تونس.. مهاجرون عالقون في ظروف مأساوية بانتظار العبور “للفردوس”
آلاف المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الحالمون بعبور البحر المتوسط إلى الاتحاد الأوروبي، يواجهون في تونس مصيرا مجهولا، ويتهددهم خطر الترحيل من البلاد، أو المعاناة داخله في ظل التوتر وأعمال العنف والتشرد.
أزمة متفاقمة تواجه المهاجرين الوافدين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في تونس. هذه الأزمة تكشف عن قصور وتضارب في سياسات الدولة، مقابل ضغوط أوروبية وقصص يومية عن انتهاكات لحقوق الإنسان. يجلس لامين ماني، الشاب القادم من غامبيا، واضعاً رأسه بين يديه مستغرقا في التفكير، ففرصته في عبور البحر إلى السواحل الإيطالية تكاد تتلاشى ولا يعرف الآن كيف سينتهي به المصير بساحة باب الجبلي وسط مدينة صفاقس، حيث تجمع المئات من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء لتفادي العنف والتوتر المتفاقم في المدينة.
غادر لامين مع العديد من المهاجرين بيوتهم تحت جنح الظلام، بعد ضغط السكان المحليين، احتجاجا على مقتل مواطن تونسي طعنا بسكين في شجار تسبب في اندلاع مناوشات بين الجانبين ومحاصرة المهاجرين في عدة أحياء.
الشرارة التي أشعلت فتيل التوتر
كانت الحادثة بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل العنف، في ظل التدفق الكبير للمهاجرين على المدينة الاقتصادية صفاقس، وسط حالة من التململ لدى السكان المحلين بسبب التحولات التي تشهدها كلفة المعيشة والأسعار والعمل وإيجار العقارات والآثار الثقافية وغيرها.
وبينما اختار المئات الفرار إلى المناطق الريفية المحيطة بصفاقس والمدن القريبة وحتى العاصمة، للاحتماء بسفارات دولهم، اتجه لامين وبضع مئات آخرين تلقائيا إلى ساحة رئيسية في منطقة باب الجبلي، حيث ظهر الرئيس قيس سعيد مؤخرا لإعلان التضامن معهم، وحيث اعتاد المهاجرون التجمع يوميا طوال ساعات النهار بحثا عن فرص عمل أو لترصد أنباء من سماسرة التهريب بشأن خطط العبور إلى إيطاليا، أو لتلقي المساعدات.
وفي حديثه مع DW عربية، يقول لامين إنه وصل قبل أشهر إلى تونس مشيا على الأقدام، بعد أن قطع مسافات طويلة عبر السنغال ومالي والجزائر وسط طرق صحراوية خطيرة دون أن يكشف عن المزيد من التفاصيل. ويخشى اليوم من أن تذهب تضحياته الجسام هباء. ويقول إنه لا يكف عن التفكير في مصيره منذ ثلاثة أيام قضاها في العراء في ساحة باب الجبلي.
ويروي لامين في قلق لـDW عربية “قدمت إلى هذا البلد الجميل لأمكث فيه بعض الوقت قبل التوجه إلى إيطاليا. ثق بي الناس جميعا يودون الذهاب إلى إيطاليا لأن فيها الحرية وفرص العمل. حاولت العبور إحدى المرات داخل زورق عبر البحر، لكن خفر السواحل قبضوا عليّ في صفاقس”.
تجمع ما بين 200 و300 مهاجر في الساحة قبالة سور ضخم يفصل المدينة العتيقة والسوق عن الشارع، ومن بينهم أطفال ونساء، بعضهن حوامل، وسط جو شديد الحرارةّ، إذ تشهد البلاد موجات حر قياسية بينما يحيط بالساحة رجال أمن وعسكريون لتأمين المنطقة.
وقبل وصول مراسل DW إلى المنطقة تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورا لمهاجرين منبطحين على الأرض تحت تهديد سكان محليين غاضبين يمسكون عصيا، وانتشرت صور أخرى لقيت انتقادات من منظمات حقوقية ألقت في أغلبها باللوم على السلطات.
