كشفت صحيفة The Times البريطانية، الجمعة 23 افريل 2021، أن المتمردين الذين تعهدوا باقتحام العاصمة والاستيلاء على السلطة في البلاد بعد مقتل رئيسها، تلقّوا تدريبات عسكرية في ليبيا المجاورة على أيدي مرتزقة فاغنر الروسية، وهم على ارتباط بالكرملين.
بحسب الصحيفة، فإن مقاتلي ما يُعرف بـ“جبهة التغيير والوفاق في تشاد” سبق أن جنَّدتهم ودرَّبتهم “مجموعة فاغنر”، وهي مجموعات مرتزقة عسكريين شبه نظامية يُديرها شخصية مقربة من الرئيس الروسي بوتين، للقتال إلى جانبهم خلال الحرب الأهلية الليبية.
مجموعة فاغنر، من جانبها، رسَّخت وضعها بالفعل في جنوب ليبيا خلال العام الماضي، بعد أن استعان بها في الأصل خليفة حفتر لدعم حملته العسكرية على حكومة الوفاق المعترف بها أممياً.
تشير الصحيفة البريطانية إلى أن المتمردين قد التحقوا بالأساس إلى الجنوب الليبي، عبر الحدود الصحراوية من تشاد، وجنَّدتهم قوات موالية لحفتر لاحقاً؛ حيث لم تكن مطالبهم الرئيسية تتعلق بالأموال، وإنما بالأفضلية العسكرية التي يمكن أن يوفرها لهم العمل مع قوات حفتر والجنود الروس السابقين في مجموعة فاغنر.
كما أشارت الصحيفة إلى أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر قد أمدَّهم بمركبات عسكرية ومعدات حصل عليها من الإمارات. ويقول المسؤولون إنه قد ورد إليهم أن المتمردين تلقوا تدريبات على يد مقاتلي فاغنر في قاعدتين في جنوب ووسط ليبيا، وربما حصلوا على معدات خاصة منهم أيضاً.
تشاد بعد وفاة رئيسها
تُوفي رئيس تشاد، إدريس ديبي، الذي كان يبلغ من العمر 68 عاماً، متأثراً بجراح أُصيب بها خلال زيارة لجبهة القتال يوم الإثنين 19 افريل حيث كانت قواته تقاتل متمردي التغيير والوفاق.
وأعلن المتمردون وقف إطلاق النار حتى انتهاء جنازة ديبي المقررة اليوم، والتي سيحضرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الداعم الدولي الرئيسي لنظام الحكم في تشاد، لكنهم تعهدوا بالتقدم من مواقعهم على بعد 240 كيلومتراً لاقتحام العاصمة إنجَمينا بحلول نهاية الأسبوع. وقد عزَّز المتمردون قواتهم بمعدات وأسلحة حصلوا عليها من ليبيا، بالإضافة إلى انضمام نحو ألفي مقاتل لهم في الأيام الأخيرة.
من جهة أخرى، يؤكد إصرار ماكرون على حضور الجنازة، في تحدٍّ لتحذيرات الجبهة، الأهمية التي توليها بلاده للتحالف مع المجلس العسكري الجديد في تشاد، والذي تولى الحكم في البلاد بعد مقتل ديبي ويرأسه نجله محمد ديبي، الذي يبلغ من العمر 37 عاماً، وهو جنرال من فئة الأربع نجوم. كما دافعت فرنسا أمس عن استيلاء الجيش على السلطة باعتباره ضرورة وسط “ظروف استثنائية” تعيشها البلاد.
لطالما كان الرئيس السابق، وهو مقاتل متمرس وطيار تلقى تدريبه العسكري في فرنسا، ركيزةً أساسية في استراتيجية فرنسا الأمنية في إفريقيا، وفي المقابل، بلغت ديكتاتوريته العسكرية حداً بعيداً في القسوة والفساد دون رادع لمدة ثلاثة عقود. وتنشر فرنسا نحو 5 آلاف جندي في العاصمة في إطار ما يُعرف بعملياتها الدولية لمحاربة المتشددين في دول إفريقيا المجاورة.
ويقول كاميرون هدسون، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية والمتخصص في شؤون تشاد، لصحيفة The Times، إن “ماكرون يسعى إلى تأكيد تحالفه مع نجل ديبي، وإعلام الأخير بأن فرنسا تدعمه”.
