بنغازي عاصمة الثقافة للعالم الاسلامي2023-2024: المدينة العصيّة…العامرة
إنطلقت يوم الاحد الماضي 7جانفي 2023 فعاليات ” بنغازي عاصمة للثقافة في العالم الاسلامي” بعد تأجيل اضطراري بسبب كارثة الاعصار الذي ضرب درنة وعددا من المناطق المجاورة، ولم يكن هناك بد من تأجيل انطلاق التظاهرة من موعدها المعلن في ذكرى استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار -16سبتمبر – الى بداية العام الجديد
لم يسبق لي زيارة بنغازي ولم يدر بخلدي يوما ان اشق الرحال اليها، فهي ليست وجهة تقليدية للتونسيين الذين الفوا تاريخيا السفر الى العاصمة طرابلس نظرا الى قربها وسهولة التنقل اليها
لا تنس أن بنغازي تبعد عن طرابلس نفسها الف كيلومترا، اما السفر الى عاصمة الشرق الليبي عبر الطائرة فيتطلب الحصول مسبقا على موافقة امنية من الجهات المختصة ، وهو ما يعقد المسالة أكثر
لم اجهز نفسي لهذه الرحلة ، فقد وصلتني الدعوة لحضور حفل افتتاح تظاهرة عاصمة الثقافة في العالم الاسلامي يوم الاربعاء الماضي، وكان موعد السفر محددا ليوم الغد صباحا (الخميس)، لم يكن الوقت يسمح بالتردد اما ان تقبل الدعوة او تعتذر، والحق انه لم يكن متاحا لي التعلل باي سبب للاعتذار، ذلك ان ليبيا تشكل جزءا من طفولتي وعنصرا اساسيا من ذكريات أبي رحمه الله، ذكريات ظل والدي يسردها على مسامعنا عن سنوات عمله في مجال البناء في قصر بنغشير في ضواحي طرابلس زمن الملك ادريس السنوسي ثم في عهد القذافي، ولعلي ورثت حب ليبيا عن ابي، الذي انتقل للعمل في فرنسا نهاية الستينات وكان المنطق يفرض استمراره هناك ، ولكنه اثر ان يعود الى ليبيا مطلع السبعينات ، وكانت ليبيا دخلت عهدا جديدا هو عهد”الفاتح من سبتمبر” بقيادة القذافي
كان سفري الى بنغازي على متن طيران البرنيق وهي شركة طيران خاصة يملكها بنك ليبي ، احد مجالات استثماره النقل الجوي، بل ان احدى صالات مطار بنينة ببنغازي تحمل اسم ” البرنيق “- وهو الاسم الاغريقي لبنغازي- ومنها تنطلق رحلات طائرات البرنيق الى القاهرة والى اسطنبول والى دبي وربما الى وجهات اخرى لم يتسن لي التعرف عليها، وتسير هذه الشركة سفراتها من عدد من مطارات ليبيا بدءا بمعيتيقة بالعاصمة طرابلس ومن مطارات مصراتة وسبها والابرق، على متن طائرات ايرباص 320 دقيقة في مواعيدها جيدة في خدماتها، حتى ان القلب يعتصره الالم حين نرى ما يحدث عندنا وما يجري على بعد مئات الكيلومترات عن بلادنا، فليبيا التي مازالت تجر وراءها اثقال سنوات الحرب والصراعات الدموية تملك اكثر من شركة طيران تحلق طائراتها يوميا في سماء مطار تونس قرطاج و جلها شركات خاصة ، اما عندنا فكأنها اللعنة حلت بنا منذ 14جانفي 2011 ، شركة طيران عمومية ، يتم تحميلها ما لا تحتمل، أخطاءها وأخطاء غيرها، تطلب منها الدول ان تبلغ العواصم الافريقية ولا تغطي عملها على خطو عير مربحة، ، يطلب منها الراي العام ان تكون منافسة للخطوط القطرية ولطيران الامارات ولكن الراي العام نفسه لا يسال نفسه كيف اصبحت هذه الشركات قاطرة الناقلات الجوية في العالنم؟ ولعل السؤال لماذا لا تخوض البنوك عندنا غمار النقل الجوي؟ لماذا لا تدفع الدولة بنوكها العمومية وتستحث البنوك الخاصة الى ان تكون مساهمة في راس مال الخطوط التونسية فتجدد اسطولها وتوسع خطوطها و تنتدب كفاءات شابة من مختلف الاختصاصات وتحلق طائراتها في سماوات افريقيا واسيا وأمريكا ولا تكتفي بالوجهات الاوروبية –القريبة- مضمونة الربحية
