تونس تودع اب المياه: عامر الحرشاني يغادر عالمنا
غادرنا عشيّة امس الخميس 5 اوت أحد بناة دولة الاستقلال و كاتب الدولة للموارد المائية و “أب السدود والموارد المائية” كما يحلو للمختصّين نعته، المهندس عامر الحرشاني عن سنّ 84 سنة بعد توعّك صحّي ألمّ به في الفترة الأخيرة بعد اجرائه لعملية جراحية قبل سبعة اشهر
لم أكن اعرف الرجل عن قرب إلا من خلال وسائل الإعلام وظهور من حين لآخر في التلفزة أو في الصّحف والمجلات بمناسبة تدشين بعض المشاريع المائية الكبرى التي كان مكلفا صلب وزارة لفلاحة أو من خلال إطلالاته القصيرة أثناء فترات الجفاف والفيضانات التي كانت تجد لتونس من حين آخر… غير أنّ الصديق والأخ الأكبر، الدكتور أحمد المناعي وزميل الدراسة معه بمدينة غرينوبل قد نصحني باستضافته في برنامجي الإذاعي “شهادات حيّة” بإذاعة المنستير، فاتصلت به فرحب بالدعوة ووعد بتلبية الطلب بعد إجراء عملية على القلب. وبعد تعافيه حللت مع الفريق العامل معي في البرنامج خلال شهر مارس 2019 ببيته بمونفليري فرحّب بنا أحسن ترحاب وفتح لنا بيته وقلبه.
وجدت في الرجل صفات “الرجل العالم” والمتواضع في ذات الوقت والخبير الملمّ بكل ما يتصل بالماء في تونس وشمال إفريقيا والعالم إلى درجة خلته “مؤرخا” للماء والمنشآت المائية…
وفي حوار مطوّل قمنا ببثه على حلقتين يومي الأحد 24 و 31 مارس 2012، حدثنا “سي عامر” عن نشأته ودراسته ومسيرته المهنية الطويلة، بدءا بعلاقة سكان تونس بالمياه منذ الفترة البربرية إلى اليوم وقصة سكان الجريد و قصّته الشخصية مع الماء التي تواصلت على امتداد أكثر من نصف قرن، بدءا بدراسته العليا بالمدرسة الوطنية للهندسة متعددة الاختصاصات بغرينوبل (L’École Polytechnique de Grenoble)، مرورا بالخطط والمسؤوليات التي شغلها صلب وزارة الفلاحة منذ منتصف الستينات واهم انجازاته على رأس إدارة الموارد المائية بالوزارة من خطط وبرامج لحماية تونس الكبرى من الفيضانات سنة 1974 والتربصات التي أنجزها خارج تونس بأوروبا والولايات المتحدة واستراليا وإفريقيا والبلدان العربية… والسدود التي كان وراء إحداثها بوادي مجردة وسد زرود و وسد مرق الليل ومشروع مياه الشمال للماء الصالح للشراب و سد نبهانة للري بالوسط والساحل …، وصولا إلى دراساته الكبرى حول الماء بتونس في آفاق سنة 2030 وسبل ترشيد استهلاك المياه وتحلية مياه البحر…، في ظل شحّ المياه المقدمة عليه بلادنا في العقود القادمة.
وبهذه المناسبة الأليمة واعترافا لما قدمه هذا الرجل “الصامت” من خدمات في مجال المياه ووفاء لروحه الطاهرة، رأيت من الضروري أن أخصّ “سي عامر” بهذه الورقة المتواضعة على أمل أن نفي الرجل حقّه.
الولادة والنشأة
ولد السيّد عامر الحرشاني يوم 25 أكتوبر 1937 بمدينة دقاش بالجريد التونسي موطن عالم المياه ابن الشباط (1221-1285) وسط أسرة متواضعة وكثيرة العدد. كان والده فلاحا أمذّا والدته فكانت من عائلة الهمّامي متعلمة وابنة قاض عمل بصفاقس ثمّ بقابس مع والد الشاعر أبي القاسم الشابي، القاضي محمّد الشابي.
