فيلم ابو صدام: لا صلة له بصدّام حسين،
... فيلم عن الرجل في مجتمع عربي خانق
بعد تسع سنوات من فيلما الاول هرج ومرج قدمت نادين خان اينة المخرج الراحل محمد خان فيلما الروائي الثاني ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي، اكثر من ذلك كان فيلمها”ابو صدام” الفيلم المصري الوحيد في المسابقة
لم يكن مفاجئا فوز محمد ممدوح ” ابو صدام” بجائزة افضل ممثل وسط عاصفة من التصفيق في المسرح الكبير بدار الاوبرا المصرية في ختام الدورة 43 لمهرجان القاهرة مساء الاحد الماضي5ديسمبر ، فقد حمل “ابو صدام” الفيلم على كتفيه فهو حاضر في كل مشاهده تقريبا
و أعربت المخرجة نادين خان، عن سعادتها بردود أفعال الجمهور حول فيلم “أبو صدام”
وأشارت خان، إلى أن التحضير للفيلم استغرق ما يقرب من عامٍ كامل لأن الفكرة كانت تشغلها منذ فترة،
وأضافت أنها واجهت العديد من الصعوبات منها؛ التصوير على طريق دولي والتصوير طول الوقت في “لوكيشن” واحد وهو “التريلا”(شاحنة نقل البضائع)
واعتبرت خان، أن ظهور العنصر النسائي طوال الفيلم في حالة صمت خدم الفكرة بشكلٍ كبير، وعن اختيارها لاسم الفيلم، أكدت أن سائقي “التريلا” دائمًا ما يدعوهم بـ”أبو فلان”، وفضلت اختيار اسم “أبو صدام” لأنه يعبر عن الحالة التي يعيشها البطل طوال الوقت من صدام وقهر.
وعُرض فيلم “أبو صدام” ضمن فعاليات المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ 43، فيما قررت الشركة المنتجة، طرح الفيلم بدور العرض السينمائي في منتصف شهر ديسمبر الجاري.
والفيلم من بطولة محمد ممدوح، وأحمد داش، ومن إخراج نادين خان، ومن تأليف محمود عزت، مع ضيوف الشرف سيد رجب، علي الطيب، وعلي قاسم، ويعتبر أولى إنتاجات شركة “سي سينما برودكشن” السينمائية.
ويدور “أبو صدام” حول سائق شاحنة نقل يمر بالعديد من الأزمات والمشاكل سواء على مستوى العمل أو على المستوى العائلي، وبجانبه مساعده ، ويمرون خلال الطريق ببعض المشاكل التي تؤثر على بطل الفيلم وتقلب الأحداث.
في فيلمها الثاني “أبوصدام”، المشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة الأخير. تعالج المخرجة نادين خان موضوعا قلما عالجته السينما المصرية بهذا الوعي والدقة في التناول. وهو “مرض الذكورة” أو الذكورة باعتبارها مرضا ، فاكراهات المجتمع تدفع الذكور عادة الى ابراز فحولتهم “المفترضة” باشكال مختلفة ومتطرفة احيانا تبلغ حد العنف
فالذكر في المجتمعات العربية لا بد ان يكون سي السيد في بيته هو الامر والناهي، له الكلمة الاولى والاخيرة، ولا بد ان يكون فحلا في فراش الزوجية تضرب به الامثال، وقس على هذين المثالين
أبوصدام… احكام مسبقة ومفاجات
كل من لاقيته في مهرجان القاهرة سالته هل شاهدت فيلم نادين خان؟
اخترت ان اواكب الجزء الثاني من المهرجان وهو ما حرمني من متابعة الافلام التي عرضت في الايام الاولى ومن بينها ابو صدام، كما اني وصلت القاهرة في حالة انهاك شديد يوم الاربعاء1ديسمبر ولم يكن بمقدوري ان اغادر الغرفة لفعل اي شيء