نحن لا نفعل شيئا من كل هذا ونريد للخطوط التونسية ان تكون الافضل …ولا أحد يثول لنا” كيفاش”؟
ومن بين ما لفت نظري ان شركة البرنيق اعلنت في مطلع العام 2024 انها تنقل الاطفال الرضع -المرافقين لاسرهم على متن طائراتها- مجانا طيلة العام الجاري ، وهي ضربة تسويقية من اعلى طراز
كانت الجهة الداعية لي وزارة الخارجية والتعاون الدولي لحكومة اسامة حماد التي تحظى بتزكية البرلمان ، وهي ما يتداول على توصيفها بحكومة الشرق الليبي ، وواقع الحال ان هذه الحكومة تشرف على مصالح الليبيين على اكثر من ثلثي مساحة البلاد من بنغازي الى سرت، على الرغم من استئثار حكومة طرابلس بالتمويل المجزي من المصرف المركزي الليبي، اما حكومة الشرق فلا يصلها من المصرف المركزي سوى مرتبات الموظفين وعليها ان تتدبر امورها في ما يتعلق يمجالات أعادة الاعمار و التنمية والاستثمار الداخلي، ومع ذلك فالملاحظة الاولى التي تشد انتباه أي وافد يمجرد مغادرته مطار بنينة او وانت تتجول بين شوارع بنغازي أن المدينة حضيرة اشغال مفتوحة، وقد تم يوم السبت الماضي افتتاح خمسة جسور في حدث حضره المشير حفتر القائد العام للقوات المسلحة رفقة رئيسي الحكومة ومجلس النواب ، في انتظار استكمال عدد اخر من الجسور لمواجهة الازدحام الذي تشهده طرقات بنغازي في كل الاوقات
خليفة حفتر…
انا من جيل امن بان مكان الجيش هو الثكنات، وبان العسكر يجب ان يظل بمنأى عن السياسة، وفي كل الاحوال فإن تجربة حكم الجنرالات لاكثر من بلد عربي لم تكن أبدا تجربة تحتذى ،
ولذلك انا من حيث المبدأ ضد تغول العسكري على السياسي، ومع ذلك حاولت التحرر من أي حكم مسبق، حتى اتمكن من فهم ما يحدث في بنغازي، روايات كثيرة يتم تناقلها فحواها ان بنغازي تسبّح باسم المشير خليفة بلقاسم حفتر القائد العام للقوات المسلحة
توقعت ان اجد صورا عملاقة للمشير في المطار او في محيطه او في المفترقات الرئيسية، ولكن خابت توقعاتي، فلا توجد أي صورة للمشير، ولكن سيرته في كل مكان، ففي زيارتنا لضريح عمر المختار- ولنا عودة لهذه الزيارة- إكتشفنا ان والد المشير بلقاسم سافر الى فلسطين للقتال ضد العصابات الصهيونية في اربعينات القرن الماضي تحدثت الى الليبيين ومقاهي بنغازي تعج بهم وخاصة من الشباب، إكتشفت أن كل من تحدثنا اليهم يجمعون على أن المشير هو” المنقذ ”
فما لا يعلمه كثيرون ان المدينة تم احتلالها من طرف الدواعش الذين كادوا يعلنونها امارة لهم في الشرق الليبي، فرضوا قوانينهم وسيروا دوريات الشرطة في الشوارع والمفترقات،
كان الجنرال حفتر في بيته على ما يروي الليبيون يعيش تقاعده بعد سنوات من المنفى معارضا للقذافي بعد ان انشق عنه بسبب تخلي القذافي عن حفتر بعد اسره في التشاد
استنجد الليبيون بالجنرال حفتر ليخلصهم من الدواعش، فلم يتأخر، ارتدى الجنرال المتقاعد بزته العسكرية ودق طبول حرب شاملة لتطهير بنغازي من الدواعش، لتنطلق حرب بأتم معنى الكلمة اطلق عليها الجنرال نفسه” الكرامة” استمرت قرابة الخمس سنوات ، استعملت فيها كل الاسلحة من طائرات ودبابات ومدفعية، حتى تمكنت قوات الجيش من تطهير بنغازي ودرنة وسرت وكل منطقة الشرق والجنوب من الدواعش، ولكن كلفة هذه الحرب كانت باهضة بارواح العسكريين الذين سقطوا في ساحات المعارك والضحايا المدنيين من شهداء وجرحى، فضلا عن خراب عدد كبير من منشات بنغازي وخاصة في وسط المدينة وهو دمار لم يقرق بين عمارة او مسجد او فندق …
