الرئيسيةشؤون عربية

ماكرون في الجزائر: اعادة بناء العلاقات ومراجعة ارشيف الاستعمار

بعد  60 عاما من انتهائه، لا يزال “التاريخ الاستعماري” لفرنسا يوتر علاقاتها مع مستعمرتها السابقة: الجزائر. وبإعلانه، الخميس، إنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين لدراسة أرشيف هذه الحقبة، يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى إنجاز مهمة يرى مراقبون إنها لن تكون سهلة.

وقال ماكرون خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون “لدينا ماض مشترك معقد ومؤلم” وقد “قررنا معا” إنشاء “لجنة مؤرخين مشتركة” من أجل “النظر في كامل تلك الفترة التاريخية… منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، بدون محظورات”.

وأضاف “نعيش لحظة فريدة آمل أن تسمح لنا بالنظر للمسألة بتواضع وصدق”.

 اعتراف سياسي بما حدث

ولا ترغب الجزائر في اعتذارات فرنسية بشأن جرائم الاستعمار الفرنسي، لكنها تبحث بالأساس عن اعترافٍ رسمي كامل بهذه الجرائم، وفق ما سبق أن كشف عنه الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في حوار تلفزيوني في 2021.

وينقل موقع “ألترا ألجيري” في تقرير سابق إن “الاعتذار” لم يعد مطلبا لكونه إجراء سياسيا فقط، على خلاف مطلب الاعتراف الرسمي الذي تتمسك به الجزائر، لأنه خطوة تقود إلى تحمل فرنسا المسؤولية الكاملة عما ارتكبته ضد الجزائريين، وفق الموقع.

ويقول الكاتب الإعلامي الجزائري، علي بوخلاف، إن اللجنة ستقيم ما تم في الماضي وما يمكن أن تقوم به الدولتان مستقبلا”.

وتوقع بوخلاف في حديث لموقع “الحرة” أن تخلص اللجنة إلى “خلاصة ربما تؤدي إلى اعتراف سياسي من فرنسا”. ويؤكد أن “الجزائر تريد الاعتراف الرسمي، مع فتح الأرشيف”، مضيفا أن ” ماكرون اقترح عملا علميا، لجنة من المؤرخين تعمل على تحديد المسؤوليات للوصول إلى”الاعتراف” في آخر المطاف”.

والشهر الماضي، احتفلت الجزائر بالذكرى الستين لاستقلالها بعد 132 عاما من الاستعمار الفرنسي الذي ما زالت ذكراه توتّر العلاقات مع باريس على الرغم من المبادرات الرمزية التي تقوم بها فرنسا.

وانتزعت الجزائر الاستقلال بعد سبع سنوات ونصف من حرب دامية خلّفت مئات آلاف من القتلى، ما جعلها المستعمرة الفرنسية السابقة الوحيدة في إفريقيا في سنوات 1960 التي تحرّرت بالسلاح من فرنسا.

وشدد الرئيس الفرنسي على أن “ما نريد فعله هو بناء المستقبل، فنحن لم نختر الماضي”، مضيفا “لدينا مسؤولية بناء مستقبلنا نحن وشبابنا”.

وتابع ماكرون “بناء المستقبل يعني النظر معا لمستقبلنا… أن نساعد الشباب الجزائري والفرنسي على النجاح”.

ليست المرة الأولى

الناشط المحلل الجزائري، وليد كبير، يقول لموقع “الحرة” إن “إنشاء اللجنة تم التطرق إليه في ما سبق عندما تم الإعلان عن تعيين المؤرخ الفرنسي، بنجامين ستورا، كي ينسق مع من عينته الجزائر آنذاك، محمد شيخي، وهو مسؤول الأرشيف الوطني”.

وبالنسبة لكبير، فإن “هذا الكلام  هو كلام سياسي يتم الإعلان عنه مجددا بخصوص الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا”.

والشهر الماضي، كانت هناك مقابلة غير مسبوقة بين الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون والمؤرخ الفرنسي، بنجامان ستورا، ولا سيما بعد الانتقادات التي وجهت في الجزائر لتقرير رفعه المؤرخ في جانفي  2021 إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر.

ولا يوصي التقرير الذي استند إليه الرئيس الفرنسي لوضع سياسته حول الذاكرة المشتركة، لا بتقديم اعتذار ولا بإبداء ندم، وهو ما أثار انتقادات حادة في الجزائر ولا سيما من جمعيات للمقاتلين القدامى، فما الذي يمكن أن تقدمه اللجنة التي أعلنها ماكرون الخميس؟

يقول وليد كبير لموقع “الحرة” إن “فرنسا لديها الأرشيف وتعرف كل الأحداث التي وقعت في فترة بين 1830 و 1962”.