دور روسي مقبل
على الناحية الأخرى، يتواصل اعتماد روسيا على الاضطرابات في ساحات إفريقيا لإعادة نفوذها إلى دول القارة، بعد انهياره في أعقاب الحقبة السوفييتية.
ولم يكن هذا الأمر أكثر وضوحاً منه في ليبيا ما بعد القذافي، حيث استفادت مجموعة فاغنر، التي يعدُّ مقاتلوها وكلاء الكرملين الفعليين في إفريقيا، من علاقاتهم ودعمهم للمتمردين في منطقة تعج بالاضطرابات. وفي هذا السياق، فإن التحالف مع متمردي جبهة الوفاق والتغيير في تشاد، ودعمهم في هدفهم المزمع بالاستيلاء على السلطة في إحدى أهم دول إفريقيا من جهة الموقع الاستراتيجي، من المرجح أن يعود بفوائد على الحليف الروسي.
يذهب كاميرون هدسون، المسؤول الأمريكي السابق، إلى هذا الرأي، مستدلاً على ذلك بأن “تشاد تقع فعلياً على مفترق طرق ذي صلة بمعظم الصراعات الكبيرة التي تشهدها القارة، ولديها مستوى تأثير ضخم، ومن ثم فإن روسيا بحيازتها تأثيراً أكبر في مستقبل تشاد يمكن أن تضمن، عبر فاغنر، ليس فقط الوصول إلى موارد البلاد الطبيعية، لكن [وقدراً أكبر من النفوذ] في منطقة حيوية لجهود الدول الغربية لاحتواء المقاتلين المتشددين عبر غرب ووسط إفريقيا”.
يُذكر أن روسيا لديها نفوذ أيضاً في جمهورية إفريقيا الوسطى الغنية بالمعادن، والتي يعمل فيها فاليري زاخاروف، وهو مسؤول استخبارات روسي سابق، مستشاراً أمنياً لرئيس البلاد تواديرا. كما يحرز الكرملين مزيداً من التقدم في علاقاته مع القيادة الهشة في السودان بعد الإطاحة بعمر البشير، حيث تتيح له البلاد الوصول إلى البحر الأحمر.
ستغلةً انشغال تشاد بإجراء انتخابات رئاسية تحت وقع مظاهرات واضطرابات سياسية وهجمات “بوكو حرام” غرباُ، واشتباكات قبلية جنوباُ، هاجمت مجموعات من المرتزقة التشاديين مناطق شمالي البلاد انطلاقاُ من ليبيا.
وأربك هذا الهجومُ المشهدَ السياسي والأمني في تشاد، خاصة بعد أن تسبب في مقتل رئيس البلاد إدريس ديبي، عقب يوم واحد فقط من إعلان فوزه بولاية رئاسية سادسة.
وتشكل هذه التطورات أول انعكاسات الضغط الدولي على المرتزقة الأجانب للخروج من ليبيا على دول المنطقة.
حيث اعتبرت سفارة واشنطن لدى طرابلس أن دخول مرتزقة تشاديين إلى بلادهم انطلاقاً من ليبيا، “يسلط الضوء مرة أخرى على الحاجة الملحة لجعل ليبيا موحدة ومستقرة مع سيطرة على حدودها”.
هجوم مفاجئ
ففي 11 افريل الجاري، وبينما كان التشاديون منشغلين بالإدلاء بأصواتهم، هاجم رتل سيارات مسلحة تابعة لجبهة “التناوب والوفاق” التشادية المعارضة، بلدة زواركيه شمالي البلاد، انطلاقاً من الأراضي الليبية، وأعلنت سيطرتها عليها دون مقاومة.
ورد الجيش التشادي بقصف جوي لأرتال المتمردين في زواركيه، بطائرتي “ميغ 21″، في اليوم التالي لسقوط البلدة لوقف تقدمهم، بحسب ما نقلت إذاعة فرنسا الدولية عن شاهد عيان.
بينما زعمت جبهة “التناوب والوفاق” التي تضم ائتلافاً من 4 جماعات متمردة، أنها أسقطت 3 مروحيات حربية، وتزحف للسيطرة على كامل منطقة تيبستي الجبلية (شمال غرب).
إذ إنه بعد نحو أسبوع من بداية هجمات المتمردين، تقول إذاعة فرنسا الدولية إنهم يسيطرون على محيط يشمل بلدة غوري، وهي نقطة ساخنة على بعد 200 كيلومتر من مدينة فايا لاغو (وسط).
