إلى أين يُبحر قيس سعيّد بسفينة تونس؟
آراء التونسيين تبدو متباينة من توجهات الرئيس سعيّد بعد أربعة أشهر من فرض تدابير الاستثناء. في المقابل تُطرح أسئلة حول سيناريوهات تطور الأوضاع في البلد الذي تسود فيه حالة من الغموض والترقب لما تحمله علبة سعيّد السوداء.
“لا يستطيع أن يستمر أكثر من بضعة شهور.. إنه يخرج عن كل قواعد وتقاليد الحياة السياسية في البلاد.. ولا يمتلك حلولا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية”، .. “أخيرا أصبح لتونس ربان سيقودها بشكل صحيح ويضع حدا للمنظومة الفاسدة”…
في السنوات الأخيرة من حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة الذي أزيح من الحكم بانقلاب طبي شهير سنة 1987 ليخلفه زين العابدين بن علي الذي أطاحت به ثورة شعبية سنة 2011، عاش التونسيون إبانها حالة قلق أو خوف على مصير بلدهم.
واليوم هنالك شيء من هذا القلق ينتاب فئات واسعة من النخب والأحزاب السياسية ورجال الأعمال ويمتد إلى أوساط من الطبقة الوسطى، لكن الصورة تكاد تكون مغايرة تماما عندما تتحدث مع فئات من الشباب والطبقات الشعبية فهؤلاء يرون أن تونس تشهد بداية حقبة واعدة بقيادة رئيس “غير عادي” و”ملهم”!
“انقلاب شعبي”!
في الخامس والعشرين من جويلية الماضي، وفي اعقاب احتجاجات شعبية شهدتها مناطق مختلفة من البلاد، ظهر الرئيس سعيّد في مشهد اٌعتبر غير مألوف منذ ثورة 2011، حيث أعلن بيانه من القصر الرئاسي بقرطاج وهو محاط بأعضاء هيئة أركان الجيش الذين حصلوا قبل يوم واحد في ذكرى تأسيس الجيش التونسي، على ترقيات ليصبحوا برتب “فريق”: الفريق محمد الغول رئيس أركان جيش البرّ التونسي، الفريق محمد الحجام رئيس أركان جيش الطيران، والفريق حبيب الضيف مدير عام وكالة الاستخبارات والأمن للدفاع.
وعلى غرار الغنوشي سيتعبر الرئيس السابق منصف المرزوقي وعدد من زعماء اليسار التاريخيين مثل حمه الهمامي وأحمد نجيب الشابي، ما حصل انقلابا. بينما ذهبت أحزاب قومية عروبية وديمقراطية اجتماعية إلى تأييد متفاوت الدرجات لخطوة الرئيس سعيّد باعتباره اتخذ قراره بناء على تأويل للفصل 80 من الدستور. أما مركزية الاتحاد العام التونسي للشغل النافذة، فقد كان موقفها أقرب إلى مساندة مشروطة بضرورة إصدار الرئيس خارطة سياسية وتدشين حوار وطني.
لكن مواقف الأطراف السياسية وملامح خارطة القوى ستتغير بعد صدور ما يعرف بالمرسوم الرئاسي رقم 117 في الثاني والعشرين من سبتمبر ، والذي تضمن ملامح مشهد جديد يقوم على جمع الرئيس سعيّد للسلطات التنفيذية والتشريعية ويد طولى على السلطة القضائية، وتجميد لفصول عديدة من الدستور الذي صودق عليه بإجماع في جانفي سنة 2014 من قبل المجلس التأسيسي، أول برلمان تونسي منتخب بعد الثورة.
فقد شكل صدور مرسوم 117 منعطفا مهما باتجاه تبلور موقف أوسع نطاقا في الأحزاب السياسية والنخب التي باتت تعتبر ما حدث “انقلابا”، وتشكلت جبهتان من معارضي الرئيس سعيد، جبهة أولى تضم حزب النهضة وحليفيه في الائتلاف الحكومي المنهار، حزب “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” ذا التوجه الإسلامي المحافظ، ونشطاء سياسيين وفي المجتمع المدني وشخصيات من أبرزها الرئيس الأسبق منصف المرزوقي (يوجد حاليا بفرنسا).
وقد نقلت هذه الأطراف معارضتها إلى الشارع في شكل مظاهرات، حشدت في آخر محطة لها عشرات الآلاف من المتظاهرين (حسب المنظمين) يوم الرابع عشر من نوفمبر أمام مقر البرلمان المجمد، للمطالبة بالعودة إلى المسار الدستوري.
