عامر بوعزة يكتب من الدوحة:المذنبون
لن يجد القضاء أدلة مباشرة على تورّطِ كبار مسؤولي النهضة في قضية التسفير، وستقتصر الإدانات على بعض الموظفين والأمنيين الذين يمكنهم بكل سهولة لعب دور (كبش الفداء)،
فهذا جزء من قانون اللعبة واشتراطاتها التنظيمية. لكن هذا لا يعني البتة أن هؤلاء السياسيين الذين يغادرون تباعا غرف التحقيق رافعين شارات النصر ليتهكموا أمام وسائل الإعلام من أسئلة المحققين هم أبرياء فعلا من دم الشباب الذين ذهبوا إلى المحرقة في عهدهم.
حكام تونس في عهد الترويكا، رئيسُ الجمهورية الدكتور المنصف المرزوقي، ورئيسا حكومته حمادي الجبالي وعلي العريض ونواب الأغلبية في المجلس التأسيسي وأحزاب الحكم، مسؤولون عن تفشي التطرف الديني، ولا أحد يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية سواهم. ففي هذا السياق بالذات لا يكفي إلقاء التهم على الرئيس بن علي وسياسة تجفيف المنابع التي اعتمدها (وكثير من نشطاء النهضة يفعلون ذلك) لأن إرهابيّي الصفّ الأول كانوا في السجون وبعضهم أتى من «غوانتنامو»، لكن زعماء النهضة أصروا على ألا يستثني العفو التشريعي العام الذي أعلن العام 2011 المسجونين في قضايا الإرهاب وأطلق سراحهم بمقتضى ذلك، ومن باب الضحك على الذقون التنصل من هذه المسؤولية بدعوى أن فؤاد المبزع رئيس الجمهورية المؤقت هو الذي وقّع على قرار العفو وأطلق الماردَ من قمقمه!
النهضة مسؤولة عن الإرهاب بكل تجلياته بدءا من تهريب الأسلحة عبر الحدود الشرقية المنفلتة وزرعها في الأحياء المحيطة بالعاصمة، واستعمالها في عمليات اغتيال سياسي مريعة، وصولا إلى تصدير الشباب للقتال في سوريا. وتقع مسؤوليتها أساسا في خلق البيئة المناسبة لنموّ الظاهرة الإرهابية وتغلغلها في البيوت التونسية مستفيدة من حالة الإحباط واليأس الناجمين عن سوء الأوضاع المادية والاجتماعية، فقد تصرفت مع هؤلاء المحبطين كما تتصرف عصابات الاتجار بالبشر وتهريب الممنوعات حين سهلت لهم (الطريق إلى الجنة) بدل القيام بما يفترض أن تقوم به الأحزاب في منظومة الدولة الوطنية من تأطير وضبط واحتواء. تشهد على ذلك التسريبات الشهيرة لرئيس الحركة مع بعض السلفيين الذين يذكرونه بشبابه، والخيام الدعوية وفسح المنابر للدعاة بما فيها منبر قصر الرئاسة، وكذلك مختلف المواقف الإعلامية الرخوة التي صدرت عن كبار مسؤولي النهضة حين أمعنوا في إنكار الظاهرة، فقد قدموا إجابات ساذجة عن أسئلة خطيرة وجهت إليهم مثل الأسئلة المتعلقة بالهجوم على السفارة الأمريكية أو تهريب أبي عياض من جامع الفتح، وحتى تذرع علي العريض بأن حركته لم تقدر الظاهرة حق قدرها لا يشفع له، لأن الدولة لا تدار بأسلوب التجربة والخطأ، ومن فعل ذلك عمدا أو لانعدام كفاءة، عليه أن يتحمل مسؤولياته أمام الشعب وأمام التاريخ حتى إن برأه القضاء!
يبدو موقع مسؤولي النهضة اليوم في قضية «تسفير الشباب للقتال في سوريا» شبيها بموقع الكثير من مستشاري (بن علي) ووزرائه في قضايا الفساد التي رفعت بعد الثورة، فرغم معرفة الجميع بالمسؤولية السياسية والأخلاقية التي يتحملونها عجز القضاء عن إيجاد أدلة مادية تدينهم لأنهم غادروا مسرح الجريمة دون أن يتركوا أي أثر يدل عليهم، والحال أن (بن علي) نفسه قال عنهم عندما اشتدّ عليه الطوق: (غلطوني وسيحاسبون!)، بل وتذهب بعض الآراء إلى أنهم كانوا أبرز المستفيدين من ترحيله بتلك الطريقة، ولما لم يجد القضاء ما يبرر الزج بهم في السجون اكتفى بدعوتهم إلى عدم الظهور في الأماكن العمومية!
هناك تشابه بين هؤلاء وأولئك لأن القضاء العادي لا يحاسب على المسؤولية السياسية والأخلاقية إنما ينظر في الأفعال الموجبة للعقاب جزائيا، والتي تسندها أدلة مادية لا تقبل الشك، يتم إثباتها بإجراءات قانونية سليمة لا يمكن الطعن في صحتها. والدولة تتعامل مع هذه القضايا بحياد غريب رغم أنها الطرف المتضرر، فقضايا الفساد إثر الثورة رفعها مجموعة من المحامين المتطوعين (!)، وقضية التسفير فتحت بمقتضى شكاية تقدمت بها نائبة في البرلمان. وهو ما سمح لعلي العريض عقب خروجه من التحقيق باعتبار القضية سياسية بامتياز لأن الذين رفعوها هم من ألدّ أعداء النهضة على حد قوله!
لكن رغم هذا التشابه الشكلي بين القضايا التي يبحث فيها القضاء عن أدلة مادية غير موجودة فإن ردود فعل مسؤولي النهضة تختلف كثيرا عن ردود فعل وزراء بن علي ومستشاريه، فكثير من هؤلاء انسحبوا من الحياة السياسية تحت وطأة الشعور بالوصم، ولمجرد أنهم كانوا جزءا من منظومة فاسدة حتى وإن كانوا أبرياء، فهم يعرفون أكثر من غيرهم أن عدم سماع الدعوى لا يعفيهم من المسؤولية أمام الضمير والمجتمع. فيما يخرج اليوم راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة من مركز التحقيق ليطلّ برأسه من سيارة مكشوفة ويجوب شوارع العاصمة رافعا علامة النصر والحال أن مسؤوليته ثابتة في جريمة القضاء على الديمقراطية وإجهاض أحلام الناس وجر المجتمع إلى أبعد من نقطة الصفر التي انطلقت منها الثورة. فإذا لم تستح، افعل مثله لو استطعت!
*ننشر المقال باتفاق مع كاتبه الصديق الصحفي : عامر بوعزة،كاتب وإعلامي وشاعر تونسي يعمل بدولة قطر