تقول فرانسيسكا، القادمة من غينيا في رحلة جوية، في شهادتها لـDW عربية: “منذ أربعة أيام نبيت في العراء هنا ولا نعرف إلى أين نذهب. غادرت مع رفيقاتي المنزل الذي كنا نقطنه. قال مالكه إنه سيؤجره لآخرين. إذا لم نتلق المساعدة فلن يكون الأمر جيدا بالنسبة لنا لأننا الآن أصبحنا نخشى على حياتنا”.
كان وقع الصدمة أشد على الشابة ماتينا التي وصلت من الكاميرون قبل عام، حيث خضعت في فبراير الماضي لعقوبة السجن بسبب مخالفتها للوائح الإقامة. وقالت لـDW عربية إن سائق سيارة أجرة حملها بشكل مباغت إلى مقر الشرطة، لذا هي فقدت الثقة في كل ما يحيط بها.
رددت ماتينا بغضب: “التونسيون لا يريدوننا هنا. لكن نحن لم نأت لنبقى في بلدهم، نحن بشر مثلهم وجئنا إلى هنا من أجل هدف محدد”. وهنا علا صوت فرانسيسكا مؤيدا لرفيقتها: “نحن نعاني من العنصرية..نريد الحرية للعبور.. دعونا نعبر.. امنحونا الحرية ولا أحد سيبقى”.
إيطاليا هي الهدف
يضع الجميع أو غالبية المهاجرين نصب أعينهم الوصول إلى الأراضي الإيطالية التي تبعد عن سواحل صفاقس نحو 160 كيلومترا، ولكن تعوزهم الأموال التي تطالب بها شبكات التهريب قبل تجهيز قوراب مخصصة لهذه المهمات.
ومع تواتر الزيارات والنقاشات بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي والسلطات التونسية حول سبل مكافحة التدفق الكبير للمهاجرين، مقابل حزمة مساعدات مالية واقتصادية كبيرة لتونس، أصبحت عمليات الاعتراض في البحر أكثر كثافة حيث أعادت وحدات الحرس البحري التونسي أكثر من 32 ألف مهاجر إلى السواحل خلال النصف الأول من هذا العام الجاري، فيما فقد أو توفي أكثر من 600، وفق إحصاءات رسمية وغير رسمية.
وقال العضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر لـDW عربية إن تواجد عدد كبير من المهاجرين دون أفق واضح في مساحة محددة سيؤدي إلى تصاعد الاحتقان وإلى توتر اجتماعي، وهو ما شهدته بالفعل عدة أحياء في صفاقس عبر الصدامات الليلية، ما دفع منظمات من المجتمع المدني إلى المطالبة بوضع حد لتدفق المهاجرين وترحيل المقيمين بطريقة غير قانونية.
ولكن الدولة لم تعلن عن أي استراتيجية واضحة للتعامل مع الواقع، حيث بدى الارتباك في ردات فعل المسؤولين التي اقتصرت على دحض مزاعم بحصول انتهاكات منظمة، في وقت تحولت فيه الأحداث في صفاقس إلى كرة ثلج وسط تحذيرات من كارثة اجتماعية وشيكة.
تحدث المنتدى التونسي المتخصص في قضايا الهجرة واللجوء ومنظمات حقوقية اخرى من بينها “هيومن رايتس ووتش”، في شهادات موثقة عن نقل عدد كبير من المهاجرين من قبل قوات الأمن على متن حافلات نحو الحدود التونسية الليبية قصد إخلاء سبيلهم بمناطق مهجورة، في درجات حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية وبظروف سيئة بدون أي مساعدة أو تقديم أي نوع من الموارد.
أفادت مديرة مكتب “هيومن رايتس ووتش” بتونس سلسبيل شلالي بأنه تم ترحيل بين 150 و 200 مهاجر أفريقي اسود البشرة على الأقل منذ 4 تموز/يوليو من قبل قوات الأمن بالقرب من الحدود الجزائرية، وهؤلاء أيضا عالقون بين البلدين.
ووفق شهادات ميدانية جمعها المنتدى فقدت مجموعة متكونة من 28 شخصا، بينما تم ترحيل مجموعة أخرى متكونة من 20 شخصا من بينهم طالبو وطالبات لجوء ونساء وأطفال إلى المنطقة الحدودية مع ليبيا “رأس جدير”، رافق ذلك “انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان كالتهديد وتدمير للهواتف ونقص المساعدة الطبية والتوليدية، وسوء المعاملة والعنف”.