أما الجبهة الثانية فتضم أحزابا ديمقراطية اجتماعية وليبرالية ونشطاء من المجتمع المدني ورجال قانون، وهي بدورها قوى تطالب بالعودة إلى المسار الدستوري، لكنها تنأى بنفسها عن الحراك في الشارع وعن أي تحالف مع حزبي النهضة و”قلب تونس” وتحملهما مسؤولية الأزمة السياسية التي أدت إلى أحداث 25 جويلية كما تنأى بنفسها أيضا عن “الحزب الدستوري الحر” المعارض وزعيمته عبير موسي الخصم اللدود لإسلاميي حزب “النهضة” باعتبارها شريكة في أسوأ مشاهد للعراك السياسي تحت قبة البرلمان المجمد.
وبقدر ما تبدو القوى السياسية المؤيدة للرئيس سعيّد في انحسار وآخرها أكبر مؤيديه حزب الشعب صاحب التوجه العروبي، الذي أظهر في الأيام الأخيرة لهجة نقدية إزاء قرارات الرئيس وخصوصا غياب خارطة طريق واضحة للإصلاحات السياسية والاقتصادية. ما يزال الرئيس سعيّد يتصدر استطلاعات الرأي وتحظى خطواته بتأييد شعبي واسع، وخصوصا في أوساط الشباب والفئات الشعبية المتذمرة من الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، والتي زادتها جائحة كورونا مزيدا من التدهور.
في مواقع التواصل الاجتماعي وفي حديث الأوساط الشعبية في الشارع والمقاهي من مدينة الرقاب بولاية سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية إلى الأحياء الشعبية في مدينة صفاقس ثاني كبرى مدن البلاد وصولا إلى العاصمة تونس، مؤيدو الرئيس سعيّد هم الأعلى صوتا وينتابهم الحماس ويتحفزون لقرارات جديدة من “قيسون” (هكذا يلقبونه ويحتفون به) باتجاه محاسبة الطبقة السياسية “المسؤولة عن عشرية الفساد والخراب” كما يصفونها.
ويمضي هؤلاء في حجاجهم معتمدين على خطب الرئيس لمهاجمة النخب السياسية ورجال الأعمال وما يطلق عليه بـ “المنظومة الفاسدة”، بل هنالك من يقطع سبل السجال حول الوضع الدستوري في البلاد، قائلا: “أجل إنه انقلاب.. على الفاسدين.. إنه انقلاب شعبي”.
أزمة تلد أخرى
رغم تحسن الوضع الصحي بشكل ملموس في البلاد بعد حملة التضامن الدولية التي لقيتها تونس في مواجهة جائحة كورونا، ما تزال آثار الأزمة الصحية تلقي بتداعياتها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
في قلب مدينة القيروان العاصمة الروحية للبلاد، ما يزال كابوس كورونا يخيم على المدينة بعد أشهر من تعرضها لأسوأ حصيلة في عدد الإصابات والوفيات. بجانب البوابة التاريخية للمدينة القديمة، تعلو “سور الجلادين” لافتة كبيرة تحمل شعار “وينو السبيطار؟” (أين هو المستشفى؟) في إشارة من سكان المدينة لوعود حكومية تلقوها منذ سنوات ببناء مستشفى كبير في المدينة اعتمادا على هبة مالية بعشرات الملايين من الدولارات، من السعودية، لكنها تبخرت دون إنجاز المشروع الذي كان سيخفف معاناة السكان من الجائحة.
وفي مداخل مدينة صفاقس التي تعتبر عاصمة اقتصادية للبلاد، تبدو مشاهد أعمدة الدخان ممتدة نحو السماء، وكأنها أعمدة دخان حرب. لكن الكلاب والقطط المنتشرة على أطراف الشوارع وهي تنهش أكياس القمامة، تدلّك إلى أن المدينة تغرق في أسوأ أزمة نفايات. بل إن محاولات السلطات المحلية البحث عن حلول عبر نقل أطنان من القمامة إلى مصب تدوير نفايات بمدينة عقارب المجاورة، قد تسببت في احتجاجات مأساوية قتل خلالها شاب في مواجهات مع الشرطة.