الدراسة
زاول دراسته الابتدائية والثانوية بالمدرسة الصادقية بتونس العاصمة… وإثر حصوله على البكالوريا شدّ الرحال نحو فرنسا للدراسة بالمدرسة العليا للهندسية بغرينوبل في اختصاص المنشئات المائية ثمّ بالمعهد الوطني لعلوم وتقنيات الذرّة المدنية الذي تخرّج منه سنة 1967 بتخصّص في مجال المنشآت المائية ومقاومة الفيضانات. وبغرينوبل تتلمذ على أكبر أساتذة فرنسا من أبرزهم أستاذ الفيزياء “” (Louis Eugène Félix Néel) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1970.
مسيرته المهنيّة
فور عودته إلى تونس كُلّف بالإشراف على عديد المشاريع المائية صلب وزارة الفلاحة من أهمها:
• إدارة شبكة مياه الأمطار والمياه المستعملة بتونس سنة 1968.
• تهيئة واد زرود سنة 1970.
• تهيئة السباخ والبحيرات سنة 1974.
• الإدارة العامة للدراسات والسدود بين 1974 و 1988.
• كتابة الدولة للموارد المائية منذ إحداثها سنة 1988 إلى غاية سنة 2003 وقد عمل على امتداد 17 سنة مع ثمانِ وزراء فلاحة متتالين دون انقطاع، وهو استثناء في تاريخ وزارة الفلاحة والحكومة عامة منذ الاستقلال. ومردّ ذلك أنه لم يكن مسيّسا أو منحازا لطرف أو حزب سياسيّ ما بل كان جوما ينتمي لما يعرف بالمسؤول السامي “التكنوقراط”. كان وراء انجاز 40 سدا بكامل جهات البلاد (باستثناء سد مجردة وملاق) وهو ما “أب السدود” أو “سيّد السدود” (Monsieur Barrage).
كما أعدّ عديد الدراسات الإستراتيجية حول المياه بالمناطق الجافة وآفاق المياه في تونس خلال سنة 2030 نشرت بمجلاّت وطنية وأجنبية محكّمة بفرنسا والولايات المتحدة واليابان …
ودرّس بالمدرسة الوطنية للمهندسين بين 1975 و 1986 وأطّر عشرات الطلبة و الباحثين بها وحاضر حول المياه بتونس في العديد من المدارس الوطنية والكليات بتونس وكبرى الجامعات في سائر أنحاء العالم…
وعلى امتداد مسيرته المهنية الطويلة أحرز السيّد عامر الحرشاني على عديد الجوائز وشهادات التقدير والأوسمة والميداليات الوطنية والدولية داخل تونس وخارجها…
دراساته
أحصينا للمرحوم الأستاذ عامر الحرشاني 32 دراسة علمية حول المياه والسدود في تونس والعالم، نشرت بكبر المجالات المختصّة والمحكّمة بالغتين الفرنسية والانجليزية، دون احتساب بعض الدراسات باللغة العربية.
ونظرا للقيمة العلمية لهذه الدراسات نورد القائمة الكاملة لها:
1. Refroidissement d’un réacteur atomique à neutrons rapide par sodium liquide, aplatissement de la répartition de la distribution de la température, Centre de recherche atomique de Cadarache (1967), France.
2. Calcul des réseaux des eaux pluviales de Tunis (1968).
3. Calcul des stations d’épuration des eaux de Tunisie, HAR (1968).
4. Calcul des digues de protection contre les inondations HAR (1969).
5. Aménagement hydraulique de l’oued Zeroud, de l’oued Merguellil et l’oued Medjerda en Tunisie HAR (1970).
6. Aménagement des lacs et sebkhas (revue technique de L’équipement 1974).
7. An Exemple of Large Water System Analysis, the water model of Tunisia (1987) par Horchani A. et Dosseur D.
8. Electricité de France, HAR (1987).
9. Conception de l’étanchéité et drainage des Barrages en Tunisie, Commission Internationale des Grands Barrages (1985).
10. Gestion des ressources en eau dans les pays arides (Collaborative Council – Cefigre, France, 1989).
11. Plan directeur de l’utilisation des Eaux du Nord de la Tunisie du Nord (pnud 1988).
12. Economie dans l’utilisation de l’eau, horizon 2congres international sur la gestion des ressources en eau Alger (1990).
