مهرجان القاهرة السينمائي: خربت القيروان بعد أن بقينا عربانا بمفردنا…
عن فيلم"نرجعلك" لياسين الرديسي
تحصّل الفيلم التونسي « نرجعلك » للمخرج ياسين الرديسي على تنويه خاص من لجنة تحكيم مسابقة آفاق السينما العربية، في اختتام الدورة 44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13 – 22 نوفمبر 2022).
خبر عادي إلى حد ما، فالحصول على تنويه في مهرجان سينمائي ليس بالحدث الذي تهتم به وسائل الاعلام ، ولكن وقع الفيلم على نفسي لم يكن عاديا، عشت خمسين عاما في بلاد لم اخترها ،ولكني أحببتها بإرادتي ، وكم يؤلمني اني لم اتمكن من معرفة بلدي أرضا وبشرا، وكيف لي او لغيري ان نعرف بلادنا ونحن الى اليوم لم نبلغ الف كيلومتر من الطرقات السيارة؟
كيف للتونسي اصيل شمال البلاد ان يعرف جنوبها في غياب نقل عمومي ، فلا قطارات ولا طائرات ، ولا حتى سيارات اجرة تربط بين مختلف جهات البلاد، اللهم الا اذا كان السبيل الوحيد للتنقل على ظهور الدواب
“حل فيّ ترينو الفيلم” اعترف بذلك، فلاول مرة اسمع بهنري تيبي المطرب يهودي الديانة ابن حلق الوادي الذي ولد فيي تونس وعاش فيها الى نهاية الستينات تاريخ مغادرته لها مثل كثيرين من يهود البلاد تركوا وطنهم بعد حرب 1967 واتجهو في غالبهم اما الى فرنسا او اسرائيل”وطن اليهود ”
استقر هنري تيبي في باريس، ومنذ مطلع التسعينات من القرن الماضي انتبذ مكانا قصيا في إحدى القرى القريبة من “بيزنسون ” ، وفيها مات اثر حادث مرور في شهر ماي 2013
لعل ياسين الرديسي مخرج”نرجعلك” مثلي في جهله بهنري تيبي الى ان شاهد فيديو الرجل المسن يغني “حلق الوادي ” في احد شوارع فرنسا بعد 14جانفي 2011 ، اغنية تختزل حب هنري تيبي لتونس وخاصة لحلق الوادي LA GOULETTE اجمل مكان في الكون، الجنة والحب ، كما تقول الاغنية
في احد حواراته الصحفية يعترف ياسين الرديسي بانه اطلع بمحض الصدفة على كتاب مصطفى شلبي “يا حسرة على حلق الوادي” الذي خصص جزءا مهما من مؤلفه لموسيقى هنري تيبي، ثم شاهد في 2011 فيديو “حلق الوادي” يغنيها هنري تيبي في خريف العمر في احد الشوارع الفرنسية ، ولم تمهل الاقدار عاشق حلق الوادي طويلا فقد غادر عالمنا في صيف 2013
كل هذه اللحظات كانت القادح لياسين الرديسي لينطلق في رحلة امتدت سنوات طويلة تتبع خلالها خطى هنري تيبي ليقدمه في فيلم من ساعة ونصف ليس فقط للجمهور التونسي بل لاحباء السينما في كل اصقاع العالم
اذ يكفي ا ن اغاني هنري تيبي بالفرنسية ومع ذلك فقد حقق الفيلم نجاحا لافتا في مهرجان القاهرة السينمائي، فليست اللغة سوى اداة تواصل وليست بالضرورة القناة الوحيدة التي تمر عبرها المشاعر والاحاسيس
ولعلها مناسبة لشكر إدارة ايام قرطاج السينمائية – نسخة سنية الشامخي -التي لم تر في فيلم”نرجعلك” مادة مناسبة لافلام المسابقة الرسمية ، فلولا رفض الفيلم لما اغتنم مهرجان القاهرة الفرصة ويبرمج احد افضل افلامه هذا العام، وهنا يكمن احد الفوارق بين ادارة تبذل افضل ما لديها لبرمجة اجود الافلام، وادارة “تطمز عينيها بصوابعها” وتدير ظهرها لافلام على مستوى عال من الجدة والطرافة دون اي تفسير لاي كان، وفي افضل الحالات يتم الاختباء وراء لجان فرز مجهولة الهوية وكأنها من مراقبي وكالة الطاقة الذرية…