كان السؤال الذي يخامرني هل من علاقة للفيلم بصدام حسين؟ فاسم صدام في الثقافة العربية اقترن بالرئيس العراقي السابق ، وهو اسم انتشر بشكل واسع بين مواليد بداية التسعينات بسبب اعجاب كثيرين بمواقف صدام حسين في تلك الفترة في مواجهة الامريكان وتجرئه على توجيه ضربات صاروخية لتل ابيب
لم اجد اجابة تشفي الغليلب فقد تبين لي ان كثيرين ممن يفترض انهم يواكبون الافلام يكتفون بجلسات المقهى قبل الفيلم وبعده ، اما الفيلم نفسه فليس هو جوهر الحضور في المهرجان
وبشكل مفاجئ انتبهت الى عرض الفيلم في مسرح السلام بالزمالك (سينما الزمالك) غير البعيد عن فندق اقامة المهرجانيين بالماريوت الذي هو في الاصل القصر الذي بناه الخديوي لاستقبال ملكة فرنسا اوجيني لحضور افتتاحج قناة السويس ، واقتنته شركة ماريوت عام 1970 لتشيد برجين حديثين انضافا الى القصر( عمر الخيام) وتم تدشينه في عام 1982 ويعد من ذلك الوقت ابرز فنادق القاهرة واكثرها جاذبية، يكفي الاشارة الى استقباله لاكثر من 1600 سائح خلال اقامتنا .
لم اضع الفرصة وذهبت الى عرض الفيلم ، كان مبرمجا في التاسعة والنصف ليلا، وعلى الرغم من البرد القاهري ليلا فقد كانت الصالى تغص بالشباب والشبات بشكل خاص لاكتشاف “ابو صدام” فمن تراه يكون ؟
البطل في “أبوصدام” مجرد سائق شاحنات ثقيلة
. يحمل السائق اسم “أبوصدام” لسبب مجهول. إنه يضع صورة طفل أمامه في مقدمة السيارة، يفهم منها أنه ابنه صدام. ولكن بمرور الأحداث نعرف أنه عقيم. وأنه لم ينجب من زيجتين متتاليتين. وينتهي الفيلم دون أن نتأكد من حقيقة هذه الصورة
شخصية متقلبة
أبو صدام رجل حاد الطباع، عصبي، يعود لمهنة قيادة الشاحنات بعد عدة سنوات من الاختفاء بسبب اعتدائه بالضرب على زميل له وكاد يقتله.
يصور الفيلم اول سفرة لابي صدام بعد استئنافه للعمل، يصحبه صبي صغير يعمل مساعدا له ( يلعب دوره بتميز الشاب أحمد داش، ويتبين ان المساعد كان يخطط لسرقة الاموال الموجودة في عهدة ابي صدام وهو ما يفتح صراعا خفيا بين السائق ومساعده طوال الوقت فضلا عن الصراع مع الزمن ، متى يقتنص الشاب الفرصة وينقض على المال في غفلة من ابي صدام لانه غير قادر على مواجهته رجلا لرجل ، ).
قبل بداية العناوين وقبل أن ينطلق في أول رحلة له على الطريق بعد سنوات الانقطاع، نعلم أن “أبوصدام” تشاجر مرة أخرى مع سائق زميل، وأن هناك محاولات من “الحاج” الذي كلفه بالعمل لتهدئته وإقناعه بالاعتذار للسائق ورب عمله، لكن أبوصدام يأبى الاعتذار، ثم يقبل على مضض، ولكنه يماطل في الاتصال برب العمل الآخر.
نعلم أيضا أنه كان متزوجا من قبل ولم ينجب. وأنه الآن متزوج من امرأة أخرى، يرفض أن يسمح لها بالذهاب لزفاف ابنة عمتها، ويكره بشكل خاص شقيقها الذي يحاول التدخل بينهما، لمنعه من ضربها وإساءة معاملتها. كما نعلم أنه لم ينجب منها أيضا، وأنه يرفض الخضوع لعلاج أو الذهاب لعمل تحاليل الخصوبة.
