رسالة مفتوحة من الفقير إلى ربّه، الهكواتي (سالم اللبّان) إلى سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيّد
سيادة الرّئيس،
أنا، الفقير إلى ربّه، واحد من آلاف مثقّفي تونس التي حمّلكم الله وزر رئاستها، كما حمّلني شاعرُ تونس الحرّيّة، المغفور له منور صمادح، وزرَ وصيّةٍ حبّبت إليّ وظيفتي في هذه الحياة.
قال صمادح : “شاهد أنت عليهم، وعليك الكلمات”. لذلك تجدونني اليوم عميق الإيمان بدور عليّ أن ألعبَه الآن وهنا، كما يمليه عليّ ضميري.
كما تجدونني، بعد مرور أكثر من نصف الأجل الأصليّ للحال الاستثنائية التي أعلنتم عنها في الخامس والعشرين من جويلية المنقضي، وبعد متابعتي مجمل أنشطتكم وقراراتكم التي طغى عليها للأسف الطابع الاتصاليّ على حساب النّجاعة العمليّة، بما أفقدني، أو يكاد، كلّ أمل في إرادتكم سماعي…
لذلك تجدونني، قلت، ملتزما بواجب إبلاغكم صوتي ضمن هذه الرسالة المفتوحة، لعل الله الذي لا يعجزه شيء أن يفتح بصيرتكم فتستأنسون به، أو لعلّي على الأقلّ أن أرضي ضميري، وأسجّل للتاريخ رأيا واقتراحا، لعلّ إشهارهما للنّاس أنجع دافع لكم لتبنّيهما. وما توفيقي إلاّ بالله.
أمّا بعد،
فأنا، يا سيادة الرئيس واحد من قلّة دعت، في الدّور الثّاني من الانتخابات الرّئاسية الأخيرة، إلى التّصويت بورقة بيضاء، عسى الإرادة الشعبية تتبلورُ رفضا جماهيريّا عارما، فتسدّ الطريق في نفس الوقت أمام فساد مالي وأخلاقي تجسّد في نبيل القروي، كما كنت أراه، و نقص أهليّة تمظهر في سيادتكم، كما كنت أراكم.
ومعذرة على صراحتي التي فرضها عليّ صدقٌ لا يقل عن صدقكم، وإخلاصٌ لتونس لا يقل عن إخلاصكم. وما كان ذلك مني إلاّ مجرّد رأي رأيته صائبا يحتمل الخطأ. خالفني فيه الجميع تقريبا، فكنتُ كمن يصرخ مُحذّرا موج البحر الهادر من التكسّر على ناتئ الصّخور. والنتيجة ما تعلمون من ارتطام تونسنا المسكينة بما نراه اليوم من جلاميد مازالت أسنّتها تمزّق أحشاء الدّولة وتهدّد بنسف كيانها.
وما أزال، حتى اليوم، أطلب لذات الموجة التونسية البريئة والمجروحة سلامة واستقرارا وسكينة، عاملا بقول الله تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”. فأنا يا سيادة الرئيس، راض بما قدّره الله لنا إذ ولاّكم علينا، خيرا كان أم خلافه. ولكنّني لن أنقطع عن توسّم الخير قبل أيّ شيء، بالسعي إلى مساعدتكم على النّجاح في كلّ ما يخدم تونس. إذ في نجاحكم شخصيّا، نجاح للجميع.
ولذلك يهمني اليوم إنجاح ما أسمّيه بكلّ فخر واعتزاز “انقلابكم المبارك” توصيفا لما أقدمتم عليه بكل شجاعة، فأفرحنا جميعا، ورأينا فيه الحلّ الأمثل لإنقاذ تونس من براثن الإخوان المجرمين وبقية الفاسدين والمتكالبين والعجزة.
ولذلك أيضا، فرغم ما أراه منكم يدعوني إلى اليأس أحيانا، ورغم رأي من نعتني “بالشاعر الحالم عديم البرقماتية”، ما أزال مصرّا على ترشيحكم لجائزة نوبل للسّلام.
نعم يا سيادة الرئيس، إنّ جائزة نوبل للسّلام الآن في متناولكم. بل إنها مازالت تناديكم وتستحثكم على السير إليها واثق الخطى ثابتها، وعلى الاقتناع بأنها فرصة فريدة أكيدة، لكم ولتونس من خلالكم ومعكم، بل وأداة لترسيخ الديمقراطية في بلادنا بما لا تراجع عنه إلى أبد الآبدين. ومثل هذه الفرصة، يا سيادة الرّئيس،لا تطرق باب نفس الشخص مرتين.