على الطريق الداخلي الرابط بين مدينتي القيروان وسيدي بوزيد، يهمين مشهد النساء اللائي يقمن بجني الزيتون إحدى أهم ثروات تونس وصادرتها للخارج، ومن النادر أن تشاهد شبانا يقومون بالمهمة، فمعظمهم نزحوا من المناطق الداخلية للبلاد بحثا عن فرص العمل الشحيحة في كبريات المدن الساحلية حيث تتمركز قطاعات الصناعة والخدمات والسياحة، أو ركبوا رحلات الهجرة غير القانونية نحو إيطاليا المجاورة.
يكافح السكان المحليون في مناطق تونس الداخلية من أجل البقاء في أوضاع يغلب عليها التهميش وغياب الاستثمارات. إذ يعيش المزارعون الصغار والمتوسطون، حالة ترقب لتحسن أحوالهم التي تدهورت تحت تأثير الجائحة وتراجع دعم الدولة مثلا في قطاعات الأعلاف لمواشيهم، كما يتذمرون من تفاقم مشاكلهم جراء ارتفاع تكاليف الطاقة لاستخراج المياه الجوفية لسقي مزارعهم، وعجزهم عن تسديد الديون المستحقة عليهم.
مدينة سوسة التي تلقب بـ “جوهرة الساحل” المركز السياحي والصناعي، تحاول النهوض بصعوبة بعد عامين من الأزمة الصحية وبعد عقد مرير من الأزمات الاقتصادية وتراجع عائدات السياحة وتدهور القدرة التنافسية لمنتوجات النسيج والصناعات التقليدية التي تشتهر بها المنطقة منذ تحرير الاقتصاد في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
بوادر عودة السياح الأوروبيين إلى المنتجعات السياحية تبعث على الأمل بإنقاذ الحد الأدنى من الموسم السياحي، فيما تعود المخاوف من جديد لدى وكالات الأسفار وأصحاب الفنادق برسائل إلغاء رحلات سياح ألمان ونمساويين بسبب موجة كورونا الرابعة. بينما تستمر الحدود البرية مع الجزائر مغلقة بسبب الجائحة، بما يعنيه ذلك من توقف أهم سوق سياحي لتونس.
في أوساط المال والأعمال في سوسة والعاصمة تونس، يخشى كثيرون من تضافر العوامل السلبية للأزمة الصحية وتداعياتها الاقتصادية وتزامنها مع الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد. ويعتقدون بأن الحملة التي يقودها الرئيس سعيّد على الفساد، أشاعت حالة عدم ثقة لدى المستثمرين، جراء الطابع الشعبوي الذي تأخذه تلك الحملات حتى في خطب الرئيس نفسه.
وفيما تبدو محاولة لتدارك الأوضاع، تحاول حكومة نجلاء بودن التي تأخر إعلان تشكيلها شهرين كاملين، سن إجراءات لإنعاش الاقتصاد وحل المشاكل المستعجلة مثل العجز التاريخي في الموازنة التي باتت تحتاج إلى تمويل خارجي يصل إلى 6 مليارات يورو. وفي ظل تعثر المفاوضات مع الدائنين في الخارج، سواء المؤسسات المالية الدولية أو الشركاء الأوروبيين والأمريكيين، ناشد الرئيس سعيّد مواطنيه أن يساهموا بكثافة في اكتتاب شعبي لإنقاذ ميزانية الدولة من الإفلاس.
ويأخذ خبراء اقتصاديون بارزون في تونس، على الرئيس سعيّد عدم إعطاء الأولوية لحل المشاكل الاقتصادية وافتقاده لحلول وتصورات واضحة في هذا المجال، وتركيزه على شعارات عامة بعيدة عن الواقع، بل بدأت تساهم في تآكل شعبيته وخصوصا لدى بعض الفئات الشبابية مثل خريجي الجامعات العاطلين، الذين خرجوا في الأيام الأخيرة بعدد من مدن البلاد مثل القصرين، احتجاجا على قرار الرئيس إلغاء قانون رقم 38 سنّه البرلمان (المجمد) في منتصف اوت 2020 يقضي بتوظيفات استثنائية في القطاع العام لمن تجاوزت بطالتهم 10 سنوات.
وبالمقابل وعد سعيّد العاطلين بتوظيفهم في “شركات أهلية” جديدة يعتزم تمويلها بالأموال المستفادة من حملات مكافحة الفساد. إذ سبق للرئيس سعيّد أن تحدث عن عشرات المليارات من الدينارات (اليورو يعادل 3 دينارات تونسية) يمكن أن تستعيدها الدولة من رجال أعمال فاسدين ضمن تسويات مالية معهم، ضمن مشروع قانون للصلح الجزائي.
