اول الكلام
عامر بوعزة يكتب:فرح في جبانة
سارعت النيابة العمومية بفتح تحقيق عدلي إثر تداول مقطع فيديو لحفلة عرس وسط مقبرة في جهة المهدية، والتهمة التي سيدور حولها التحقيق هي «انتهاك حرمة المقابر». وجاء في البلاغات الصحفية التي أعلنت هذا الخبر أن مقطع الفيديو المذكور «أثار استياء رواد مواقع التواصل الاجتماعي» بما يعطي الانطباع بأن سرعة تحرك النيابة العمومية متصل بهذا الانطباع الفايسبوكي العام. وأيا كان تقييمنا لهذه المتلازمة، نعتقد أن النيابة العمومية قد اقتحمت في هذه القضية بالذات منطقة محفوفة بالمخاطر.
السبب الأول في ذلك أن زوايا الأولياء الصالحين المنتشرة في كامل تراب الجمهورية تُستخدم عبر التاريخ وباختلاف العادات والتقاليد في إقامة الأفراح العائلية تتساوى في ذلك الأسر التي تنحدر مباشرة من سلالة هذا الولي أو ذاك، والمريدون الذين قد يفدون من مناطق قصية لهذا السبب، وهي مسألة أساسية في التفكير الصوفي الشعبي المتوارث، حيث تعتبر زيارة الولي الصالح جزءا من تقاليد العرس أو الختان فضلا عن حفلات الزردة، ويتبرّك الناس بإقامة الاحتفالات في رحاب الزاوية وحول الأضرحة الموجودة فيها، والزاوية أولا وقبل كل شيء مقبرة. وهكذا نجد الكثير من الحفلات تقام في مقام سيدي المازري بالمنستير وهو يقع في مقبرة المدينة، أو مقام سيدي عامر المزوغي الذي فيه قبور كثيرة ويطلّ مباشرة على مقبرة القرية. وكذلك مقام سيدي جابر بالمهدية حيث تمّ تصوير الفيديو في قضية الحال، والموقف من الأفراح المقامة في الزوايا قد يخفي وراءه وإن عن حسن نية موقفا من هذه المعتقدات ذاتها، و أضرحة الأولياء الصالحين تظل دائما هدفا للسلفيين المتطرفين والتكفيريين وللإسلاميين الوهابيين.
السبب الثاني يتعلق بجغرافيا المقابر، فلئن كانت في بعض المدن الكبرى تقع خارج المجال العمراني فإن مقابر بعض المدن متصلة بالحياة اليومية وجزء من المشهد الحضري، ينطبق هذا على المنستير، التي يشق مقبرتها ممشى عريض يؤدي إلى روضة آل بورقيبة وهو مرصّع بالكراسي الحجرية ومتاح للعائلات في كل وقت وفي بعض الفصول يصبح ملاذا شبه آمن للعشاق الهاربين من عيون الفضوليين. أما مقبرة المهدية فعلاوة على مكانتها في نفوس أهل المدينة تعتبر الوجهة السياحية الأبرز في عاصمة الفاطميين، وهي تحفة شعرية تشهد عليها نصوص المنصف الغشام، الذي يحضر بدوره في نص بديع للمنصف الوهايبي عنوانه «شارع بول فاليري» يقول فيه:
لا عينَ للرؤيا/وقد رمّمتُ بالنسيان ذاكرتي/ومن يومين/في جبّانةٍ بحريّةٍ/في دار مملكة المعزّ الفاطميِّ/لعلّها سيتٌ لنا.أخرى/رأيتُ هناك في ثيدروسَ أهراءَ المنازلِ والدّلاءَ على التلالِ وفي الحقولِ./رأيت فيلاتِ الرومانيّين فلاّحينَ صيّادينَ…
السبب الثالث قانوني يتعلق بفحوى التهمة إذ أن انتهاك حرمة المقابر مفهوم مطاطي يتسع لأكثر من معنى، ويستخدم عادة لتجريم أفعال السحر التي يأتيها بعض الأفراد عند نبش المقابر أو تعاطي المخدرات والخمور في هذه الفضاءات حيث يتوفر قدر كبير من الهدوء والأمان للمنحرفين العتاة. وينبغي توفر قدر كبير من الاجتهاد والفهلوة لاعتبار حفلة أسرية في مقر ولي صالح انتهاكا لحرمة المقابر.
أما السبب الرابع فديني ميتافيزيقي، إذ ينقسم المفسّرون إلى قسمين: قسمٍ يرى أن وعي الانسان بما حوله يتوقف لحظة موته ولا يعود إليه إلا يوم القيامة، فيما يرى آخرون أن الموتى يسمعون ويرون ويشعرون بل ويبتهجون بما يصلهم من دعوات وصدقات، وحقيقةُ هذا في علم الغيب ومن أسرار الكون العظمى، ولا يعلم أحد إن كانت أفراح الأحياء تسعد الموتى أم تقضّ مضاجعهم وتشوش موتهم حتى يجدوا في النيابة العمومية نصيرا لهم ولمن استاء لحالهم في الفايسبوك.
لقد كان من الأنسب أن تتولى الإحاطة بهذه المسألة بلديةُ المكان لعلمها بعادات المدينة وتقاليدها ولضرورة أن تكون كل مظاهر الفرح خاضعة للترخيص سواء أكانت في مقبرة أم في قاعة أفراح، أما النيابة العمومية فمدعوة إلى الاهتمام بالأحياء لأنهم أحوج في وقتنا هذا من الموتى إلى الأمن والأمان.
عامر بوعزة،اعلامي تونسي بتلفزيون قطر، كاتب وشاعر