ولأنني، وإن كنت مدنيّا علمانيّا، مسلمٌ عقيدةً وثقافةً وأخلاقا، ولأنّني مقتنع بأنّكم أيضا مسلم لا متأسلم، فإنني سأحاول، الدّخول إلى قلبكم وعقلكم من بوابة القرآن الكريم، حتى أقنعكم بتوفير الشّرط الوحيد الذي سيمكّنكم من ربح هذا الرّهان (نوبل) دون منازع.
فلتسمحوا لي إذًا، من أجل تونس، بأن نقرأ معا هذه الآيات البيّنات من سورة الفجر. فقط من باب التّدبّر والاعتبار. أليس القرآن بالأساس مرجع المتدبّرين والمعتبرين؟
قال تعالى: “فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ٠ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ٠ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ٠ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ٠ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا ٠ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا” ) صدق الله العظيم
اخترت، يا سيادة الرّئيس، أن تقرؤوا معي هذه الآيات لأنّكم صرّحتم على الملإ مرارا وتكرارا بأنّكم إنما تتحمّلون المسؤولية أمانة وابتلاء. وإني لأصدّقكم. فهل، من ظاهر خصالكم، أوضح من صدق النّوايا ونظافة اليد؟
يبتلينا الله، يا سيادة الرئيس، بالنّعمة ليكرمنا. ولكنّه يبتلينا أيضا بتضييق الرّزق. وما في ذلك من إهانة، ولكن لأمرٍ لا يدركه سواه. ويُغضبُه منّا في كلّ الأحوال أن ننصرف إلى أكل التّراث أكلا لمّا وحبّ المال (والسّلطة أيضا) حبّا جمّا.
ولأنّ الابتلاء امتحان، فما خطابي هذا لإرباككم ولا لتعطيل أعمالكم. فلا أرجو لكم إلاّ التوفيق. ولا هدف لي إلاّ أن أنبّهكم إلى ما هو أبعد ممّا تراه العين المركّزة على لحظتها الرّاهنة، عسىى أن أساعدكم على النّجاح فيما ابتلاكم الله به.
فالله أكرمنا، ولا شكّ، بنعم لا تحصى، قد لا نعيها كلّها. والله قَدَرَ علينا أرزاقنا في مواطن عديدة قد لا نشعر بها أيضا، بل قد لا يهمّنا شأنها أصلا. ولكنّ بعض ما وضعه الله أمامنا من حدود، نعرف جيدا أننا لا نستطيع تجاوزها مهما كابرنا. وهل نكابرُ أمام حدود الله؟
فهل نحن واعون تمام الوعي بما منّ الله علينا به من نعمة وإكرام، وبما قدره علينا من رزق؟ وهل نتبين جيدا طبيعة ما أعطانا الله من نعم قد تكون موجهة إلى غيرنا دوننا، و ما قدر من رزق على غيرنا بواسطتنا؟
وأنتم يا سيادة الرئيس، هل تشعرون بأن الله ابتلاكم فأكرمكم بالرّئاسة ونعّمكم لتكتفوا بحمده وشكره على الغنيمة؟
أم هل أنتم على وعي بأنّه إنما ابتلاكم بها ليختبر إن كنتم قادرين على إعطائها حقَّها قبل أن تأخذوا حقكم منها؟
أفلا تخشون مثلا – وأنتم الرّافعون خشية الله راية – من أن تأخذوا من هذه الرئاسة أكثر ممّا يحقّ لكم، معنويّا قبل المادّيات، ومن أن تنسوا ربّما، إعطاءها حقّها أصلا، لا لأنانيّة أصيلة فيكم، ولكن ربما لأنّكم قد لا تعرفون، أو لأنكم، بفعل حدود الله، قد لا تستطيعون؟
فهل أنتم عارفون بحدود حقّكم من هذه المهمة السامية وبشاسع حقها عليكم؟
سيادة الرئيس،
يرزق الله من عباده من يشاء ويقدر رزقه على من يريد. وأنتم الأعلم بأن الله يمكن أن يرزق بعض عباده بما أسمّيه الأهليّة للحكم، بما في ذلك من فكر سياسي ثاقب وقدرة على فهم الأحداث وتحليلها وربط بعضها ببعض، ومن دهاء وبراعة في استباقها واستشراف نتائجها وصياغة الخطاب المُقْنِع باتخاذ تدابير قد لا يرى فيها الخيرَ غيرُ العارفين… وغير هذا من المؤهلات كثير كثير…
كما يمكن أن يقدر هذا النوع من الرزق على بعض عباده الآخرين.