من جانبه، يرى الإعلامي، بوخلاف، في حديثه لموقع قناة الحرة أن “الرئيسين يريدان أن يتركا الذاكرة إلى المؤرخين المختصين ولايريدان أن يسيساها وأن ينظرا إلى المستقبل بليونة أكثر، بدون النظر كل مرة إلى التاريخ، وألا يعكر التاريخ كل الخطوات المستقبلية التي ستقوم بها  الدولتان”.

وقال المؤروخ الفرنسي، بنجامين ستورا، في مقابلة مع وكالة فرنس برس، إن “حرب احتلال الجزائر كانت طويلة جدا ودموية جدا، واستمرت عمليا نصف قرن” من 1830 إلى 1871.

وترافقت مع “تجريد من الأملاك والهوية” إذ “حين كان الناس يخسرون أرضهم، كانوا يخسرون اسمهم”، ومع إقامة “مستوطنة” بوصول عدد الأوروبيين في نهاية المطاف إلى مليون مقابل تعداد سكاني قدره تسعة ملايين نسمة.

لكن بالنسبة للناشط الجزائري، وليد كبير، فإن الأرشيف الفرنسي يحتوي أحداثا وظفها “النظام الجزائري للمتاجرة بريع الذاكرة” حسب تعبيره، مشيرا في حديث لموقع “الحرة” إلى أن هناك توظيفا سياسيا لذلك حتى في فرنسا”.

مهمة سهلة؟

الأمر سيكون صعبا، وفق ما يتوقع وليد كبير قائلا: “أعتقد أن هذا الأمر سيطول كثيرا  وسيتعرض إلى المطبات خصوصا أثناء الأزمات التي قد تندلع بين البلدين، لأن العلاقات بين البلدين لم تشهد نوعا من الاستقرار منذ الاستقلال إلى يومنا هذا،  وإنشاء هذه اللجنة قد يتعرض لبعض المعيقات المرتبطة بتطور العلاقات السياسية بين فرنسا والجزائر”.

وفي سبتمبر 2021 تدهورت العلاقات بين باريس والجزائر  بعدما اتهم ماكرون النظام “السياسي-العسكري” الجزائري بتكريس سياسة “ريع الذاكرة” بشأن حرب الاستقلال وشكك في وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي.

واستدعت الجزائر سفيرها في فرنسا حينذاك، ليعود بعد نحو ثلاثة أشهر. وفي نهاية المطاف أعرب الرئيس الفرنسي عن “أسفه” للجدل الذي أثارته تصريحاته في مسعى لاحتواء الأزمة.

ومذّاك عادت الحرارة إلى العلاقات بشكل تدريجي.

ويزور الرئيس الفرنسي الجزائر في ثاني زيارة له، وهي محفوفة بالتحديات حول قضايا أبرزها الذاكرة والحرب في أوكرانيا والغاز الجزائري والتأشيرات والأمن في الساحل، وليس أقلها تجاوز الخلافات التي طغت على ولايته الأولى.

 

أجرى الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والجزائري عبد المجيد تبّون في الجزائر العاصمة، الخميس، محادثات “بناءة” و”واعدة” وتعهدا “العمل معا” من أجل إرساء “علاقات استراتيجية”، وذلك في اليوم الأول من زيارة تستمرّ ثلاثة أيام وتهدف إلى طي صفحة القطيعة بين البلدين.

وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون خلال مؤتمر صحفي مشترك مع ماكرون إنّ المحادثات التي استمرت أكثر من ساعتين كانت “صريحة” و”تنمّ عن مدى خصوصية العلاقات بين بلدينا وعمقها وتشعّبها”.

وأكّد الرئيس الجزائري أنه جرى الاتفاق على “توجه جديد” في العلاقات يقوم على “مبادئ الاحترام والثقة” من أجل “إرساء علاقات استراتيجية”.

ولفت إلى أنّه سيتمّ “تكثيف وتيرة تبادل الزيارات”، معربا عن أمله في أن “تفتح آفاقا جديدة في علاقات الشراكة والتعاون”.

وأعلن تبّون، أيضا، عن تكثيف عمل عدد من اللجان الوزارية المشتركة بين البلدين من أجل “تجاوز مختلف العقبات التي تواجه تحقيق أهداف شعبينا وبلدينا”.

وتتزامن الزيارة مع الذكرى الستين لانتهاء الحرب واستقلال الجزائر عام 1962.

من جهته أكّد الرئيس الفرنسي على الرغبة في “العمل معا” حول “الماضي المشترك المعقد والمؤلم”.

وسيتم في سبيل ذلك إنشاء “لجنة مؤرخين مشتركة” من أجل “النظر في كامل تلك الفترة التاريخية… منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، بدون محظورات”، وفقا لماكرون.

من ناحيته، أوضح تبّون أنه جرى خلال اللقاء التطرّق أيضا إلى “الوضع الراهن الأمني والسياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي”.