وانا أشاهد “نرجعلك” لياسين الرديسي، اكتشفت تونس اخرى غريبة عني لم تتح لي فرصة العيش فيها، فحلق الوادي التي وطأتها قدماي لاول مرة بعد انتقالي للعيش في العاصمة منتصف التسعينات، لا شيء فيها يشبه حلق الوادي التي احبها هنري تيبي، فبمجرد ان تدحل المدينة وانت قادم من العاصمة تعترضك اشغال لا تنتهي في مدخل المدينة وحصنا متداعيا للسقوط “كراكة حلق الوادي” يروى ان علي يبن غذاهم مات فيها بعد فشل ثورته عام 1864 ، حصن لا يستغل في شيء مجرد حجارة تشير الى اننا كنا امة لها كيان في هذا العالم ، لتبدأ معاناتك ، فالسيارات تقف بلا اي نظام على الضفتين يمينا وشمالا، اما اذا كان الفصل صيفا فالمطاعم الشعبية تحتل جانبا من الاسفلت فضلا عن استيلائها على الرصيف باكمله، وعليك التحلي بالصبر امام “براوط “(عربات) الهندي(التين الشوكي) ، ولن تفلح بيسر في العثور على مكان تأوي فيه سيارتك الا بمباركة احد حاملي العصيّ من مستغلي الطريق العام كمأوي مفتوح وكأنه لا توجد دولة أو بلدية …بهراوة يمكنك ان تتحول إلى حاكم بأمره على طول شارع روزفلت في حلق الوادي التي كانت جنة بعبارة إبنها هنري تيبي ومدينة للتسامح وتعايش مختلف الاديان والثقافات
اما اذا كنت من رواد مطعم المقهى الاخضر CAFE VERT فستشعر بان هذا المكان جزء من ذاكرة المدينة وبأن عظماء قد يكونون جلسوا على الطاولة نفسها التي حجزها لك “عميراتو” احد أقدم العاملين في المطعم
ولكن لا صور في المكان تخبرك بشيء فقط مجرد رائحة من الماضي وأحاديث جانبية عن كلوديا كاردينالي التي تناولت الغداء في المطعم المحبب إلى قلبها في زيارتها الأخيرة إلى تونس،
ولم تنس هذه الفاتنة انها ابنةLa Goulette ولدت فيها ولدت وترعرعت وفازت في مسابقة “أجمل فتاة إيطالية في تونس” عام 1957.
وكانت الجائزة رحلة إلي إيطاليا سرعان ما قادتها الى عالم النجومية
وتقول كلوديا كاردينالي في سيرتها الذانية “غادرت تونس في الخمسينيات، وتعوّدت منذ دخولي عالم الأضواء والشهرة السفر والانتقال من هوليوود إلى لندن، ومن مراكش إلى موسكو. لكنّ سفري وترحالي لم يمنعا شوقي لزيارة تونس بين الحين والآخر، وملاقاة الأصدقاء”
وتقول كلوديا كاردينالي في مقدمة الكتاب: “إنني فخورة بالانتماء إلى بلدي تونس، البلد الذي أعطى العديد من الأسماء اللامعة، والفاعلة في جميع الميادين. طيبة الناس وعطر سيدي بوسعيد وجمال البحر وبهاء حلق الوادي كلها أشياء قريبة إلى قلبي وعقلي”
منذ شاهدت” نرجعلك” في مهرجان القاهرة السينمائي، ظل السؤال نفسه يتردد في ذهني كيف كانت حلق الوادي مدينة كوسموبولتية مثلها مثل الاسكندرية قبل ثورة 1952 ، مثلها مثل دبي اليوم ، يتعايش فيها اقوام من كل الجنسيات ومن مختلف الديانات، نساء ورجال، دون احكام مسبقة، ثم تحولت إلى ما هي عليه؟
أي إنقلاب هذا؟
كيف انغلقت بلادنا على نفسها وأطردت أو نفّرت كل مختلف لتصبح حلق الوادي اليوم مثلها مثل اي مكان اخر بلا بحر ولا سمك ولا أكلة البريك الشهية؟
ما الذي حدث ويحدث في بلادنا؟