فهلاّ سألتم النّفس، بكامل الصّدق الذي يشهد لكم به كل من انتخبكم، إن لم تكونوا من المقدور عليهم رزقَهم في هذا المجال؟
وهلّا سألتموها إن كان الله قد ابتلاها بالرّئاسة نعمة مطلقة وإكراما لكم لمجرد التكريم؟ أو إن كان ابتلاكم بها، وقد قدر عليكم قبل ذلك رزقا تعرفون تماما أنّكم منه محرومون، ليمتحن مدى شهوتكم للحكم، ولينظر إن كنتم قادرين على التعفّف عنه، أي عمّا لم يرزقكم الله الأهلية للاضطلاع به؟
ألا يكون الله أراد اختبار قدرتكم على التعفف عن أكل التّراث أكلا لمّا وعن حبّ السلطة حبّا جمّا، منتظرا منكم الإيثارا على نفسكم، خدمة لبلادكم ولشعبكم، الآن وهنا، ثمّ على مدى الأجيال القادمة؟
فهل تعون أن إنكار افتقاركم لهذه الأهلية، رغم تأكّدكم منه، لا يعادله سوى القول “ربّي أهاننِ”، كما قال قائل في الآية الكريمة؟ وهل تدرون أن مثل هذا القول يشهر رفضا لإرادة الله، ويعلن رغبة في تحدّي قضائه؟
الله عزّ وجلّ يدحض هذا القول بقوله : “كَلاَّ بَل …. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا ٠ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا”. ما يعني أن هذا الشعور بالإهانة لا مبرر له سوى الرّغبة في أكل التراث وحبّ السلطة والجاه والمال.
وقد علمتنا التجربة أنّ الله لا يقدر على عبده رزقا إلاّ ليعوضه بمثله أو بأحسن منه. وأنا واثق من أنّ الله أكرمكم بنعمة هي أحسن أضعافا مضاعفة مما قدره عليكم من أهليّة للاضطلاع بأعباء الحكم.
وتلكم، يا سيادة الرئيس، نعمة نظافة اليد والزّهد في متاع الحياة الدنيا.
ألا تستحق منكم تونس هذا الزّهد، وأنتم الذين لا تكفّون عن إعلان عدائكم للفساد، ولا أحد يعلم أكثر منكم أن الفساد متمظهر أساسا في تدافع السياسيين المحموم من أجل الحصول على السلطة بكلّ الوسائل، غنيمة يريد كل طرف الاستئثار بها، وفي ترشح عديمي الأهلية عشوائيا لمسؤوليات يدركون قصورهم عن تحمّل أعبائها وعدم أهليتهم لإعطائها حقها.
ألا تستحق منكم تونس، وأنتم الرئيس الشرعي الذي لم يسبق أن انتُخب غيرُه ديمقراطيا بمثل النسبة التي نعرف، أن تتصدّقوا عليها بزهدكم في طلب المزيد ممّا منحكم إياه شعبها من الجاه والسلطان؟
ألا ترون أن تونس تستحقّ منكم أن تجودوا عليها بنعمة الزّهد في السلطة إخراسا لكلّ ألسنة الغربان المنذرة بالويل والثبور؟
ألا تستحق تونس زهدكم هذا وأنتم الأعلم بأن الصّدفة وحدها ساقت إليكم هذه السلطة، في ساحة سياسية موبوءة تكاد تخلو تماما من متطلع إليها قادر عليها أو مستعدّ للزّهد فيها؟
مثل هذا الزّهد، يا سيادة الرئيس، هو ما أتصوّر مبتليكم بالرئاسة، جلّ جلاله، ينتظره منكم، حتى تترجموا على أرض الواقع قولكم “ربّي أكرمنِ”، وتعرضوا عن سكّة من قال “ربي أهاننِ”.
