كواليس الخلاف بين الجزائر وحكام مالي الجدد
لم تنظر الجزائر منذ البداية بعين الرضا للإطاحة بالحكومة الانتقالية المالية، التي شُكلت بعد الإطاحة بالرئيس أبوبكر كيتا، إثر حراك شهده الشارع المالي دام للأسابيع.
وعبَّرت الجزائر عن قلقها مراراً من التغييرات غير الدستورية التي عرفتها مالي ودول الساحل عموماً، وذلك بسبب التأثيرات السلبية على حدودها، لا سيما في شمالي مالي، حيث تنشط الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة.
وسعت السلطات في الجزائر للتدخل دبلوماسياً، حيث أوفدت وزير خارجيتها السابق رمطان لعمامرة إلى بماكو، للقاء الحكام الجدد والشخصيات المؤثرة في المشهد السياسي، لا سيما في الشمال، المرتبط بحدود طويلة مع الجزائر تبلغ قرابة 1400 كلم.
ووفق مصادر مطلعة لـ”عربي بوست” فإن السلطات الجديدة في مالي عبَّرت عن رفضها منذ البداية فتح الملفات الأمنية في الشمال مع الجزائر، مؤكدةً أن الوقت غير مناسب، فيما كانت الجزائر تصرُّ على معالجة تلك الملفات قبل تفاقم الوضع.
ومع استعجال الجزائر في مناقشة الوضع، ومماطلة السلطات المالية بدأت العلاقات تتوتر بين الجارتين، لدرجة انقطاع الاتصال بينهما لعدة أشهر.
معضلة فاغنر
قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون صراحةً بعد الإطاحة بالحكومة الانتقالية، وتولِّي مجموعة من العسكريين السلطة، والحديث عن دعم ميليشيا فاغنر الروسية للانقلاب إن بلاده ترفض وجود الميليشيات على حدودها، في إشارة إلى مرتزقة فاغنر.
وأضاف تبون أنَّ الأموال التي تُصرف على المرتزقة (يقصد فاغنر) كانت ستأتي بأثر إيجابي لو صُرفت على التنمية.
وكان تبون قد هاجم فاغنر أيضاً في ليبيا، دون تسميتها، مؤكداً أن بلاده كانت ستتدخل لمنع سيطرتها على طرابلس رفقةَ خليفة حفتر منتصف 2020.
هذه التصريحات لم تُعجب حكام مالي الجدد؛ ما جعلهم يتخذون موقفاً معادياً للجزائر،
تصريحات مقلقة
في 16 فيفري 2022، ذهلت الجزائر من تصريحات وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، في حوار مع قناة الجزيرة، والتي قال فيها إن اتفاق السلم والمصالحة الموقَّع في الجزائر بحاجةٍ إلى تعديلات، ولا يمكن تطبيقه كما وُقِّع في مارس2015.
وأضاف الوزير أن تطبيق الاتفاق كما وُقع في الجزائر من شأنه أن يهدد وحدة مالي، داعياً جميعَ الأطراف المُوقِّعة إلى تقديم تنازلات من أجل إعادة صياغة الاتفاق.
ويبدو ان تصريحات وزير خارجية مالي وقتَها أشعرت الجزائر بأنه سيكون من الصعب التعامل مع السلطات المالية العسكرية الجديدة، وهو ما جعلها تمارس حقَّها كراعيةٍ للاتفاق، والتواصل مع الأطراف الموقِّعة على الاتفاق من أجل قطع الطريق على عودة المواجهات المسلحة بين الشمال والجنوب، خاصةً أن قبائل الشمال ترفض مراجعة الاتفاق الذي تعتبره مكسباً لا يمكن التفريط فيه.
ما هو اتفاق السلم والمصالحة؟
جاء الاتفاق بعد محاولات حثيثة من الجزائر لإنهاء الصراع بين الجماعات المسلحة شمال مالي والسلطات المركزية ببماكو، خاصةً بعد زحف المسلحين من الشمال تجاه العاصمة للسيطرة عليها، وهو ما كان يُنذر بحرب أهلية طويلة الأمد، تؤثر سلباً على منطقة الساحل والجزائر.