وفي غياب الحكومة المركزية وتجاهلها لما لحق بنغازي من دمار يشعر ابناء المدينة بشيء من التهميش من حكومة”المركز”، والحال ان بنغازي كانت دائما في قلب الوطن، ففيها اعلن عن استقلال ليبيا، وكانت هي المقر الرئيسي لشيخ الشهداء عمر المختار في حربه ضد الطليان طيلة عقدين من الزمان ، ومن بنغازي انطلق القذافي في انقلابه”ثورة الفاتح” ، ومن بنغازي اندلعت شرارة ثورة 17فبراير،
وفي ظل الاهمال” المركزي” جاء الحل على يد الحكومة المنتخبة من البرلمان، فقد تكفلت الحكومة رغم محدودية مواردها بمهمة اعادة اعمار بنغازي و تكونت لجنة تشرف على هذه المهمة يراسها بلقاسم حفتر -وهو احد ابناء المشير القائد العام للقوات المسلحة – وهو ما يعكس أهمية هذه اللجنة والدور المحوري للجيش فيها
لا يكاد اسم المشير حفتر يغيب عن أي حدث او تظاهرة ، وتدرك ان الليبيين يفعلون ذلك بوعي من باب رد الجميل والاعتراف للرجل الذي خلصهم من الدواعش وجعل الحياة ممكنة في بنغازي
حفل افتتاح عاصمة الثقافة في العالم الاسلامي….
انتظم الحفل في احدى القاعات المغطاة بالمدينة الرياضية ببنغازي، بعد صيانتها ضمن ما تقوم به حكومة اعادة الاعمار ، برئاسة اسامة حماد، حدد موعد الحفل في السادسة مساء وتم احترام الموعد، لم يتعلل احد بتاخر وصول السيد الرئيس او السيد الوزير، مصلما يخدث عندنا
تردد في الكواليس ان المشير حفتر سيحضر ولكنه غاب، مثلما تغيب رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، في ما حضر رئيس الحكومة اسامة حماد وفريقه الحكومي، وكان على يمينه وزير الخارجية والتعاون الدولي الدكتور عبد الهادي الحويج الذي كان تابع تفاصيل الاعداد لحفل الافتتاح على مدار الساعة طيلة الايام الماضية، فيما كان والده يرقد باحدى مصحات العاصمة التونسية لتلقي العلاج
ومثلما جرت العادة حضر الرسميون جانبا من الحفل ثم غادروا القاعة، غير ان الدكتور الحويج ظل مرابطا يتابع العرض الى اخر لحظة ، ليتوجه بالتحية في نهاية الحفل الى كل المشاركين على المجهودات المبذولة
تضمن الحفل عدة لوحات تفاوت مستواها بين لوحات عانقت الروعة واخرى بدت خارج الموضوع احيانا، ويبدو ان العطب الذي اصاب شاشة العرض كان قاتلا وبعثر كثيرا من اوراق القائمين على العرض الفني المقترح ،
وقف الجمهور تقديرا لشيخ الشهداء عمر المختار الذي استهل العرض به من خلال استعادة لحظات من سنوات كفاحه ضد الطليان” نحن لا نستسلم ننتصر او نموت” ، وتضمنت لوحة عمر المختار رسائل سياسية تستنكر الانقسام السياسي الذي جعل ليبيا محكومة من حكومتين واحدة في طرابلس انتخبت من طرف لجنة عينت اعضاءها الامم المتحدة ، وعلى الرغم من ضعف تمثيلية اللجنة لليبيين ، فقد قبل الليبيون الحكومة المنبثقة عنها على ان تكون مهمة الحكومة تنظيم الانتخابات الرئاسية ولكن رئيسها عبد الحميد الدبيبة “دار في الحياصة”، و ارادها لنفسه في ما يبدو، فتاجلت الانتخابات الى اجل غير مسمى، واعلنت الحكومة انها لن تسلم السلطة الا لحكومة منتخبة من الشعب ولا احد يعلم من سينظم الانتخابات ؟ ، فقام البرلمان بسحب ثقته من حكومة الدبيبة منتهية الصلاحية وانتخب حكومة جديدة في بنغازي نجحت في كسب قلوب الناس من خلال العمل الفعلي والانجاز بصيانة المنشات التي تم تحريبها في الحرب على الدواعش مثل جامعة بنغازي ، وتهيئة الطرقات وتشييد جسور على اعلى طراز … وعادت بنغازي الى حيويتها الاقتصادية عبر بوابتها على العالم ميناء بنغازي التجاري، مما شجع كثيرا من الليبيين من مناطق مختلفة، على الاستقرار في بنغازي
ولم تقف الحكومة مكتوفة الايدي امام اعصار دانيال بل تكونت لجنة لاعادة اعمار درنة شرعت في صرف التعويضات واعادة بناء ما جرفته السيول
وحين انتظم مؤتمر اعادة اعمار درنة ، خص وزير الخارجية الدكتور عبد الهادي الحويج الوفد التونسي بالاستقبال ، وقالها بصوت عال واضحة وصريحة” نرحب بالتونسيين شركات وافرادا للعمل في ليبيا ، ولكم الاولوية” ، ومع ذلك تاخر الى اليوم افتتاح القنصلية التونسية ببنغازي رغم ان الوضع الامني في المدينة لا تشوبه شائبة، فدوريات الجيش والامن الداخلي و البحث الجنائي ومكافحة الظواهر السلبية في كل مكان، ولا وجود لاي ميليشيا مسلحة في الشرق الليبي ولا في جنوب البلاد، بل ان من يطلق رصاصة في حفل زفاف من باب الاحتفال، يتم تتبعه وربما وجد نفسه قابعا في السجن، فالسلاح تحتكره الدولة واجهزتها، وهو ما فرض سلطان الدولة واتاح لليبيين المجال للعيش بسلام، ووجود حكومتين في ليبيا لا يعني البتة ان ليبيا منقسمة الى نصفين فالليبيون يتنقلون في كامل البلاد بكامل الحرية شرقا وغربا شمالا وجنوبا يسافرون برا الى تونس ومصر دون أي عوائق او مخاطر
قال لي احد الشباب في مقهى بمنطقة الرويسات” الانقسام السياسي لا يعنينا، نحن ليبيون، الانقسام في رؤوس المتكالبين على الكراسي ”
توجهت بالسؤال الى وزير الخارجية والتعاون الدولي الدكتور عبد الهادي الحويج، الى متى هذا الانفسام؟ قال الرجل بنبرة الواثق” بالنسبة الينا لا مبرر لاستمرار الانقسام ولو ليوم واحد، وقد عرضنا اكثر من مبادرة، بالجلوس على طاولة واحدة بين مختلف الفاعلين بل وعرضنا عدم المشاركة كحكومة ، لا يشارك ايّ من الحكومتين، وما يتم الاتفاق عليه في الحوار الوطني نمتثل له، ولكن حكومة الدبيبة اصرت على ان تكون خصما وحكما، اقترحنا ان تتنحى الحكومتان ويتم تشكيل حكومة مؤقتة تنظم الانتخابات الرئاسية ولكن حكومة الدبيبة امتنعت”
وعودة الى حفل افتتاح تظاهرة بتغازي عاصمة الثقافة في العالم الاسلامي لعل النقيصة الابرز للعرض هي ضعف الحضور الموسيقي، مقابل هيمنة الموالقف الشعرية فضلا عن بث شريط وثائقي منتصف العرض كاد ينسي الجمهور اننا ازاء حفل فني مباشر، وكان بالامكان اختصار الجانب الوثائقي وادماجه ضمن اللوحات الفنية وخاصة تلك التي جسدت الحقبات التاريخية التي مرت بها ليبيا عبر استعراضات راقصة ابدع فيها الشبان الليبيون
يذكر ان طرابلس قد اختيرت عاصمة للثقافة في العالم الاسلامي لعام 2007. وهاهي بنغازي عاصمة ثقافية عن جدارة للعالم الاسلامي 2023-2024
وقد جرى إقرار الاحتفال بعواصم الثقافة في العالم الإسلامي في المؤتمر الثالث لوزراء الثقافة في العالم الإسلامي عام 2001، واختيرت بنغازي لتحظى بهذا التكريم في العام 2022.
*بنغازي-ليبيا-سعيد مهران