بينما يقول المتمردون إنهم سيطروا على عدة بلدات في الشمال تتمثل في: وور، زواركيه، زوار، غوري، زيغاي.
معركة غيّرت معالم المواجهة
لكن المتمردين بدل التوجه إلى فايا (وسط)، انحرفوا غرباً بموازاة الحدود مع النيجر، وهجموا على إقليم كانم (غرب) الأقرب إلى العاصمة نجامينا من فايا، إذ لا يبعد عنها سوى بنحو 300 كلم، وهي مسافة ليست بعيدة جداً بمعايير الصحراء.
وكان هذا تطوراً خطيراً دفع الولايات المتحدة إلى الطلب من رعاياها في تشاد ضرورة مغادرة البلاد.
ووقعت معركة مصيرية شمالي كانم، في 17 أفريل، بين المتمردين والجيش الحكومي، الذي كان تحت قيادة الرئيس ديبي وكبار قادة جيشه، بحسب مصادر حكومية ومن المعارضة المسلحة، ما يعكس أهميتها الاستراتيجية في تحديد مستقبل البلاد.
حيث أعلن الجيش الحكومي مقتل نحو 300 متمرد وأسر 150 آخرين، بالإضافة إلى 5 قتلى في صفوفه، مستدلاً بصور لبعض القتلى وعشرات الأسرى، ما يؤكد حسمه هذه المعركة لصالحه.
واعترف المتمردون ضمنياً بأنهم انهزموا في كانم، وتحدث زعيم جبهة “التناوب والوفاق” محمد مهدي، في حوار مع “إذاعة فرنسا الدولية”، أنهم نفذوا “انسحاباً استراتيجياً” نحو الشمال.
ونشر المتمردون، في بيان مؤرخ في 19 افريل ، أسماء 15 ضابطاً كبيراً بين جنرال وعقيد، قتلوا أو أصيبوا أو فُقدوا، بينهم الرئيس ديبي ذاته، الذي قالوا إنه “أصيب” دون توضيح.
وبعدها بيوم واحد، وفي ظروف ملتبسة، أعلن الجيش التشادي وفاة ديبي متأثراً بجراحه، وتولي ابنه رئاسة مجلس عسكري، سيقود البلاد في المرحلة الانتقالية طوال 18 شهراً.
عندما تجتمع الأزمات
نقطة ضعف الجيش التشادي أنه يقاتل على أكثر من جبهة، فجماعة بوكو حرام تشن عليه حرباً شرسة غرباً في منطقة بحيرة تشاد الكثيفة الأحراش والمستنقعات وحتى الجزر الصغيرة.
وخسر الجيش عشرات من رجاله في معارك عنيفة مع عناصر بوكو حرام في بحيرة تشاد ربيع 2020، لكنه تمكن من هزيمتها في عملية عسكرية واسعة قال إنه قتل ألفاً من عناصرها، وحرر المناطق التي كانت تسيطر عليها غرب البلاد.
لكن تهديد “بوكو حرام” لتشاد لم يتوقف، ففي اليوم نفسه الذي هاجم فيه متمردو جبهة “التناوب والوفاق” منطقة تيبستي، قتل جنديان تشاديان وأصيب 11 آخرون بينهم 4 مدنيين، في كمين قرب الحدود النيجيرية (غرب)، بحسب مصادر حكومية.
وتسهم تشاد بـ3 آلاف جندي في “قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات”، التي فوّضها “الاتحاد الإفريقي” لمحاربة “بوكو حرام” في حوض بحيرة تشاد، والتي تضم أيضاً نيجيريا والنيجر وبنين والكاميرون.
وتشارك نجامينا كذلك ضمن تحالف مجموعة دول الساحل الخمس، الذي يضم أيضاً مالي وبوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا.
وأرسلت نجامينا نحو 1300 جندي إلى منطقة الحدود بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، لمحاربة التنظيمات الإرهابية التابعة لـ”داعش” و”القاعدة” بتشجيع من فرنسا.
فضلاً عن مشاركة جنود تشاديين ضمن قوات أممية في مالي “مينوسما”، قتل بعضهم في هجمات لجماعات مسلحة شمالي البلاد.
