرض على ما اذكر سنة 2001
كان اميرلاي معارضا للنظام السوري ولكل الانظمة العربية على الارجح، ولكنه اختار ان ينجز فيلما عن رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني ورجل الاعمال الحامل للجنسية السعودية
كان اميرلاي في صراع متواصل اثناء الفيلم مع جاذبية الحريري
لم يكن الباجي قائد السبسي معروفا بثرائه ولم تعرف عنه مظاهر بذخ ولكن كل من عرفه يشهد بان للرجل خصالا لافتة مثل سرعة البديهة والفطنة وروح الدعابة والجرأة في الاصداع برأيه متنقلا بسلاسة بين الايات القرانية والامثال الشعبية والابيات الشعرية
تعود بي الذاكرة الى شتاء 2012، كان قائد السبسي قد اتم مهمته وزيرا اول لحكومة تعهدت بتنظيم اول انتخابات تشريعية بعد الثورة، وانشأ حزبه “نداء تونس” الذي اصبح في وقت قياسي رقما صعبا في المشهد السياسي
كان الرجل في اوج مجده ، بعد خروجه المظفر من القصبة، يحظى بالثناء حيثما حل ثم بتكوينه حزبا سياسيا اقض مضجع النهضة التي كانت – وربما لم يتغير الحال كثيرا اليوم -شؤون البلاد الصغيرة والكبيرة
طلب مني صديقي نصر الدين بن سعيدة مدير جريدة التونسية- لا سامح الله من كان سببا في اغلاقها – محاورة قائد السبسي
لم اضع الوقت، اتصلت بالزميلة ليلى الشايب التونسية الاصيلة العاملة بقناة الجزيرة وطلبت منها رقم هاتف قائد السبسي
استجابت ليلى بلطف نادر لطلبي وحين علمت برغبتي في اجراء مقابلة مع قائد السبسي، امدتني بتفاصيل عنه عرفتها من خلال لقاءاتها الصحفية معه،
اتصلت به ودون عناء ضبط لي موعدا في تمام السادسة مساء في بيته الكائن بسكرة، لم اكن اعرف موقعه على وجه الدقة، كان علي ونصر الدين ان نعاين المسكن في 36 شارع المغرب العربي قبل موعد المقابلة ، لم يكن مسموحا بأي خطأ أو تقصير
كنت في الموعد ، وجدت عناصر من الامن المكلف بحمايته في مدخل البيت، كانوا على علم بقدومي، حين تقدمت نحو الباب المؤدي ألى سكنه حاملا باقة ورد باسم جريدة التونسية، وجدت الباب مواربا، قرعت الجرس، اشرع الباب في وجهي، كان الباجي قائد السبسي واقفا ينظر في الاتجاه المعاكس بانتظاري
انتبه الى خطواتي فالتفت بهدوء ثم قال “حتى من غير ورد راني قابلك”
استغرق الحوار اكثر من ساعة ونصف، تخللته استطرادات كثيرة خاصة بعد ان عرف اني اصيل الوردانين، حدثني عن اناس عرفهم من ابناء تلك القرية المنسية، عبد الله فرحات وشقيقه محمد فرحات وحسن بن عبد العزيز الورداني
قال”نحب الورادنية لانهم رجال ما يغدروش”
حين هممت بمغادرة بيته طلب مني ان انتظر قليلا،غاب لدقائق ثم عاد بكتابه”بورقيبة المهم والاهم” ودون اهداء لطيفا هذا نصه”هدية الى الاستاذ محمد بوغلاب الصحافي القدير مع مشاعر الود وفائق التقدير”
منذ هذه المقابلة الصحفية نشأت علاقة مودة بيني وبين قائد السبسي، كنت اهاتفه احيانا اتثبت من خبر او ادقق معلومة او استوضح رايا منسوبا اليه، لم يغلق يوما هاتفه في وجهي
