كيف يصل مجهود دعم الدولة للمواد الأساسية لأصحابه ؟ خطوات واضحة يجب اتباعها
منذ أكثر من عشرين سنة خلت تحدث وزراء الإقتصاد والتجارة الذين تعاقبوا على تلك المناصب قبل وبعد سنة 2011 عن حجم الدعم الذي تخصصه ميزانية الدولة التونسية للمواد الأساسية لكي تباع إلى المواطن ضعيف الدخل بثمن معقول، أي أن الدولة تتكفل بدفع الفارق بين الثمن الحقيقي للمنتوج وثمن بيعه في السوق للعموم .
في الحقيقة يتحمل المواطن دافع الضرائب تكلفة دعم المواد الأساسية باعتبار أن أكثر من 75 % من موارد ميزانية الدولة تأتي من الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ويؤدي ذلك إلى تحقيق مبدأ التضامن بين دافعي الضرائب الذين يتحملون أعباء تخفيض أسعار تلك المواد مع انتفاعهم هم كذلك بهذا التخفيض.
وقد شمل الدعم منذ عقود المواد الغذائية الأساسية وهي منتجات الحبوب (العجين) المعدة للاستهلاك كالسميد والخبز بنوعيه الباقات والخبز الكبير فقط والحليب والسكر والزيت النباتي والكهرباء والنقل والمحروقات.
هذا وقد بلغت قيمة دعم المواد الأساسية في ميزانية الدولة لسنة 2020 ما قيمته 4.18 مليار دينار تونسي توزعت بين 1.8 مليار دينار لدعم المواد الأساسية (الخبز والعجين الغذائي)، ونفس المبلغ لدعم المحروقات والكهرباء، و0.5 مليار دينار لدعم خدمات النقل العمومي للمسافرين.
ونظرا لضعف ميزانية الدولة وعدم قدرتها على تخصيص مبالغ هامة للإستثمار والتنمية وخلق الثروة نظرا للحيز الهام المخصص للأجور ولدعم المواد الأساسية ولتغطية عجز المنشآت العمومية ، فقد اهتمت الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عشرين سنة بالبحث عن حلول لتقليص نسبة الأجور ونسبة الدعم في الميزانية والترفيع من نسبة الإستثمار والتنمية، كما أن صندوق النقد الدولي وضع هذه النقاط ركنا قارا في كل المفاوضات التي أجريت معه للحصول على قروض لدعم الميزانية.
ولئن بدأ العمل منذ سنتين على تخفيض دعم المحروقات وتركيز منظومة التعديل الآلي لأسعارها وفقا لسعر السوق، فإن إصلاح منظومة دعم المواد الغذائية بقيت على حالها ولم تتجرأ أية حكومة على وضع برنامج للتخفيف من وطأتها على الميزانية ولإيصال الدعم لمستحيه دون غيرهم من غير التونسيين ومن الطبقات الميسورة ومن صانعي الحلويات والمقاهي الذين يستعملون السكر المدعم ومحلات الفطائر والمطاعم التي تستعمل الزيت المدعم، وذلك خوفا من ردة فعل المواطن خاصة وأن دعم المواد الغذائية اقترن في ذاكرة التونسيين بثورة الخبز التي اندلعت في تونس بتاريخ 3 جانفي 1984 .
لبلوغ هدف إيصال دعم المواد الغذائية إلى مستحقيه الحقيقيين دون غيرهم وتحقيق العدالة الإجتماعية يجب على الحكومة (وهو مشروع حكومة ولا يمكن أن يكون مشروع وزارة أو وزارتين) يجب قبل ذلك توفير المعطيات الإحصائية المتعلقة بكافة المواطنين التونسيين، ثم وضع خيارات ومعايير الخطة وتحديد الهياكل المتدخلة في المنظومة الجديدة للدعم، وبالتوازي مع ذلك يجب وضع منظومة قانونية وترتيبية لضمان حسن تنفيذ تلك الخطة.