وفي مؤشر آخر على تململ اجتماعي، عادت احتجاجات نشطاء منطقة الكامور البترولية في ولاية تطاوين، حيث تتواصل الاحتجاجات كرّا وفرّا منذ أربع سنوات دون حلول حاسمة لمشاكل البطالة والتنمية في المنطقة الحدودية مع ليبيا المضطربة التي تلقي أزمتها بتداعياتها السلبية على أوضاع تونس.
“التطهير”.. وبعد؟
يستخدم الرئيس سعيد عبارة التطهير كعنوان رئيسي لحملة مكافحة للفساد يقودها نظريا منذ توليه الرئاسة في اكتوبر 2019، ودخلت حيز الفعل بشكل تدريجي منذ قراره تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة السابق، في 25 جويلية الماضي.
وبدأت الحملة بإقالة سبعة ولاة وبأوامر منع للسفر واعتقالات في صفوف نواب برلمانيين ومسؤولين حكوميين سابقين ومحاكمات عسكرية أثارت انتقادات حقوقية في الداخل والخارج وتحذيرات من تدابير “انتقامية” من خصوم سياسيين.
وتوسعت تلك الاعتقالات لتشمل رجال أعمال وشخصيات على صلة بأحزاب سياسية.
وبقدر ما لقيت خطوات الرئيس سعيّد في هذا المجال ترحيبا في أوساط شعبية، بدأت تصطدم في الواقع بعقبتين رئيسيتين يعتقد محللون بأنها ستشكل اختبارا حقيقيا لسياسته. أولها، دور القضاء في هذا الملف، فالهيئات القضائية التي وقفت مبكرا ضد محاولة سعيّد بضم صلاحيات النيابة العامة (الادعاء العام)، ترى أن قضايا مكافحة الفساد ينبغي أن تكون بيد القضاء وحده ودون تدخل السلطات التنفيذية والتي تتمركز بيد الرئيس.
وفي المقابل، كان سعيّد قد أمر بفرض الإقامة الإجبارية على إثنين من كبار القضاة، وصعّد لهجته ضد من وصفهم بـ “منظومة الفساد في الجهاز القضائي” وتوعّد بـ “تطهيره”.
أما الاختبار الثاني الذي يواجه حملة الرئيس سعيّد ضد “الفساد”، فيتمثل في مدى قدرته على أن يطال رؤوس الفساد الكبرى أو ما يوصف بـ”الحيتان الكبيرة” ذات النفوذ المباشر على الطبقة السياسية والإعلام، وهي تتشكل من أصحاب مصالح اقتصادية راكموا عبر عقود من الزمن امتيازات ريعية من الدولة وعلى حساب فئات واسعة من المجتمع.
ومن أشهر التوصيفات لهذه الفئة ما ورد على لسان سفير الاتحاد الأوروبي باتريس غاميني في حوار لصحيفة “لوموند” الفرنسية في جويلية 2019، بأن عائلات تشكل لوبيات ضخمة تحتكر قطاعات رئيسية في الاقتصاد التونسي وترفض ظهور شركات ناشئة وشابة وتمنع المنافسة والشفافية. ويقدر خبراء في تونس هذه العائلات ببضع عشرات، كما يشكل اقتصاد التهريب حوالي 48 في المئة من اقتصاد البلاد.
ويعتقد الخبير الاقتصادي التونسي صغير صالحي بأن هذه الفئة شكلت خلال العقد الذي أعقب الثورة التونسية، عقبة رئيسية في سبيل أي إصلاحات اقتصادية واجتماعية، وفشلت الحكومات المتعاقبة في تجاوزها، الأمر الذي أفقد الثورة التونسية المحتوى الاقتصادي والاجتماعي الذي ثار من أجله الشباب وأطاح بنظام الرئيس الأسبق بن علي.
الربان الأوحد
عندما تختلط الأوراق في الحياة السياسية في تونس ويغيب وضوح الرؤية، يتجه المراقبون للأوضاع في البلاد لرصد مواقف وسلوك مركزية الاتحاد العام التونسي للشغل. لكن هذه المرة يبدو الوضع مختلفا، فالمركزية النافذة التي يتجاوز عدد منخرطيها 5 في المائة من سكان البلاد، يتسم أداؤها في هذه المرحلة المضطربة من تاريخ تونس بغموض ملحوظ نتيجة تأرجحها بين المساندة النقدية لإجراءات سعيّد، وخشيتها فقدان نفوذها على الشارع في ظل تهديدات مبطنة من الرئيس بالمحاسبة وسحب الامتيازات المالية والاجتماعية التي تتمتع بها البيروقراطية النقابية، وحولتها عبر عقود إلى جزء من المنظومة السياسية التي تلاحقها تهم الفساد.