وتكررت اللقاءات الصحافية معه، لعل من ابرزها ذلك اللقاء الذي جمعني به على الوطنية في برنامج شكرا على الحضور لبوبكر بن عكاشة
كان بوبكر معد البرنامج ومقدمه وكنت اقدم فقرة لا تتجاوز ربع ساعة
كان الباحي قد انشأ حزبه نداء تونس ودخل في مواجهة مع حركة النهضة ومنظومة الترويكا
في تلك المقابلة سالته عن برامج الحزب واصررت على السؤال، لم يكن الباجي محبا للارقام ولا للحديث عن الاقتصاد ، كان سياسيا الى النخاع
وفي لحظة يبدو ان صبره قد نفد، حمل الملف الذي تسلح به قائلا” يبدو انك لم تقرا برنامجنا ، شد اقرا”
قلت له “لقد اطلعت على برنامج النداء ولا حاجة لي بالمزيد”ولكنه مسك بالملف والقاه باتجاهي
تناثرت الاوراق في الفراغ الفاصل بيننا، شعرت بالاحراج ، لم يكن امامي مجال لرد الفعل، كان بوبكر يستعجلني كعادته لانهي فقرتي واغادر الاستوديو
هذا الموقف اصبح طيلة السنوات التي مضت وربما لاعوام اخرى عكازا يتكئ عليه كل من اراد استهدافي واتهامي باني متاع الباجي وبأني خفت منه ولم أجرأ على رد الفعل
ولم يعد الحديث عن”رمي للاوراق على الطاولة” بل تحولت الرواية إلى ضربه بالاوراق على وجهي
بعد شهر او اكثر التقيت قائد السبسي ، اتجه نحوي قائلا “بلغني انك متغشش مني بسبب رميي للاوراق، تاكد اني لم اقصد الاساءة اليك ” ثم اضاف”في كل الاحوال انا اعتذر لك”
مرت الايام سريعا وفاز الباجي قائد السبسي بالانتخابات ودخل قصر قرطاج ليرتدي “ROBE DE CHAMBRE بورقيبة كما كان يقول خصومه
كان معز السيناوي مستشار الرئيس للاعلام، لم اكن قد التقيت به اصلا رغم صلاته الممتدة مع الكثير من زملائي
ذات يوم اتصل بي السيناوي- سفير تونس بروما حاليا -ليدعوني الى مقابلة الرئيس ، اخبرني ان الرئيس يرغب في الاستماع الي وتكررت الدعوة اكثر من مرة
، ليس من حقي ان انقل ما قاله غيري من الصحافيين الحاضرين، ولكننا لم نكن مثل اسنان المشط، كان من بيننا من تخصص في مدح الرئيس ، وكان من بين المدعوين من يعجز عن مسك لسانه يسال وينقد ويستفسر ويقترح
كنت كما يعرفني من يعرفني وكما يشاهدني عامة الناس اتحدث بصوت عال ، بوضوح ودون ان ترتبك كلماتي
كنت اسمي القط قطا ولم اشعر يوما ان الرئيس قد انزعج من حديثي ، بل بالعكس تماما كنت اشعر بأن الرئيس يستحسن جرأتي عليه وهو من هو في عالم السياسة منذ أكثر من ستين عاما
في شهر اكتوبر من سنة 2015 كنت ضمن الوفد الاعلامي الذي رافق الرىيس الى الاردن ، في ختام اليوم الاول من الزيارة كان علينا الحضور باقامة السفير التونسي في السادسة والنصف مساء بمناسبة حفل استقبال للرئيس مع الجالية التونسية بالمملكة الهاشمية
اتفقت انا وزميلاي مع السائق –اردني الجنسية-ان يعود الينا الى النزل حيث نقيم في الخامسة والنصف ، كان امامنا متسع من الوقت للوصول في الموعد المحدد،