1 *- توفير المعطيات الإحصائية :
تتطلب عملية إيصال الدعم إلى مستحقيه توفير منظومة إحصائية دائمة تتضمن الدخل الشهري لكل الأسر التونسية ( ménages )، ونعني بهذا الدخل كل المداخيل المالية التي تتمثل عليها العائلة (الزوج والزوجة والأبناء غير المتزوجين والأصول في الكفالة) ولا يقتصر الدخل الشهري على الأجور بل يشمل كذلك كل الإيرادات من أكرية وأصول وجرايات وغيرها من الموارد القابلة للتقييم.، هو ما يتطلب تكليف أعوان الإحصاء والمرشدين الإجتماعيين للقيام بجرد المساكن بكامل تراب الجمهورية لوضع القاعدة الأساسية للبيانات وضبط عدد الأسر وتحديد دخل كل أسرة بالتدقيق.
وفي مرحلة ثانية يتم ربط قاعدة البيانات بقواعد بيانات المركز الوطني للإعلامية و إدارة الجباية وقواعد بيانات الصناديق الإجتماعية وقاعدة بيانات الوكالة الفنية للنقل البري وقواعد بيانات البنوك، وذلك لإجراء التقاطعات الضرورية للتأكد من صحة البيانات الأساسية التي قام أعوان الإحصاء بجمعها بناء على تصريح الأسر. وفي هذه المرحلة يتم التأكد من صحة بيانات الأجور وكل المداخيل المصرح بها والممتلكات العقارية والمنقولة
وعند التوصل لمنظومة تتضمن المداخيل الحقيقية لكل أسرة مع ضمان التحيين الآلي والآني لمعطياتها يقع ربط المنظومة بقاعدة بيانات الحالة المدنية لمعرفة التغيرات التي تقع صلب كل أسرة لأنها تؤثر على مفهوم العائلة، فحين يتزوج أحد أفراد العائلة يقع بعث عائلة جديدة بالمنظومة مع حذف الزوج والزوجة من العائلات التي كانوا ينتمون إليها وحذف مداخيلهم من مداخيل تلك العائلات.
هذه العملية يمكن أن تتم خلال سنتين من العمل الدؤوب بفريق عمل مكلف حسب الأهداف ويضم قيادة من رئاسة الحكومة مع رجال إحصاء من المعهد الوطني للإحصاء ووزارة الشؤون الإجتماعية وخبراء من المركز الوطني للإعلامية ووزارة تكنولوجيات الإتصال، وكنت قدمت سنة 2016 إلى رئيس الحكومة هذا التصور لكني لم ألمس أية ردة فعل. ولو تم البدئ في هذه المنظومة منذ ذلك التاريخ لانتهينا منها منذ بداية سنة 2019 ولوجدنا معطيات دقيقة وثابتة لتوزيع إعانات جائحة الكورونا على أساسها.
*2- وضع خيارات ومعايير الخطة وتحديد الهياكل المتدخلة في المنظومة الجديدة للدعم :
في هذه المرحلة تتدخل مصالح وزارة التجارة والمعهد الوطني للإستهلاك لضبط معدل حاجيات كل فرد وكل أسرة الشهرية من كل مادة من المواد الإستهلاكية المدعمة (مثلا تحديد الحاجيات الشهرية لأسرة متركبة من خمسة أفراد من مادة السكر بثلاثة كيلوغرامات ومن مادة الزيت النباتي بأربعة لترات على سبيل المثال) ويتم تحديد معدلات الإستهلاك من كل مادة بناء على دراسات ميدانية مدعمة بمعطيات من معهد التغذية حول الحاجيات الضرورية للحصول على تغذية كافية و متوازنة.
وبعد الحصول على معدلات استهلاك كل عائلة من المواد المدعمة يقع احتساب مبلغ الدعم المخصص لكل عائلة بجمع مبالغ دعم كل مادة باعتبار معدل الكميات المستهلكة الذي تمت الإشارة إليه للحصول على 100% من الدعم ( مثال: عائلة الخمسة أفراد تستهلك 3 كلغ سكر بدعم قدره 0,5 دينار للكلغ أي بدعم شهري في مادة السكر قدره 1,5 دينار + دعم في مادة الزيت النباتي قدره 0,8 دينار للتر الواحد أي بدعم شهري لأربعة لترات قدره 3,4 دينار ……وعند احتساب كل المواد نحصل على سبيل المثال على مبلغ دعم شهري 100% لكل المواد المدعمة قدره 45 دينار في الشهر ).
