يحاول المغرب تحريك المياه الليبية الراكدة، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من اتفاق الصخيرات. تبدو المهمة جد صعبة وسط تحديات الانقسام الليبي وتدخلات أجنبية، لكن مؤشرات محادثات المغرب تبقى إيجابية، فهل تجنب ليبيا عودة الحرب؟
خمس سنوات مرّت على اتفاق الصخيرات، نسبة إلى مدينة الصخيرات المغربية التي احتضنت مشاوراته. لم يتغيّر الكثير في ليبيا، بل شهدت البلاد، في مرحلة ما بعد الاتفاق، حربًا مستعرة بين طرفين، واحد يمثل الجهة التي تمخضت عن محادثات الصخيرات وتملك شرعية أممية، أي حكومة الوفاق الوطني، والثاني يمثل ما يُعرف بـ”الجيش الوطني الليبي” (لا ييسط سيطرته الفعلية إلّا في الشرق)، وهو طرف لم يكن حاضرًا بقوة في النزاعات السياسية ما قبل الاتفاق.
وفي منتجع بوزنيقة (40 كيلومترا جنوب الرباط) وعلى مقربة من الصخيرات حيث قصر المؤتمرات الذي وقع فيه اتفاق الصخيرات، تتواصل محادثات الحوار الليبي، ومن خلالها تحاول الرباط مرة أخرى التوّسط لحلّ الأزمة عبر احتضان مشاورات جديدة بين طرفي الأزمة و برعاية الأمم المتحدة، ويحضر في المحادثات وفد يمثل مجلس النواب المتمركز شرق البلاد، وهي المؤسسة التي باتت تمثل ذراعا سياسيا لخليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي”، ووفد يمثل المجلس الأعلى للدولة، التي تأسس بدوره بعد اتفاق الصخيرات، ويوجد في المعسكر السياسي ذاته مع حكومة الوفاق.
وعكس عدد من المؤتمرات التي ضمت فرقاء المشهد الليبي، كمؤتمر برلين، ومبادرات أخرى تقدمت بها بعض دول الجوار كليبيا ومصر، لا ترغب الرباط في تقديم أيّ مبادرة جديدة أو إجراء تعديلات على الجهود الأممية، إذ تؤكد أن اللقاءات التي لا تزال مستمرة منذ يوم الأحد 7 سبتمبر هي تكميل للدور الأممي في المسار الليبي.
المغرب ودور الوساطة
حافظت الرباط على مدار السنوات الماضية، على خط من الحياد مقارنة مع قوى دخلت مؤخرًا، فرغم أن المغرب أكد انحيازه لاتفاق الصخيرات كأساس للبناء، إلّا أنه لم يدخل في سياسة دعم طرف دون آخر في الحرب الليبية. وهو توجه مكّنه من مصداقية بين طرفي الأزمة، لكن للمغرب كذلك حساباته الخاصة من احتضان هذه المحادثات.
“ينظر المغرب أيضًا إلى الملف الليبي من زاوية مصالحه الجيو استراتيجية في جواره الإقليمي، فهو يريد أن يكون النظام الليبي القادم صديقًا له، وليس معاديًا كما وقع مع تجربة القذافي الذي سبّب الكثير من المشاكل للمغرب، لا سيما عندما دعّم تأسيس جبهة البوليساريو” يقول سعيد الصديقي أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس المغربية.
هل تتحقق النتائج المطلوبة؟
لم تعلن الأطراف الحاضرة في الاجتماع عن نتائج مشاوراتها، سوى بتصريحات ديبلوماسية تؤكد أن أجواء النقاش كانت إيجابية، وأن هناك تفاهمات مبدئية حول المؤسسات الرقابية والأسماء المقترحة لقيادتها، ومنها مصرف ليبيا المركزي، والمحكمة العليا، والنائب العام. كما تم الإعلان عن توافق على تثبيت وقف إطلاق النار. وتستمر المحادثات ليوم إضافي على الأقل، ما يعدّ مؤشرًا إيجابيًا على تقديم المحادثات لإضافة كبيرة في مسار الحل.
غير أن المتتبع لمسار النزاع الليبي يُدرك صعوبة تحقيق تقدم كبير لحلّ الأزمة في هذه الظرفية، وأن الجهود المغربية، رغم أهميتها، قد لا تحقق التقارب المنشود بسبب تشدّد مواقف طرفي الأزمة، خاصة مع استمرار خرق هدنة هشة بدأت قبل أسابيع، والتلويح المستمر بالعودة إلى الحرب، ودخول قوى أجنبية في البلاد دعمًا لمعسكري القتال.