13. Calcul des barrages collinaires en Tunisie HAR (1992).
14.Barrages d’épandage des crues HAR (1994).
15. Barrages à dégâts maîtrisables après les crues HAR(1994)
16. Maîtrise des argiles gonflantes dans les ouvrages HAR (1995).
17. Calculs des ouvrages spéciaux des grandes conduites sous Pressions (1979).
18. Drainages des barrages en Tunisie sécurité des barrages HAR (1999).
19. Gestion de l’eau en Tunisie HAR (1995).
20. L’EAU en 2030 en Tunisie (1998).
21. Guide de l’auscultation des barrages en Tunisie HAR (1995).
22. Shortage of water a fondamental problem in arid areas Water symposium Stockholm (1991).
23. Infrastructures for Development, Banque Mondiale, Paris (1994).
24. Impacts of Water and Waste Management in Arid Areas environmental and health issues, Forum International de l’Eau , DUBLIN (1996).
25. Gestion intégrée de l’eau en Tunisie HAR (1997).
26. La Gouvernance de l’Eau, reformes dans le secteur en Tunisie, séminaire BIRD, Forum Mondial de l’Eau, LA HAYE (2000).
27. Guide de la gestion de la sécheresse en Tunisie HAR (2001).
28. Gestion de l’Eau en Tunisie, perspectives 2030, congrès international de l’eau à KYOTO.
29. La Mer Intérieure institut des études stratégiques (2003).
30. La mise en valeur hydraulique et intégrée du grand sud
31. Institut des études stratégiques (2004).
32. La Recherche dans le Secteur de l’eau en Tunisie (Conseil National Consultatif de la Recherche et de la Technologie 2004).
شهادة تلميذ في حقّ أستاذه
قال في شأنه السيّد عبد الله الرابحي (كاتب دولة لدى وزير الفلاحة والموارد المائية و الصيد البحري، مكلف بالموارد المائية والصيد البحري المعيّن في 21 أوت 2016) شهادة مؤثرة نُشرت بالموقع الالكتروني 17-14 بتاريخ 03 جوان 2020 ونظرا لقيمتها وصدقيّتها وتعميما للفائدة رأيت من الواجب إدراجها في هذه الورقة.
من غير المقبول ان لا أتناول سيرة رجل أعطى الكثير لقطاع المياه بتونس: عامر الحرشاني سخر حياته كلها يتنقل بين الأودية والشعاب ليلا نهارا بحثا عن المكان الانسب لمشروع سد او للاطلاع على جيولولوجيا المكان. عدا سدود ملاق بيريرا وبني مطير، كل السدود التي أنجزت أو التي هي بصدد الانجاز وعددها أربعون كان لديه فيها نصيب كبير.
ولد في بلاد ابن شباط بالجريد، تخرج من مدرسة المهندسين بغرينوبل بفرنسا وكان لسعد بن عصمان رحمه الله قائدا اختاره ليكون ضمن النواة الأولى لقطاع المياه.
تخرج على يديه سواء كمدرس بالجامعة او كمدير عام للسدود أو ككاتب دولة جيل كامل من الإطارات السامية.
سمي في خطة كاتب دولة مكلفا بالمياه في 12 افريل 1988 في حكومة الهادي البكوش الثانية .اشتغل في هذا المنصب لمدة سبعة عشر سنة محطما بذلك رقما قياسيا لعضو حكومة قبل وبعد الثورة رغم انه كان غير منتم سياسيا .استغل مع ثمانية وزراء فلاحة وهم لسعد بن عصمان، صلاح الدين بن مبارك، النوري الزرقاطي رحمهم الله، المولدي الزواوي، امحمد بن رجب، مبروك البحري، الصادق رابح والحبيب الحداد.