وفي هذه المرحلة تتدخل مصالح وزارة المالية ووزارة الشؤون الإجتماعية لوضع خيارات الدعم حسب فئات الدخل، فمثلا يتم إقرار نسبة دعم قدرها 100% للعائلات التي يقل دخلها الشهري الجملي عن 800 دينار في الشهر ، وإقرار نسبة دعم قدرها 75 % للعائلات التي يبلغ دخلها الشهري الجملي بين 800 دينار
و 1200 دينار في الشهر، وإقرار نسبة دعم قدرها 50 % للعائلات التي يبلغ دخلها الشهري الجملي بين 1200 دينار
و 1500 دينار في الشهر، وإقرار نسبة دعم قدرها 25 % للعائلات التي يبلغ دخلها الشهري الجملي بين 1500 دينار
و 1800 دينار في الشهر.
وعند الإنتهاء من وضع خيارات الدعم و المصادقة عليها من الهياكل الإجتماعية المعنية تبقى مسألة صرف مبلغ الدعم الشهري لمستحقيه، ويمكن إسناد هذه المهمة لمصالح وزارة المالية أو لوزارة الشؤون الإجتماعية باعتبار أن المبالغ المخصصة للدعم سوف تصرف مباشرة للمنتفعين لا للمنتجين، ويقترح في هذا المجال اعتماد تقنية الخلاص الآلي mobile paiement باعتبار أن كل العائلات تمتلك هواتف جوالة ويمكن صرف مبلغ الدعم الشهري لرئيس العائلة عن طريق الهاتف الجوال عبر المنظومة الإعلامية للدعم . وعن انطلاق عملية الخلاص ينتهي العمل بمنظومة دعم المنتوج الذي سيباع في السوق بسعره الحقيقي ويتلقى مستحق الدعم تعويضا في نهاية كل شهر .
*3- وضع منظومة قانونية وترتيبية لتثبيت المنظومات
و الخيارات التي تم التوصل إليها : لإضفاء مبدأ الشرعية على كل هذه الخيارات، ولتمكين مختلف الهياكل العمومية المتدخلة في منظومة الدعم من العمل، يتم تنظيم مختلف مراحل عمل منظومة الدعم الجديدة وتفصيل الخيارات التي يتم التوصل إليها عبر قانون إطاري الهدف منه هو مصادقة نواب الشعب على كل الخيارات وإكسائها الطابع الشرعي الضروري، والترخيص للهياكل العمومية المتدخلة في استعمال المعطيات الشخصية للمواطنين مع تحديدها بالقيود والشروط الضرورية لحماية المواطنين من كل استعمال غير ضروري، بالإضافة إلى تحديد مهام كل هيكل حكومي بكل دقة لضمان التناغم المطلوب بين كل المتدخلين في المنظومة، هذا مع ضمان تقييم سنوي لأداء المنظومة الجديدة للدعم قبل المصادقة على الميزانية لوضع تدابير تصحيحية عند الضرورة بقانون المالية.
ويمكن في هذا المجال استغلال المعرف الوحيد الذي تمت المصادقة على إنشاءه بمرسوم حكومي خلال شهر ماي المنقضي لإرساء منظومة الدعم الجديدة.
في الأخير أود الإشارة إلى أن المنظومة المقترحة يجب الإنطلاق في إعدادها فورا لربح الوقت مع تكليف فريق للإشراف عليها ووضع عقد أهداف يتضمن جد ولا زمنيا محددا مع تقييم مرحلي، وفي عملية الإعداد ستظهر بعض التغييرات والتعديلات التي سيتم إدخالها على المنظومة ويفرضها الواقع.
المهم أن ننطلق في إعداد المنظومة ، وتأكدوا أن هذه المنظومة ستوفر كنزا هاما من المعلومات التي ستمكن الدولة ومكاتب الدراسات والمحللين والإعلام من معطيات حقيقية و دقيقة وثابتة حول العائلات والتشغيل ونسب البطالة ونسب الفقر والعائلات المعوزة… إلخ، كما ستمكن مصالح الدولة من توجيه سياساتها الإجتماعية توجيها سليما ويحقق بذلك رضا المواطن ويخفف من نسب الإحتقان وما لذلك من تأثير مباشر على السلم الإجتماعي وعلى الإستقرار الأمني .
بقلم:لطفي الخالدي*
*رئيس مكتب وطني سابق لمنظمة الدفاع عن المستهلك، مدير عام سابق للوظيفة العمومية، والكاتب العام للمحكمة الادارية