ولم تعد التحديات في الأزمة الليبية متعلقة فقط بالحرب بين سلطات الشرق والغرب، بل بالانقسامات الداخلية حتى داخل كل معسكر، فإيقاف حكومة الوفاق لوزير داخليتها فتحي علي باشاغا مؤقتًا لم يظهر مجرّد قرار سياسي، إذ كان باشاغا يملك نفوذًا كبيرًا في مدينة مصراتة، وكان على توتر مع المجموعات المسلّحة الداعمة لفايز السراج في طرابلس.
وحتى في الشرق الليبي، يعرف مجلس النواب بدوره انقسامًا واضحًا وسط تراجع عدد النواب المؤيدين فعليًا لرئيس المجلس عقيلة صالح. كما أن هذا الأخير يظهر مُركزا على الحلّ السياسي ويبحث عن نجدة من الأمم المتحدة تضمن له دورًا في ليبيا المستقبلية، ما عمق خلافات بينه ويين حفتر. ظهر الخلاف أكثر عندما أبدت قوات حفتر عدم اقتناعها بوقف إطلاق النار المعلن قبل أسابيع، في وقت احتفى به عقيلة صالح.
وتأتي القوى الخارجية لتزيد من الانقسامات الليبية، إذ يقول سعيد الصديقي إن كثرة هذه القوى “يعدّ عائقاً أمام حلّ الأزمة، ومهما حاولت الأطراف الليبية التقارب، فلن يحدث ذلك ما لم تتوافق القوى الدولية على الحل”.
وما يدعم حديث المحلّل هو كم التناقضات بين القوى الأجنبية في ليبيا، وأكبر مثال العداوة الإيديولوجية بين تركيا من جهة والإمارات ومصر من جهة أخرى، والتهديدات باندلاع مواجهات مسلحة مباشرة بينهما. كما أن التدخل التركي عقّّد المسألة، ففي الوقت الذي يرفض فيه الغرب قيام نظام عسكري يضرب عرض الحائط القرارات الأممية، تتخوّف قوى غربية وعلى رأسها فرنسا من تمدّد النفوذ التركي في البحر المتوسط، مستندًا على دعمه لحكومة معترف بها أمميًا.
هل هناك إمكانية حقا لحل سياسي؟
يؤكد المغرب، على لسان وزير خارجيته، ناصر بوريطة، أن الحلّ في ليبيا سياسي، وهو الكلام ذاته التي أكدته تونس والجزائر وأطرافٌ عديدة عربية وغربية، غير أن واقع الأرض في ليبيا يبيّن أن الهدنة الموقعة لم تتحقق إلّا بعد تطوّر المعارك، وتحديدًا بعد تقهقر قوات حفتر من مناطق غرب البلاد واستعادة قوات الوفاق لمواقع كثيرة
وتبقى مدينة سرت ومحيط الهلال النفطي عموما كرة لهب بين الطرفين، إذ يرفض حفتر أن تتحول إلى منطقة منزوعة للسلاح، في حين تطمح قوات السراج، ومن ورائها تركيا، إلى السيطرة على منطقة ذات استراتيجية مهمة، ما يجعل معركة سرت متوقعة في أيّ لحظة. ويزيد الشرخ بين الأذرع السياسية والعسكرية داخل كل طرف من طرفي القتال تهديدات الحرب، وهو ما يظهر جلياً في الشرق الليبي الذي تتباين قراراته السياسية والعسكرية.
ويرى سعيد الصديقي أن “الملف الليبي يعيش حالياً مأزقًا عسكريًا”، وهناك خشية أن تحاول بعض الأطراف الليبية، من خلال لقاءات كتلك التي تجري في المغرب، “الاستجابة لبعض الضغوط الدولية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، وكسب مزيد من الوقت للتهيؤ للمعركة الحاسمة عندما تتوفر الظروف الملائمة، خاصة مع غياب توافق القوى الدولية المؤثرة في الميدان على صيغة الحل السلمي”.
وتخلص صحيفة “نوير تسوريشه تسايتونغ” السويسرية إلى أن العودة إلى سيناريو حرب كبرى لا يمكن تفاديه في ظل هشاشة الوضع الحالي. وتستند الصحيفة على تقارير أممية سرية نشرتها “نيويورك تايمز”، كشفت أن القوى الأجنبية مستمرة في الدعم العسكري لمن تدعمه في ليبيا، وتوصلت قوات حفتر بحوالي 70 طائرة شحن وسفينة، فيما توصلت قوات السراج بـ30 طائرة وسفينة، والمثير أن حتى قطر، التي قلّصت إمداداتها العسكرية لحلفائها منذ سنوات، أرسلت بدورها معدات عسكرية حسب التقرير ذاته.