لم يجانب الشاعر القيرواني الراحل حسين القهواجي –غادر عالمنا في اكتوبر2017- الصواب، حين قال”خربت القيروان بعد ان بقينا عربانا بمفردنا”
ولكن كيف لبلاد ان تنكر احد ابنائها (هنري تيبي) كان مطربا شهيرا تتردد اغانيه في ستينات القرن الماضي؟ وترك كنزا ثمينا من الصور الفوتوغرافية –قرابة 4000 صورة- توثق لتونس وحياة التونسيين خلال القرن الماضي؟
اين هي مؤسسات حفظ الذاكرة والتراث؟ اين هي وزارة التونسيين بالخارج والهجرة –هي نفسها وزارة الجارندي صاحب الاربعين عاما في الديبلوماسية متعددة الاطراف- اين هو ديوان التونسيين بالخارج؟ اين وزارة الثقافة والمحافظة على التراث والترفيه ؟
اسأل وانا على يقين انها صرخة في يمّ عميق ستظل بلا رد…
خططت لكتابة مقال غير هذا، لكني وجدت نفسي اكتب شيئا اخر مختلفا عما فكرت فيه، ففيلم ياسين الرديسي اربك افكاري، كنت اود لو تحدثت مع المخرج خاصة وان الفرصة كانت مواتية ، اذ عدنا على متن الطائرة نفسها من القاهرة الى تونس، كنت أود أن أسأله كيف غادر قناة نسمة إحتجاجا على عدم بث نقرير أعده عن سامي الفهري(عام2013) …ولكني كنت متعبا ، أقاوم نزلة برد حادة والتهابا في عيني اليسرى ، كل ما كنت افكر فيه ان اعود الى بيتي حيث ركني الذي الفته والفني، من خلاله انظر الى العالم .
إن ما فعله ياسين بهذا الفيلم اهم بكثبر من عشرات المحاضرات والندوات ، عما كنا فيه وما اصبحنا عليه،ليس في حلق الوادي فقط بل في البلاد بأكملها، وخاصة بعد العلو الشاهق الذي لا يعلم احد كيف سيكون نزولنا منه ؟
قال ياسين الرديسي للجريدة المصرية «الدستور»، إن حصول الفيلم على تنويه خاص من المهرجان جعله يشعر بالفخر والانبهار لتفهم الجمهور لقصة الفيلم وعدم حصرها في الجانب الأيديولوجي الذي يتحدث عن يهود تونس” .
وأوضح أن الفيلم إنساني بالدرجة الأولى، ويعكس معاني الصداقة والتواصل بين الأجيال ويكشف المعاناة النفسية للهجرة والغربة، مشيرًا إلى أنه كان حريصًا على حذف بعض المشاهد أثناء المونتاج لعدم تسييس الفيلم”
وهنا معضلة قضية اليهود في تونس، وربما في غيرها من البلدان العربية، فبعد قيام ما يسمى بدولة اسرائيل عام 1948 حدث شرخ عميق في العلاقة بين المسلمين واليهود من ابناء الوطن الواحد في تونس ، واصبح السؤال المركزي المطروح على هذه الاقلية ان تعلن موقفها بوضوح، انت مع من؟ مع اسرائيل وممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين؟ أوان ولاءك لوطنك الأمّ وهذا يعني بالضرورة مساندة الحق الفلسطيني؟
” وهنا وحلة المنجل في القلة”
هل علينا ان نقر بحقيقة أن حلق الوادي التي تغنى بها هنري تيبي لم تعد ممكنة إلا في مخيلتنا، وأنها ذكرى جميلة، ليس أكثر
فحلق الوادي التي تغنى بها هنري تيبي، وبعده بعقود طويلة ابن حي الحلفاوين لطفي بوشناق لا توجد سوى في صندوق التذكارات
” نرجعلك من ضحكة العمر يا نسمة حلق الواد، كاينك عروسة البحر وأنا السندباد،
في قلبي غناية تعشّق أنا وممّو العين، نرميلك بوسة يا عروسة بالسرقة على العباد”،
كلمات تغنى بها لطفي بوشناق عن حلق الوادي أو “صقلية الصغيرة” كما يحلو لسكّانها مناداتها…; ولكن كلمات الاغنيات تحكي هن حلق الوادي التي لم تعد موجودة سوى في ذكرياتنا…
*محمد بوغلاّب