ملك الطريق
أبوصدام مع ذلك رجل طيب، يحاول جاهدا أن يتحكم في نفسه، تستفزه بشدة فتاة مدللة تقطع عليه الطريق بسيارتها وتنطلق مسرعة، فيحاول في نوبة غضب أن يلحق بها، قبل أن يستعيد هدوءه ويدعو لها بألا تؤذي نفسها أو شخصا آخر.
يرسم أبوصدام لنفسه صورة متخيلة يعيش داخلها: هو ملك الطريق وعفريت الأسفلت وفحل الرجال، وفي لحظة مقتطعة من صمته وكتمانه الدائمين يبوح لمساعده بقصة جنسية كان بطلها. تبدو كما لو كانت إحدى خيالات ألف ليلة وليلة، التي تتحول في نهايتها المرأة إلى جنية قاتلة.
ليلة واحدة
تدور أحداث الفيلم بالكامل خلال ليلة واحدة، وهو من الناحية الشكلية ينتمي لنوعية أفلام الطريق. حيث تدور الأحداث كلها داخل الشاحنة أو بجوار الطريق. تتداعى الأحداث وتترابط مثل شبكة عنكبوت حديدية تلتف حول أبوصدام وتخنقه وتدفعه دفعا للانفجار المدمر. وتنجح نادين خان في صنع التشويق والحفاظ عليه باستمرار، ويساعدها في ذلك مدير تصوير ممتاز عرف بإتقانه وإبداعه الفني (عبدالسلام موسى) وسيناريو بارع الانتقالات والحوار كتبه محمود عزت (عن قصة لنادين خان) وموسيقى تصويرية لا تعلق على الأحداث والدراما، ولكنها تصنعها وتظهر ما بطن منها.
نادين خان
في فيلمها الأول “هرج ومرج” سعت نادين خان لتقديم رؤيتها للواقع بشكل رمزي سيريالي. واهتمت بالفكرة أكثر من اهتمامها بالدقة، لكنها هنا تثبت تطورها كمخرجة متمكنة من أدواتها، شديدة التدقيق فيما يتعلق بالتفاصيل وتوجيه الممثلين، وقادرة على صنع صور بصرية أخاذة. وهناك مشهد اصطدام في نهاية الفيلم مبهر بحرفية تصميمه وتنفيذه وتصويره.
ومن المدهش في “أبوصدام” أن نادين خان تتعاطف مع شخصية البطل، تشرحه كطبيبة أكثر مما تدينه أو تحكم عليه. الرجولة هنا ليست مجرد تهديد للنساء كما نرى في الكثير من الأفلام التي تتعاطف مع المرأة، ولكنها مرض نفسي واجتماعي: أبوصدام يعاني من نقص الفحولة، ويحقد على النساء اللواتي يملكن سر الحياة، وهو محاصر بمجتمع يحكم على الرجل بمظهره، بعضلاته وشواربه ودرجة عنفه. إنه ضحية،وهو قبل ذلك وبعده نموذج لمجتمع كامل قائم على وهم الفحولة المتخيلة!
صنعت نادين خان التي يمكن أن يستدعي اسمها في ذهنك ربطًا سريعًا بالمخرج الشهير محمد خان -وستكون على حق فهي ابنته بالفعل- فيلمين طويلين فقط حتى الآن، «هرج ومرج» في 2012 و«أبو صدام» في 2021، تدور أحداث كليهما في مجتمعات مهمشة لكنها واسعة وأساسية، تحكي قصص أناس نراهم يوميا، نتعامل معهم أو نعيش وسطهم أو نحن هم بالفعل لكن الذي يميز تجربتها السينمائية في تمثيل قطاع من البشر لا يتسم بالثراء أو الألق الاجتماعي هو عدم انجرافها للاستغلال أو تصوير تلك الطبقات وكأنها كائنات موجودة لاستعراض المآسي والانحلال الاخلاقي، بل هم شخصيات متكاملة يملكون حيوات معقدة، لكن الأكثر تميزًا في أفلامها هي قيمة التسكع، عدم وجود أحداث كبرى مروعة أو مثيرة، أفلام تجعلنا نعيش مع شخصياتها اليوم بيومه، نختبر ما يختبرون في الحياة من صعوبات ومسرات.