وتعتبر الجزائر أنّ الزيارة التي يقوم بها ماكرون برفقة وفد كبير يشمل 90 شخصا بينهم سبعة وزراء تظهر “تقديرها (باريس) للدور المحوري الذي تؤدّيه الجزائر في المنطقة”، فضلا عن “العودة القوية للدبلوماسية الجزائرية على الساحة الدولية”، وفق ما أوردت وكالة الأنباء الرسمية في تقديمها للزيارة.

وكشف الرئيس الجزائري أنه تبادل مع نظيره الفرنسي “وجهات النظر حول عديد القضايا الهامة خاصة بليبيا ومالي والصحراء الغربية… من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة”.

وتضطلع الجزائر بدور محوري في المنطقة نظرا لامتداد حدودها آلاف الكيلومترات مع مالي والنيجر وليبيا، كما أنها مقرّبة من روسيا مزوّدها الرئيسي بالأسلحة.

“ضرورة سياسية”

ويرى الخبير السياسي الجزائري منصور قديدير أنه “بالنظر إلى مخاطر عدم الاستقرار في المنطقة المغاربية والنزاعات في الساحل والحرب في أوكرانيا، فإن تحسين العلاقات بين فرنسا والجزائر ضرورة سياسية”.

ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا باتت الجزائر، وهي من بين أكبر عشرة منتجين للغاز في العالم، مُحاورا مرغوبا به للغاية من جانب الأوروبيين الساعين إلى تقليل اعتمادهم على الغاز الروسي.

ورغم تأكيد الرئاسة الفرنسية أن الغاز الجزائري “ليس موضوع الزيارة” وأنه “لن يتم الإعلان عن عقود كبرى أو مفاوضات هامة”، إلا أن الوفد المرافق لماكرون يشمل المديرة التنفيذية لشركة “إنجي” العملاقة للطاقة، كاترين ماكغريغور.

وهذه الزيارة هي الثانية لماكرون إلى الجزائر منذ توليه الرئاسة، وتعود زيارته الأولى إلى 2017 في بداية ولايته الأولى.

وقد بدت حينها العلاقات بين البلدين واعدة مع رئيس فرنسي شاب ولد بعد عام 1962 ومتحرر من ثقل التاريخ ووصف الاستعمار الفرنسي بأنه “جريمة ضد الإنسانية”.

لكنّ الآمال سرعان ما تراجعت مع صعوبة توفيق ذاكرة البلدين بعد 132 عامًا من الاستعمار والحرب الدموية ورحيل مليون فرنسي من الجزائر عام 1962.

وضاعف ماكرون المبادرات في ملف الذاكرة، معترفا بمسؤولية الجيش الفرنسي في مقتل عالم الرياضيات موريس أودين والمحامي الوطني علي بومنجل خلال “معركة الجزائر” عام 1957.

واستنكر “الجرائم التي لا مبرر لها” خلال المذبحة التي تعرض لها المتظاهرون الجزائريون في باريس في 17 أكتوبر 1961.

لكنّ الاعتذارات التي تنتظرها الجزائر عن الاستعمار لم تأت أبدا، ما أحبط مبادرات ماكرون وزاد سوء التفاهم.

وتفاقمت القطيعة مع نشر تصريحات للرئيس الفرنسي في أكتوبر 2021 اتهم فيها “النظام السياسي العسكري” الجزائري بإنشاء “ريع للذاكرة” وشكّك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار.

مذاك أعاد ماكرون الأمور إلى نصابها وقرر الرئيسان إعادة الشراكة بين البلدين إلى مسارها الصحيح.

لكن القضية الحساسة المتعلقة بالتأشيرات التي تمنحها فرنسا والتي انخفض عددها إلى النصف استمرت في التأثير على العلاقات.

وألمح الرئيس الفرنسي إلى المسألة الخميس، مشيرا إلى قرارات ستتخذ من أجل تسهيل “تنقّل فنانينا ورياضيينا ورجال أعمالنا وباحثينا وعلمائنا وجمعياتنا وقادتنا السياسيين ممّا يسمح لنا ببناء مزيد من المشاريع المشتركة”.

وسيلتقي ماكرون خلال زيارته رواد أعمال جزائريين شباب، وفي هذا السياق صرّح رئيس المجلس الجزائري للتجديد الاقتصادي، كمال مولى، للموقع الإخباري “كل شيء عن الجزائر” أنّه ينتظر “نمطا جديدا من التعاون” بين ضفتي المتوسط يقوم على “الاستثمار والإنتاج المشترك” من أجل “غزو مشترك لأسواق جديدة”.

لكنّ الرأي العام الجزائري ينظر لزيارة الرئيس الفرنسي بحذر.

ويقول عثمان عبداللوش (62 عاما) وهو خبير في المعلوماتية “في عام 2017 قبل أن يصبح رئيسًا كان يتحدث جيدًا وأجرى زيارة، لكن بعد عودته إلى فرنسا تغير وتبنى خطابًا مختلفا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.