بتعبير مباشر وعمليّ، أتصوّر أن الله يريد منكم الإعلان للتونسيين جميعا، أمام العالم كلّه، أنّ الله إنما أوصلكم إلى هذا الموقع من حيث لم تنتظروا ولم ننتظر، رأفة بتونس وشعبها لا نقمة عليها وعليه، وليضرب بكم مثلا للجميع، على أن المسؤولية السياسية، لئن أصبحت بالديمقراطية حقّا متاحا للجميع، فهي ماتزال أكبر وأعقد وأثقل من أن تكون في متناول الجميع. وأنّ إرضاء الله جلّ وعلا، سيكون في قراركم ألاّ تترشحوا مستقبلا لأي منصب سياسي انتخابي بعد إخراج تونس من أزمتها السياسية الرّاهنة، وفي فرضكم على كل من ستكلّفونه بمنصب، في الحكومة الانتقالية التي طال انتظارنا تشكيلكم إياها، إعلان التزامهم بالاقتداء بكم وعدم الترشح في الدورة الانتخابية المقبلة لأيّ منصب انتخابيّ.
هل تدركون يا سيادة الرئيس مدى قدرتكم، بهذه الحركة الزّاهدة وحدها، ودون حاجة إلى أي كفاءة سياسية أو إدارية ذاتيّة، على تحقيق نجاح لم يدركه أي متزعم حركة تصحيح مسار سياسي قبلكم؟
فمثل هذا الزهد سيعزّز ثقة كلّ التونسيين في شخصكم لإدارة هذه الفترة الانتقالية كأحسن ما يكون، ويغذّي أملهم في المستقبل الذي ستُفتح لهم أبوابُه حال انتهائها.
ومثل هذا الزهد سيعيد ثقة كلّ العالم في تونس وفي مستقبلها المشرق وسيعيد الاشراق إلى صورتها كبلد كان متفرّدا ومازال يمكن أن يشكل استثناء في محيطه في كل المجالات.
ومثل هذا الزهد سيعطي درسا في أخلاق الممارسة السياسية لكل تونسي يتطلع إلى لعب دور يخدم به تونس المستقبل.
ومثل هذا الزهد الذي لم يسبقكم إليه أحد سيؤدّي حتما إلى إنجاز غير مسبوق هو الشرط الوحيد المطلوب منكم للحصول، في السّنة الموالية لتنصيب البرلمان المنتخب القادم والحكومة الشرعية القادمة، بعد تركيز كل المؤسسات الدستورية المطلوبة، على جائزة نوبل للسلام التي يستحيل أن ينافسكم فيها أحد.
ومثل هذا الزّهد سيجعل التونسيين (وغير التونسيين كذلك) يتخذونكم مثالا يحتذى.
فبعد بورقيبة العظيم الذي أعطى للعالم مثالا نادرا لنظافة اليد والزّهد في المال العام والذي غلبه طموحه السياسي فأبقاه في السلطة حتى أرذل العمر، ليلصق به، للأسف، صورة الدكتاتور، وإن كان متنوّرا، يمكنكم اليوم أن تسجلوا اسمكم في تاريخ تونس والعالَمين العربي والاسلامي، كمثال فريد للزهد في الحكم من أصله. يكون بين يديكم فتنجزون به ما لا ينجزه إلاّ مستقيم زاهد، ثم تسلمونه وأنتم في ذروة قدرتكم على التمسك به.
وهكذا يرتفع سقف أخلاقيات الممارسة السياسية في تونس، وتستقر الديمقراطية فيها بشكل نهائي لا رجعة فيه، بعيدا عن “التدافع الاجتماعي” المتكالب الذي طبع العشرية الأخيرة.
سيادة الرّئيس،
هذا نداء صادق يتوجه به إليكم مثقف صادق.
وإنّي لأدعو الصادقين من التّونسيين مهما كانت اتجاهاتهم السياسية، وبخاصة منهم الشباب الذين تتاجر بعواطفهم ونقص خبرتهم بعض الأطراف المتظاهرة بدعمكم طمعا في فتات قد يسقط من موائدكم، أدعوهم إلى مؤازرتي فيه وإمضائه معي، عساكم تقتنعون بهذا التّمشّي الذي سيساعدنا على حشد دعم العالم أجمع ترشيحَكم لجائزة نوبل للسلام.
وخير ما أختم به هذا النّداء، قوله تعالى :
“وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ . إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ . وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ” (صدق الله العظيم)
ألا قد بلّغت اللهم فاشهد
مع فائق تقديري وخالص دعواتي لكم بالصلاح
الهكواتي (سالم اللبّان)
المنستير في 11 أوت 2021