قال لي سي محمد البدوي أثناء لقائنا الأخير ببيته: «أليس غريبا أننا لم نلتقط ولو صورة واحدة لنا ونحن نقدّم معا برنامج واحة المبدعين؟».
كنا يومها عائديْن للتوّ أنا والصديق الكاتب «توفيق الببّة» من العاصمة، محملين بالنسخ الأولى من كتابي «نظرية الموز» الصادر عن «دار بن عربي للنشر»، هذه الدار التي أسّسها سي محمد وأدارها بشغف كبير. يومها، ولأسباب صحية، لم يتمكن من مرافقتنا إلى المطبعة ليستلم بنفسه النسخ الأولى كما كان يحرص على أن يفعل دائما مع كل الكتب التي يصدرها، لكنّ التعب والإرهاق الباديين على وجهه الشاحب النحيل لم ينتصرا على لمعة الفرح في عينيه وهو يتصفّح الكتاب ويضمّه إليه كما يفعل الأب مع مولود جديد يستقبل الدنيا على يديه.
لقد سحبني سؤاله ذاك من يدي ليأخذني بعيدا عن تلك اللحظة ثلاثين عاما، إلى ذلك الصيف الذي التقينا فيه لنؤسّس معا أحد أنجح برامج إذاعة المنستير إطلاقا. كيف لا؟ وهو السّماء التي كم حلّقت فيها طيور كثيرة صنعت ربيع الثقافة والأدب في التسعينات وما تلاها
. لقد كان زمنا جميلا للحبّ والحلم والأمل. ولم يكن المستحيل يعني شيئا.
أعلمنا الصادق بوعبان أن مدير الإذاعة اختصر المرحلة في جملة واحدة: «أروني ما تستطيعون فعله». ولم يدر أنه في تلك اللحظة قد أوقد الشعلة التي لن تنطفئ إلا بعد ما يقارب العقدين من الزمن، بعد أن هبّت الفوضى من كل الأنحاء. لم يدر أنه فكّ المارد من عقاله وأضاء له الدرب، فتتالت الأفكار والعناوين، وظللنا ننتقل من زهرة إلى أخرى نصنع ذكرياتنا وذكريات الآخرين، آملين أن نترك للناس ما ينفعهم، وما يمكث في العقل والوجدان.
حقّا لم نجد الوقت الكافي لالتقاط صور تذكارية، فقد كنا نسابق الزمن. ولم يكن التصوير متاحا بالسّهولة التي صار إليها في عصرنا هذا، عصر الهواتف المحمولة والوسائط الاجتماعية. وأنا لم أرافق محمد البدوي في «واحة المبدعين» إلا سنة واحدة انتقلت إثرها إلى المنوعات، فيما ظلّ هو وفيّا للكِتَاب وللأدباء الشبّان، فصارت برامجه المخصصة للأدب التونسي الحديث علامة مميّزة في الوسط الثقافي والأكاديمي. لكننا في ذلك العام اليتيم وضعنا مع رفاق الطريق الآخرين الأسُس التي قام عليها «ملتقى أدب التسعينات» واستمرّ سبعة مواسم مستقطبا في رحابه مئات الكتاب والمبدعين من تونس ومن مختلف أنحاء الوطن العربي.
وفي تلك السنة الأولى كنّا أمام الميكروفون مثالا جيّدا للانسجام الذي يقوم على التناقض، والاختلاف الذي لا يفضي إلى تباغض، بل يولّد المزيد والمزيد من الأفكار والصّداقة والودّ. كنت شديدا وكان حليما، وكنت مندفعا وكان حكيما، وكم جلبت لنا الصراحة التي كنت أتوخاها في النقد من متاعب كان سي محمد يضطر دائما إلى إطفاء نيران الغضب التي تخلفها. وأثناء ذلك مدّت الصداقة التي نشأت بيننا جذورها في الأرض عميقا، فتقاسمنا الماء والملح ببيتنا في «سيدي عامر» وببيته في حيّ البساتين، البيت الذي كان مفتوحا على مصراعيه لكل الأصدقاء بكرم حاتمي قلّ نظيره. وظلّ ذلك الاختلاف ثابتا لم تغيّره الأيام، حتى أنني عندما أطلعني سي محمد على كتابه (ثلاثون عاما في إذاعة المنستير) مخطوطا، تمنيت أن يحذف منه فقرات كثيرة وأن يتجاهل أولئك الذين أساءوا إليه، لكنه لم يفعل، وجلب له ذلك آلاما كم كان في غنى عنها..
تخليت عن مقعدي أمام ميكروفون «واحة المبدعين» مبكرا لأسلك طرقا أخرى في الحقل الإذاعي الفسيح، فتداول عليه آخرون. وظل سي محمد وفيا للنهج الذي اختاره منذ البداية فأصبح بمرور السنوات عرّابا لكثير من التجارب الأدبية الغضة، تشهد بذلك المقدمات التي صاغها لأعمال نشرتها تحت إشرافه دار المعارف والأعمال التي تبناها عندما اقتحم غمار النشر.
وعلى مدى عشرين عاما بعد لقائنا الأول في ظلال الواحة ظل سي محمد يلحّ على أن نصوصي الشعرية قد تأخّر أوانُ نشرها طويلا. ولذلك كان الإهداء في مجموعتي الأولى «غابة تتذكر أحزانها» موجها إليه.
الصور القليلة المتبقية كانت خارج الأستوديو، بعيدا عن واحة المبدعين، وأجمل منها تلك الصور التي لم تلتقط وظلت نابضة بالحياة في ذاكرتنا المشتركة. وأنا أسترجع الآن بصفاء نادر وقائع ليلتنا الأولى في بغداد، حين وصلنا إلى فندق الميريديان عند منتصف الليل بعد رحلة برية طويلة من عمان. فقد امتثلنا رغم التعب والإرهاق للشاعر «آدم فتحي» الخبير بليل المدينة وخباياها الأسطورية، وقد قال لنا: لا مجال للنوم، قبل أن ندخن نارجيلة في أحد المقاهي الخلفية بشارع الرشيد، وهناك قضينا الليل كله. في الطريق كان سائق التاكسي يجوب بنا شوارع بغداد التي لم نر فيها أي علامة من علامات العدوان وعندما سألناه: أين هي آثار الحرب؟ ابتسم قائلا: إنها في القلب.
وكذلك هي صور الحب وذكريات الزمن الجميل مكانها دائما في القلب.
*عامر بوعزة، صحافي وشاعر وكاتب تونسي مقيم بالدوحة
محمد البدوي، فقيد الادب التونسي، جامعي ، كاتب وناقد ومنتج إذاعي، ورئيس سابق لاتحاد الكتاب التونسيين