كما نجح سعيّد في وضع القوى السياسية الثلاثة التقليدية التي تتقاسم النفوذ في المشهد السياسي، تحت الضغط. فحزب النهضة الإسلامي (وحلفاؤه) تلاحقه الاتهامات بالمسؤولية عن عشر سنوات من الأزمات والتوافقات الهجينة مع قوى النظام القديم، وقد تطاله إجراءات قضائية في ملفات تمويلات “خارجية” لحملته الانتخابية.
وفيما تلاحق الأحزاب سليلة التجمع الدستوري الحاكم في عهد الرئيس الأسبق بن علي، الاتهامات بالمسؤولية عن تركة النظام القديم من فساد سياسي واقتصادي، ما تزال عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر تراهن على ورقة “الخطر الإخواني” في إشارة لحزب النهضة، لكسب دعم النخب ذات التوجهات الاستئصالية وأطراف إقليمية وخصوصا منها الإمارات ومصر والسعودية.
أما أحزاب اليسار الوسطي والراديكالي والقوميين العروبيين، فتبدو في وضع لا يحسد عليه، فقد أظهرت انقساما وتردّدا في مواقفها إزاء إجراءات الرئيس سعيّد، الذي لم يتردد من جهته في مهاجمتها تلميحا وتصريحا.
وفي ظل ارتباك القوى التقليدية، ظهرت تشكيلات جديدة في المشهد السياسي من أبرزها “مواطنون ضد الانقلاب” التي تضم نشطاء سياسيين ومن المجتمع المدني وضمت هيأتها التنسيقية عبد الرؤوف بالطبيب، صديق الرئيس سعيّد وأبرز مستشاريه السابقين في القصر. وهي تقود مبادرات وتحركات في الشارع للضغط على الرئيس سعيّد للعودة إلى المسار الدستوري، عبر تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في العام المقبل.
وفيما تبدو مناورة سياسية، أبدى رئيس مجلس النواب وزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي استعداده للتخلي عن رئاسة البرلمان، داعيا الرئيس سعيّد لإنهاء الاجراءات الاستثنائية. لكن هذا الأخير يبدو ماضيا في تجاهله لدعوات قوى المعارضة، وحتى عندما يُسأل من أطراف خارجية مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة يرد بأنه بصدد إعداد إصلاحات للنظام السياسي وتحقيق ما “يريده الشعب”.
أما عندما تطرح عليه مسألة الحوار مع القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية، لا يخفي سعيّد استخفافه بتلك الأطراف ونعتها بالفساد والتآمر وحتى “الخيانة”، معتبرا أن الحوار يكون مع الشعب مباشرة، وفي خطوة دالّة في الاتجاه نفسه أعلن مؤخرا أنه يعتزم تنظيم استشارة مع الشباب عبر منصات إلكترونية.
معظم المراقبين للحياة السياسية في تونس، يذهبون إلى الاعتقاد بأن الرئيس سعيّد ماض في تغيير قواعد اللعبة في البلاد، أولا بنهج أسلوب فردي في اتخاذ القرار وفي أفضل الحالات فإنه يكتفي باستشارة دائرة ضيقة جدا في قصر قرطاج أو المخابرات. وثانيا في الإعداد لتغييرات للنظام السياسي على مستويين أولها لتحويله من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي صريح، ويتداول أنصار سعيّد عبر شبكات التواصل تسريبات عن مشروعه بإقامة حكم مجالسي يشبهه البعض بحكم “المؤتمرات الشعبية” في عهد العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وفي ظلها يُنتظر تهميش دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي قامت عليها المنظومة السياسية ودستور 2014.
ولتمرير تغييراته، من المرجح أن يعتمد الرئيس سعيّد على استفتاء شعبي، يدرك أنه سيكسب رهانه بفضل شعبيته التي ما تزال مرتفعة رغم بداية تآكلها نسبيا وارتفاع الأصوات في الإعلام المنتقدة لسياسته. لكن في ظل انسداد قنوات الحوار بين القوى الأساسية المؤثّرة داخليا وخارجيا في المشهد السياسي التونسي والربّان سعيّد الذي يجدف وحده، تبدو ملامح مستقبل بلد مهد الربيع العربي غير واضحة المعالم.
منصف السليمي/DW