وأهَّل امتلاك الجزائر علاقاتٍ جيدة مع السلطات المالية والقوى السياسية في شمال مالي، لأن تكون راعيةً لاتفاقٍ بدعم أممي وأمريكي وفرنسي، يُنهي الصراع بين الفرقاء الماليين، وهو ما تم فعلاً في 1 مارس 2015 بالجزائر العاصمة.
وكان الديبلوماسي التونسي منجي الحامدي-وزير الخارجية في حكومة مهدي جمعة- هو مهندس الاتفاق باعتباره المبعوث الاممي بمالي
أما الأطراف الموقّعة على الاتفاق فهي كل من حكومة مالي المركزية، والحركة العربية للأزواد، والتنسيقية من أجل شعب الأزواد، وتنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، والحركة الوطنية لتحرير الأزواد، والمجلس الأعلى لتوحيد الأزواد، والحركة العربية للأزواد. وحضر مراسم التوقيع ممثل عن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
تضمنت الاتفاقية عدةَ بنودٍ، منها احترام الوحدة الوطنية المالية، وإيقاف العنف، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، وتمثيل جميع مكونات الشعب المالي في المؤسسات، فضلاً عن إعادة تنظيم القوات المسلحة والأمن، والتزام جميع الأطراف بمكافحة الإرهاب، وتسهيل عودة وإدماج اللاجئين.
قطرة الإمام ديكو
جاءت زيارة الإمام محمود ديكو إلى الجزائر لتفيض الكأس، وتُخرج الخلافات الخفية بين السلطات المالية والجزائر إلى العلن، حيث اعتبر حكام مالي الجدد استقبال شخصية نافذة ومعارضة لها مثل الإمام ديكو تهديداً خطيراً يمس بسيادتها، وتدخلاً في شؤونها الداخلية، حسب بيان خارجية مالي.
بينما رأت الجزائر أن استقبال ديكو من صلب مهامها كوسيط بين الفرقاء وراعية لاتفاق السلم والمصالحة في مالي.
ونتج عن زيارة ديكو للجزائر تبادل الاحتجاج، وسحب السفراء، وتراشق إعلامي، فضلاً عن تنظيم وقفات احتجاجية في باماكو أمام سفارة الجزائر.
يُذكر أن الإمام محمود ديكو، الذي يعد مرجعيةً دينيةً كبيرةً في مالي والساحل، وجَّه انتقاداتٍ شديدةً للسلطات العسكرية في مالي، بسبب تمسكها بالسلطة والمماطة في تسليمها للمدنيين.
ماذا طلب تبون من ديكو؟
تداول نشطاء فيديو للإمام محمود ديكو وهو داخل مصحة قيل إنها بدبي، تحدث فيه عن زيارته المثيرة للجدل إلى الجزائر.
وقال ديكو إن اللقاء مع الرئيس عبد المجيد تبون تناول شيئين اثنين فقط، الأول “تقديم الرئيس تبون عرضاً ليّ بأن أكون أحد مراجع مسجد الجزائر الأعظم، الذي يعد ثالث أكبر مسجد في العالم، حيث أكد لي أنه ينوي جعل المسجد مركزاً للعلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم، وعلى رأسها منطقة الساحل”.
وأضاف المتحدث أن النقطة الثانية التي كانت محل نقاش مع الرئيس في قصر المرادية هي سعي الجزائر لإعادة جمع الفرقاء في مالي، حيث تأتي السلطات وكذلك المتمردون للجزائر، للتمكن من إيجاد أرضية مشتركة لأزمة مالي، نظراً لوجود الجيش الآن في كيدال، ولتجنب المزيد من الصراعات.
وقال ديكو إن تبون أخبره بأن القبائل التي تعيش في شمال مالي هي نفسها التي تعيش جنوب الجزائر، لذلك فإن أي فوضى في شمالكم ستكون لها انعكاسات على جنوبنا؛ لذلك نسعى لحل الخلافات كأشقاء لا كأعداء.