المفاجاة ان هاتف السائق رن، كان معز السيناوي على الخط يطلب الحديث الي، سالني “وينك؟ قلت له في الطريق اش ثمة؟
قال لي” ازربوا ارواحكم الرىيس سال عليك ”
استغربت قائلا” ولكن الموعد بعد ساعة،” رد مسرعا:لا يا محمد تبدل البرنامج
كان على السائق ان يتصرف ليوصلنا في اقصر وقت الى اقامة السفير التونسي-كانت سيدة لا اذكرها سوى بكل خير هي عفيفة الملاخ
حين وصلنا، دلفت مسرعا ، كان الرئيس يخطب في الحاضرين، وبما ان معز السيناوي كان اطول من في القاعة فقد لمحني فاشار الي بأن اتقدم الى الصف الاول حتى يراني الرئيس ففعلت، اتنتبه الرئيس الى وجودي فقطع كلمته قائلا بلهجة مشاكسة” وين كنت يا سي الشباب، سألت عليك،، اسالهم يقولولك”
اتجهت الانظار الي، كان علي أن أ جيب الرئيس، ودون تخطيط وجدت نفسي اقول له” السيد الرىيس لقد تعمدت القدوم متاخرا”
سادت لحظات من الوجوم على الحاضرين الا معز السيناوي لانه كان خبيرا بعلاقتي كصحفي بالرئيس ويعرف جيدا اني لن افوت الفرصة لتسجيل نقطة لصالحي
ثم اضفت وعيناي مصوبتان نحو الرئيس” تعمدت القدوم متاخرا حتى تسال عني ”
استحسن الرئيس اجابتي ، ولم يخف سعادته بردي،
بعد ان انهى كلمته دخل غرفة جانبية ليرتاح قليلا وبعد دقائق جاءني معز السيناوي قاىلا”الرئيس يريد رؤيتك”
استجبت لطلبه ورافقني معز الى غرفة الرىيس
طيلة ربع ساعة حدثني الرىيس عن علاقة تونس بالاردن منذ زمن بورقيبة وكشف لي بعض ما دار بينه وبين الملك عبد الله وروى لي انه يعرف الملك منذ كان طفلا يرافق اباه الملك حسين
اخر مرة قابلت فيها الرئيس في قصر قرطاج كانت يوم 29جويلية 2016، كان الرئيس على غير عادته، متوترا
جلست على يمينه ولكني شعرت انه تفادى منحي الكلمة، بجل آخرين ممن تخصصوا في المدح والاشادة،
في اول فرصة افتككت الكلمة وسألت الرىيس لماذا يريد إخراج الحبيب الصيد من الشباك ؟ كيف سمح بتهديده”اخرج ولا نمرمدوك”
دفع الحبيب الصيد دفعا الى الاستقالة ولكنه ابى واصر على الذهاب الى مجلس نواب الشعب، حددت الجلسة ليوم 30جويلية
كان واضحا ان الرئيس قد جمعنا قبل يوم من جلسة منح الثقة لنكون في صفه، كان يريد تعبئة الرأي العام لمساندة خطوة سحب الثقة من الحبيب الصيد وحكومته
دافعت عن الحبيب الصيد وسألت الرئيس لماذا يريد اقالة عبد الرحمان الحاج علي المدير العام للامن الوطني
بدا واضحا غضب الرىيس ، واصبحت نبرة صوته حادة ، لم يطل اللقاء كثيرا بعد ذلك خاصة بعد ان سال احد الصحافيين الحاضرين عن حافظ قائد السبسي وما وصفه بشبهات الفساد حوله
اخذ الرىيس قلمه ووضعه في جيب سترته ثم غادر القاعة صامتا
منذ ذلك اليوم لم التق الرئيس في قصر قرطاج
في شهر اكتوبر 2018 تلقيت اتصالا من سلمى اللومي المعينة حديثا مديرة للديوان الرىاسي وكنت احتفظ بعلاقات طيبة معها حتى قبل ان تصبح وزيرة للسياحة، طلبت مقابلتي فأستجبت
