اول الكلام

الرقمنة على الطريقة التونسية!

يوفر الديوان الوطني للملكية العقارية خدمة الاطلاع على الرسوم العقارية عن بعد. حيث يسمح الموقع الالكتروني المخصص لهذا الغرض للمواطنين بعد التسجيل باستخدام بطاقة التعريف الوطنية أو جواز السفر ودفع معلوم الخدمة بالبطاقة البنكية الاطلاع على السجلاتالعقارية كاملةخلال مدة زمنية محددة.

ويمكن لأول وهلة اعتبار هذه الخدمة ثورة حقيقية في عالم الإدارة التونسية، فهي توفر وقتا طائلا على كل شخص تعرض له هذه الحاجة، خصوصا في عمليات البيع والشراء والترسيم والرهن، وتقلل من الازدحام في المقرات الإدارية. وقد سبق أن تباهى أكثر من وزير مكلف بأملاك الدولة بهذا الإنجاز معتبرا إياه فتحا مبينا.

لكن في الواقع، لا يمكن اعتبار هذه التجربة مثالية أو نموذجية، ولا ينبغي اعتمادها مقياسا لما ستكون عليه رقمنة الإدارة، لعدة اعتبارات جوهرية.أولها أن الإدارة قامت بتصوير السجلات العقارية الأصلية، ولم تحولها إلى معلومات رقمية في قواعد بيانات،وهذا ما يجعل أي شخص على دراية متقدمة قليلا بتقنيات الحوسبة قادرا على تنزيل السجل العقاري المتكون من مئات الصفحات كاملا على حاسوبه الشخصي متجاوزا بذلك الأجل الزمني الذي يحدده الموقع!

تتضمن الرسوم العقارية كنزا من المعطيات الشخصية الثمينة، ففي عمليات البيع والشراء مثلا، ستعثر على بطاقات تعريف البائعين والمشترين موثقة بأرقامها وتواريخ صدورها مع أسماء أصحابها وتاريخ ميلادهم ومقرات سكناهم ومهنهم وعلاقاتهم العائلية، إذ يقع في السجل اختصار محتوى العقود لإثبات الملكية وكيفية انجرارها. ولك أن تتخيل كيف يمكن استخدام هذه البيانات خفية عن أصحابها لو وقعت بين أيدي أشخاص متلاعبين خصوصا في سياق سياسي مضطرب يسوده الشك وتنعدم فيه الثقة.

تخزين السجلات في شكل صور، لا يمكن اعتباره مدخلا صحيحا لرقمنة الإدارة، فالرقمنة تعني تحويل البيانات من صيغتها الورقية إلى صيغة الكترونية.أما التصوير بالماسح الضوئي فلحفظ الوثائق الأصلية وحمايتها من التلف، كما يحدث مع المخطوطات الثمينة في المكتبات العالمية. وتصوير السجلات العقارية التي يعود بعضها إلى بدايات القرن العشرين إنجاز مهم في هذا السياق لكنه جزء فقط من عملية الانتقال الرقمي.

الجزء الأهم يقع في إعادة إدخال المعلومات التي تتضمنها السجلات وكتابتها في قواعد بيانات، فالاطلاع على الرسوم العقارية هو بغاية النظر في انجرار الملكية وما يتعلق بها تبعات قضائية أو بنكية….  وباستخدام البيانات الخام يمكن للخوارزميات حجب المعلومات التي من غير الضروري الاطلاع عليها.

صحيح أنه يمكنك في قضية الحال الاطلاع على رسم عقاري يخصك وأنت جالس في بيتك، لكنك أيضا وعبر هذه الخدمة الالكترونية الثمينة يمكنك النفاذ إلى البيانات الشخصية لمئات الأشخاص المشتركين معك في الملكية لا سيما في حالة الشياع!

تقدم لنا تجربة «رقمنة» الرائد الرسمي للجمهورية التونسية نموذجا ناجحا عن إمكانية دمج الصور الالكترونية في الخدمات عن بعد، فالزائر يستخدم أولا محرك البحث للوصول إلى غايته، ثم يتيح له الموقع إمكانية تنزيل الصفحة في شكل صورة أصلية. وكذلك رقمنة سجلات الحالة المدنية، فمضامين الولادة أو الوفاة التي نستخرجها اليوم ليست صورا من النصوص الأصلية، بل وثائق جديدة تكتب الكترونيا بناء على ما تمّ تخزينه في قاعدة البيانات، وتطبيق ذلك على الرسوم العقاريةممكن.

تبدو «الرقمنة» في خطابات السياسيين خصوصا، الحل السحري لكل مشاكل المجتمع العصري، وهذا صحيح إلى حدّ ما، شرط ألا تفتح أبوابا كانت حتى وقت قريب محكمة الإغلاق، كإتاحة البيانات الشخصية لملايين الأشخاص للتداول على نطاق واسع! وهذا أمر ينبغي للهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية أن تنبه إليه وتدعو إلى إصلاحه فهو من أوكد مهامها.

*عامر بوعزة(صحفي تونسي مقيم بالدوحة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.