ولا يضم الجيش التشادي في صفوفه سوى 35 ألف مقاتل، منهم 4500 من القوات شبه العسكرية، بحسب موقع غلوبال فاير باور الأمريكي، لكنه يُعد من أشرس جيوش منطقة الساحل.
كما تواجه البلاد اشتباكات قبلية في جنوبها، حيث قتل نحو 100 شخص جراء مواجهات دامية في ثلاث قرى محيطة ببلدة موراي، بولاية سلمات (جنوب)، بين 14 و16 أبريل الجاري.
وفرّ قرابة ألفي لاجئ سوداني إلى شرق تشاد هرباً من القتال الذي اندلع في ولاية غرب دارفور منذ 3 أبريل، وأوقع 144 قتيلاً على الأقل.
وضع سياسي ساخن
وليس الوضع الأمني المضطرب، شمالاً وجنوباً غرباً وشرقاً، ما كان يقلق ديبي، الذي حكم البلاد منذ 1990.
فالوضع السياسي هو الآخر كان يغلي بالمظاهرات المطالبة بتنحي ديبي من الحكم.
وتتهم منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، قوات الأمن التشادية بشن “حملة شرسة على المتظاهرين والمعارضة السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية، ما يضر بحق التشاديين في اختيار ممثليهم المنتخبين بحرية”.
وتقول المنظمة إن قوات الأمن استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين السلميين في نجامينا في 6 و15 فيفري ، و20 و27 مارس وأصابت عشرات المتظاهرين والمارة، واعتقلت تعسفياً أكثر من 112 من أعضاء وأنصار الأحزاب المعارضة ونشطاء المجتمع المدني.
وتشير إلى هجوم شنته قوات الأمن على منزل زعيم المعارضة السياسية والمرشح الرئاسي يحيى ديلو، في 28 فيفري وقتلت والدته (80 عاماً) وابنه (11 عاماً)، وأصابت 5 آخرين من أفراد أسرته.
بينما تقول الحكومة إن الغرض من المداهمة كان اعتقال ديلو، الذي لم يمتثل لمذكّرتين قضائيتين، و”ردّ بمقاومة مسلحة”، حيث قُتل شخصان وأصيب 5 آخرون في القتال، بينهم 3 عناصر أمن، فيما ينفي شهود عيان وجود رد مسلح من منزل ديلو.
فرنسا الغائب الحاضر
عادةً ما كانت فرنسا تتدخل عسكرياً لنجدة حليفها ديبي، إذ لعبت طائراتها الحربية سابقاً دوراً حاسماً في وقف زحف المتمردين نحو نجامينا، لكنها هذه المرة تبدو مترددة في التدخل.
وقد يعود ذلك إلى أن المتمردين ما زالوا بعيدين عن العاصمة التشادية بمئات الكيلومترات، ولا يشكلون إلى الآن خطراً حقيقياً على نظام ديبي.
كما لا تريد باريس إحراج نفسها في تدخل عسكري سافر لدعم زعيم إفريقي يتهمه خصومه السياسيون بالفساد والاستبداد.
لكن فرنسا لن تسمح بسقوط النظام الذي أسسه ديبي، والذي دعم عمليتها العسكرية “برخان” في الساحل بنحو 1300 مقاتل، كما أن نجامينا تحتضن قيادة عملية برخان.
فأي تغيير في النظام بتشاد من شأنه أن يؤثر على خطط باريس في محاربة التنظيمات الإرهابية بالساحل، واستمرار استنزاف قواتها بالمنطقة بشكل قد ينعكس سلباً على حظوظ ماكرون في الفوز بولاية رئاسية ثانية.
لكنّ إعلاماً فرنسياً يؤكد أن بلاده تزود الجيش التشادي بجميع المعلومات عن مواقع المتمردين وعددهم وتحركاتهم دون التدخل مباشرة في القتال.
وهذا ما أشارت إليه جبهة “التناوب والوفاق” في أحد بياناتها، عندما تحدثت عن أنه “بعد كل تحليق للطائرات الفرنسية فوق موقعها، يعقبه قصف من طيران الحكومة”. داعيةً باريس إلى الحياد.
وبهزيمة المتمردين في كانم ومقتل ديبي، تكون تشاد طوت مرحلة ودخلت أخرى جديدة صعبة سواء من الناحية السياسية أو الأمنية، فبلدات الشمال بتيبستي ما زالت خاضعة لجبهة “التناوب والوفاق” ما يعني أن المعارك لم تنتهِ بعد.