زرتها في مكتبها مهنئا ، كانت ترغب في ربط صلة الرئيس من جديد بالصحافيين، ادركت انه صار بعيدا عنهم على غير عادته
قلت لها الحقاىق الاربعة، اخبرتها انه بلغني ان الرئيس انزعج من كلامي اكثر من مرة و دعوته الى عدم الترشح لعهدة جديدة، كان المطبلون يملؤون الساحة، ولا ازايد على احد ان قلت باني كنت اغرد خارج السرب وقتها حين اعلنت موقفي” ليس من مصلحة تونس ولا الرئيس نفسه ان يترشح لعهدة ثانية”
حاولت السيدة سلمى اللومي ترطيب الاجواء قائلة”الرئيس يحبك ويحترمك”
غادرت مكتبها متمنيا لها النجاح رغم احساسي ان مقامها لن يطول كثيرا في قصر قرطاج بعد ان ضرب الحصار على الرىيس
قضي الامر ولم يعد الرئيس هو نفسه كما عرفته قبل سنوات
بعد ايام تلقيت دعوة من الرىاسة لاحضر مؤتمر بالارمو حول ليبيا ، مؤتمر كان الرئيس قائد السبسي احد ابرز المشاركين فيه
اخذت الطائرة صباح الاثنين نحو بالارمو، اما الرئيس فجاء من باريس ،
اقمت في الفندق نفسه مع رئيس الحكومة الليبي فائز السراج، كان الوفد الليبي ضخم العدد، وكنت استغرب حمل الليبيين لحقائب كبيرة والحال ان المؤتمر لن يتجاوز 48 ساعة
ادركت ان الجماعة قدمت من اجل السياحة وتبديل الجو ومن اجل السباقيتي الايطالية وانهم غير مستعجلين لعقد سلام
كان حضور قائد السبسي لافتا رغم الوهن الجسدي الظاهر، فرض رؤيته على الجميع “انا هنا من اجل حل سياسي ، لم آت لاقصاء زيد او عمرو أو للبحث في التفاصيل ”
كنت في اليوم الثاني والاخير للقمة في المطعم البائس المخصص للصحافيين، ابحث عما يسد الرمق، واذا باحد افراد الامن الرئاسي يسالني لاهثا”اين كنت؟ الرئيس يبحث عنك”
رافقته مسرعا بعد ان استعرت “البادج” الخاص بمعز السيناوي –سفيرنا بايطاليا-حتى اتمكن من بلوغ اقامة الرئيس المقابلة للمركز الاعلامي
حين دخلت غرفة الرئيس، وجدته جالسا على اريكة تتسع لثلاثة افراد، اتجهت نحوه ، حاول الوقوف، قلت له”السيد الرىيس ما تعبش روحك” صافحته وقبلته وجلست على يساره في كرسي منفصل ، عاتبني قائلا” شبيك ماعادش نشوفك” اجبت بحذر”السيد الرىيس توة عامين من اخر مرة شفتك، لست انا الرىيس لاجيبك ، انا قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعاني ولكنك لم تدعني ”
لم يعلق الرىيس واسترسل في حديثه عن ليبيا وعن السلام الصعب بين الفرقاء
كان متعبا، وشعرت لاول مرة منذ عرفت الرجل بانه حزين مثقل بالهموم
كان راغبا في الحديث طويلا رغم تعبه الظاهر، ولكني بعد زهاء ربع ساعة، استاذنته قائلا”السيد الرىيس الجماعة مستعجلون للعودة الى تونس ولا اريد ان اعطل احدا ” وقف الرئيس ليودعني قائلا”سنواصل حديثنا في الطائرة”
لم اكن اعلم انها اخر مرة ستلامس يداي راحة رئيس لا يمكن ان ينازعه اي من السياسيين اليوم في الجاذبية