ولولا الخصال العالية لهذا الرجل لما أمكن له الصمود طيلة هذه الفترة، ولقد كان لجيلي أستاذا وقائدا وأبا. قساوته حلاوة وإصراره على النجاح في خدمة المصلحة العامة جلبت له التقدير وطنيا وعالميا الى غاية اليوم.كانت زيارته الميدانية حين كنت اشتغل كرئيس دايرة بقفصة أواخر الثمانينات أولى المحطات في طريق طويل قادتني إلى عديد الولايات تمكنت من الاستفادة من نصائحه التي لا يبخل بها .استدعاه رئيس الدولة ليقترح عليه خطة وزير، فاعتذر بكل لطف راجيا ان يعفيه ليتفرغ أكثر لقطاع المياه قائلا بكل ديبلوماسية
“سيدي الرئيس انأ كالسمكة إن خرجت من الماء أموت”. لقد بقي إلى يومنا هذا مسديا للنصائح، مشاركا في كل الاستشارات بدون مقابل.
حين كنت على رأس كتابة الدولة لا يمرّ أسبوع دون أن يهاتفني موجها او ناصحا او مستفسرا.إلى جانب خبرته في الميدان والتي جلبت له الاحترام فهو رجل دولة مثالي ورجل افتقدت تونس امثاله في هذا الزمان ليسندها حتى تخرج من الكرينتي. انجازاته في قطاع المياه لا تحصى ولا يتسع المقام لذكرها ويمكن ان اذكر أنّ سي عامر الحرشاني هو من كان على اللجنة التي أوصت بانجاز ملعب رادس في المكان الحالي.
تحية لأطلس المياه وصانع المخططات المديرية والدراسات الإستراتيجية وهو من اشرف على حماية تونس من الفيضانات. كم أتمنى أن يحضى علماؤنا أمثال سي عامر بأكثر اهتمام من وسائل الإعلام في وقت أصبحت التفاهات تتصدر المشاهد. سي عامر خلق اجيالا وعلمها وهي الان تشتغل كخبراء في إفريقيا والخليج والمغرب والجزائر. المشرف على المياه بإفريقيا في أفق 2050 هو من تلامذة سي عامر، المستشارون في عديد الدول للوزراء هم أبناء سي عامر، الخبراء في البنك العالمي والإفريقي هم خريجي مدرسة سي عامر. انا اعرفهم بالاسم ولا أريد ذكرهم خوفا من نسيان احدهم. أكاد اجزم أنّ لسي عامر مساهمة في كل قطرة ماء تنزل من الحنفية.
ان شاء الله يحفظلنا سي عامر ويجازيه على كل ما قام به لهذا البلد وان شاء كل منا لا يضيع ما ضحى من اجله هذا الجيل.
معذرة سي عامر لأني اعرف انك لا تريد الأضواء واعتبر ذلك كلمة حق من تلميذ في حق أستاذه بعد أن أتممت عملي وكانت أخر محطة فيها هي جلوسي على نفس الكرسي الذي جلست عليه طيلة 17 سنة وفي نفس المكتب ، لم اشعر خلالها باني قمت ولو بواحد في الالف ممّا قمت به أنت. اللهم يرزقك الصحة وطول العمر.
وداعا سي عامر
طيب الله ثراك ورزق أهلك وذويك جميل الصبر والسلوان: زوجتك وأبنائك وإخوتك وفي مقدمتهم أستاذ القانون الإداري والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس والوزير الدفاع السابق، الأستاذ فرحات الحرشاني وابنة شقيقتك، الزميلة أستاذة القانون العام وعميدة كلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة، الأستاذة أسماء بن عبد الله … وبقية أفراج العائلة.
حتما تلاميذك وزملائك الموجودين في كل الإدارات والمصالح الفنية بتونس وخارجها لن ينسوك.