في تقدير المنتدى فإن ممارسات السلطات التونسية تقوم على فرضية أن هؤلاء الأجانب قد مروا بليبيا أو الجزائر قبل دخول تونس، رغم أنه قد تم القبض على بعض الأشخاص أثناء محاولتهم مغادرة الأراضي التونسية واعتراضهم في البحر وإعادتهم إلى السواحل التونسية، أو أنهم قد دخلوا تونس عن طريق الجو بدلا من العبور عبر الدول المجاورة.
في كل الأحوال لم تقل الدولة كيف ستتصرف إزاء هذه المعضلة الانسانية ووضع قد يتجاوز قدراتها في إدارة الأزمة بينما ترفض دول الاتحاد الاوروبي استقبال المزيد من المهاجرين وتتشدد دول الجوار في تقاسم أعباء الأزمة.
لكن من بين الآراء العملية هو دعوة المنتدى التونسي الى استيعاب عدد من المهاجرين، وهو ما شدد عليه العضو رمضان بن عمر في حديثه مع DW عربية، لافتا الى اهمية تسوية أوضاع المهاجرين لجهة انهم يمكن ان يمثلوا جزءا من الحل لأزمة الاقتصاد في تونس بتوفير الكفاءات واليد العاملة التي تحتاجها البلاد في عدة قطاعات في ظل عزوف التونسيين عن عدة أعمال.
وهذا المقترح يجد صدى لدى العديد من المهاجرين ومن بينهم أحمد آدم، الشاب القادم من مالي منذ 2017. يقول آدم لـDW عربية: “بلدنا ليس مستقرا اقتصاديا وهناك نزاعات دائما. جميعنا نريد تحسين أوضاعنا والعيش مثل التونسيين. لكن ما يحصل مؤلم وآمل أن تتغير الأوضاع. نطالب بالعمل. هذا أهم شيء”.
البقاء على قيد الحياة هو الأهم!
لكن الأمر الاهم الآن لآدم وباقي المهاجرين في ساحة باب الجبلي هو الحفاظ على حياتهم وتلقي المساعدة العاجلة وبشكل منظم، سواء من الدولة التونسية أو المجتمع المدني. ويضيف آدم بيأس “نحن نعاني من الجوع والتشرد. نريد المساعدة”.
ويواجه المهاجرون المتواجدون جنوب البلاد وضعا أكثر خطورة وتعقيدا مع تواتر أنباء متضاربة بشأن ترحيل أعدادا منهم من صفاقس إلى مناطق نائية وصحراوية على مقربة من الحدود الليبية. وفي شهادته عن الوضع يقول شريف الزيتوني، أحد النشطاء القاطنين بمدينة بن قردان في الجنوب، لـDW عربية “التقيت مجموعة من أفارقة جنوب الصحراء منهم ثلاثة رضع، تركتهم منذ قليل في مستشفى بنقردان، في وضعيات إنسانية صعبة بعضهم مصاب وبعضهم يظهر عليه الإرهاق الشديد”.
وفق الزيتوني يتواجد المهاجرون في منطقة بعيدة عن المدينة، منطقة غير آمنة ومعرضة لأشعة الشمس الحارقة ولخطر الزواحف. لم يتردد الزيتوني في توجيه اللوم للسلطات، مضيفا: “يتعين على المسؤولين في الدولة مساعدتهم في أسرع وقت بتوفير مكان لإيوائهم. اذا تخلينا عنهم في الصحراء فمعنى ذلك أننا تخلينا عن إنسانيتنا”.
ووسط حالة من الترقب والقلق والغموض يرفض كثيرون من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء التخلي عن أحلامهم أو العودة إلى الوراء. فهذا لم يعد ممكنا بالنسبة إليهم.
يقول الشاب لامين ماني في ساحة باب الجبلي بنبرة يأس لـ DW عربية: “إذا أردتم فعلا مساعدتني، احملوني على متن باخرة كبيرة إلى إيطاليا سيكون ذلك رائعا.. ثق بي”.
طارق القيزاني (شارك في التغطية وحيد الداهش من صفاقس)