اول الكلام

عامر بوعزة يكتب:الداهم والجاثم

في حديثه عن الفصل ثمانين من الدستور يغيّر رئيس الدولة عبارة «الداهم» بعبارة «الجاثم» في وصف الخطر، وهو تغيير جوهري للأسباب التي برّر بها المشرّع إسناد صلاحية سنّ تدابير استثنائية لرئيس الجمهورية. فكل تأويل للدستور ينطلق من بنيته اللغوية وليس كل خطر مبررا لاستعمال هذا الفصل إنما وحده «الخطر الداهم»، فما معنى الدّاهم، ولماذا يتفادى الرئيس هذه الكلمة ويغيرها بوصف آخر من عنده؟

ذهب أغلب أساتذة القانون الدستوري في شرحهم لمنطوق الفصل ثمانين إلى اعتبار «الخطر الداهم» خطرا يتهدّد الدولة من خارجها، ومنهم الرئيس الذي يحبذ عبارة «الجاثم» لأنها أفضل حسب رأيه في الحالة الراهنة إذ يأتي الخطر من داخل أجهزة الدولة. لكن هذا التفسير يأتي في مرتبة ثانية لغويا، لأنه يقوم على العُرف لا على الدلالة المعجمية، فلا شيء في المعجم يفيد بأن (الداهم) أمر يأتي من الخارج! والاستعمال السائد لجذر «دهم» يعني الهجوم والاصطدام، ويكون عادة في صيغة المزيد الذي يفيد المشاركة (داهمته سيارة) ومنها جريمة «المداهمة من الخلف» لو كان المقصود بالخطر الداهم الهجوم الخارجي لاستخدم المشرّع عبارة (الحرب) نشدانا للدقّة، كما ورد في دستور 1959 إذ يقول في المادة 23 لتبرير تمديد المدة النيابية: «إذا تعذّر إجراء انتخابات بسبب حرب أو خطر داهم…»، ويكرّر نفس الصيغة في المادة 39 التي تسمح بتمديد المدة الرئاسية. ثم نجده في الموضع الثالث أي المادة 46 الخاصة بالتدابير الاستثنائية لا يذكر الحرب ويكتفي بالخطر الداهم، وهذا أكبر دليل على أن «الخطر الداهم» في النص الدستوري لا يعني الحرب!

ونفهم أن الحرب تبرر تمديد المدة النيابية (المادة 23) والمدة الرئاسية (المادة 39) ولا تبرر التدابير الاستثنائية. ناهيك عن تخصيص الخطر الداهم في المادة 46 بشرطي: تهديد كيان الجمهورية وأمن البلاد واستقلالها، ومنع السير العادي لدواليب الدولة. لكن دستور 2014 ولأسباب نجهلها، حذف عبارة «الحرب» واقتصر على «الخطر الداهم» في السياقات الثلاث، ولذلك صار مفسرو الدستور يؤولون الخطر الداهم أولا بالحرب والعدوان الذي يأتي من الخارج وهو تفسير سنده ضعيف معجميا، فجذر «دهم» لا يعبّر بشكل مباشر عن الهجوم، بل على اللون والكثرة والمعنيان متصلان ففعل «ادهمّ» يعني اسودّ، و«الدهماء» تعني العامّة لأنها تبدو سوداء من الكثرة، أما «الداهم» من الأمور فهو في المعجم التاريخي «الغاشي الذي يأتي فجأة، وكل التفسيرات المتداولة عندنا تتجاهل هذا المعطى اللغوي الهام. فالقضية لا تتعلق بمصدر الخطر بل بظرفه الزمني، وهذا ما نجده في الفصل 16 من الدستور الفرنسي الذي يشابه الفصل 80 عندنا حيث يربط الأسباب المؤدية إلى الحالة الاستثنائية بما يهدد مؤسسات الجمهورية واستقلال الأمة ووحدة أراضيها والتزاماتها الدولية بشكل خطير وفوري.

وفي اعتقادنا فإن الخطر الذي يتحدث عنه رئيس الجمهورية في تبرير تعطيل البرلمان وحل الحكومة والاستحواذ على صلاحيات غير محدودة لا يتوفر فيه عنصر المفاجأة، فلا الأزمة الحكومية مفاجئة ولا أزمة البرلمان كذلك، وحتى الكورونا فلا يمكن اعتبارها مفاجئة، ولا تنطبق أي حالة من الحالات الثلاث على عبارة «الخطر الداهم» فضلا عن كون الرئيس يمثل جزءا من الأزمة وأحد أهم أسبابها. إن غياب عنصر المفاجأة يضعف كثيرا مبررات الذهاب إلى الفصل 80 الذي يشترطها، واستخدام عبارة الجاثم بديلا عن الداهم كما القول بأن الخطر من الداخل وليس من لخارج لا يعدو أن يكون مجرد تبرير سطحي لعجز مؤسسة الرئاسة عن التوصل إلى حلول أخرى للأزمة. بل قد يفهم منه أن الإسهام في تعميق الأزمة كان القصد منه منذ البداية الذهاب إلى هذا الفصل عنوة.

*عامر بوعزة، صحافي وكاتب تونسي مقيم بالدوحة 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.