تستمر رحلة الشخصيات الرئيسية داخل السيارة لفترة طويلة، يقطع القيادة أحداثًا على الأرض من حين لآخر لكنها لا تغير من نوع الفيلم ، لكن طبيعة ديناميكية العلاقات هي التي تسمح بإدخال أنواع أخرى، فيمكن بسهولة وصف الفيلم بأنه فيلم صداقة Buddy Movie وهي الأفلام التي تصور علاقة بين رجلين في الغالب في مهمة ما أو يتحولان من عدوان إلى صديقين، علاقة أبو صدام بحسن مربكة، لا يملك حسن أنقى النوايا تجاه رئيسه، بل يطمح في استغلاله لكنه مبهور برجولته وقوته في الآن ذاته، بينما يعامل أبو صدام حسن بفوقية فائقة، فهو يرى في نفسه الرجل الأوحد و«ملك الطريق» لفترة قبل أن يلين عندما تأتي سيرة النساء والجنس، عندها تذوب الفواصل ويصبحا صحبة متكافئة.
وفي كل ذلك لا تغيب قيمة التسكع، كلتا الشخصيتين لا تملك عوامل جذب كبيرة فهما لا يملكان منظومة أخلاقية واضحة أو جاذبية، لكنهما حقيقيان إلى أبعد حد، شكلًا وموضوعًا، وكثرة التسكع معهما تجعلنا نطور رابطًا عاطفيًا معهما، أسمى البعض تلك اللحظات من اللاحدث «تطويل» لكنها لحظات ضرورية لخلق تلك العلاقة وتحويل الفيلم من درس عن أضرار الذكورة المسممة إلى فيلم حقيقي لا يحكم على شخصياته بل يستعرضها،
يهتم فيلم ابو صدام بشكل رئيسي باستكشاف عالم من الرجال، فعالم قيادة السيارات وبخاصة ذلك الحجم الكبير منها هو عالم حصري للرجال، ويتخطى الفيلم القصة الرئيسية لكي يستكشف الذكورة كمفهوم، بخاصة في تلك المجتمعات التي تقدسها، الذكورة بكل الأوصاف السلبية التي يمكن أن تلحق بها (مسممة، جريحة، هشة)، يساعدها في ذلك اختيار عربة النقل الضخمة التي تجعل من قائدها إلهًا يطل على من تحته ناظرًا باحتقار ومطلقًا للأحكام، يملك عينًا فوق الجميع ومن مقصورته المرتفعة يخترق من يريد، لكن ما يضعف تلك الدراسة ويقلل من تأثيرها هو تكرار المجاز، تتخذ خان من الخدش/الجرح الذي يصيب عربة أبو صدام مجازًا لذكورته الجريحة، نتيجة للضغط المجتمعي وعدم قدرته على التكاثر وعصيان امرأته له وإزعاج فتيات الطبقات العليا بسياراتهن الفارهة له على الطرق، باختصار نتيجة رفض أي أنثى أن تطيعه أو عجزها عن رؤية فحولته وقوته التي لا تضاهى.
يتحسس أبو صدام جرح عربته مرارًا وتكرارًا ويتشاجر بسببه في الهاتف عدة مرات في فيلم لا تتعدى مدته التسعين دقيقة، يذكر أنه رجل لا تضاهى رجولته في كل فرصة تأتيه، وكان الخدش الذي في الشاحنة اقرب الى الجرح العميق في جسد ابي صدام
فيلم «أبو صدام» تجربة يمكن ضمها إلى تقاليد الواقعية الاجتماعية المصرية، كما أنه فيلم بسيط ويمكن فهمه على أكثر من مستوى، يصنع شخصيات ملموسة وحقيقية بأداءات مؤثرة ومتميزة من بطليه محمد ممدوح «الفائز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» وأحمد داش، يمكن تفهمها ويمكن كراهيتها، ويهتم بما يبديه بنفس قدر ما يقوله، فيلم يستحق المشاهدة بشكل تجاري واسع وينذر بميلاد موهبة ذات عين مراقبة وذكية.