كالعادة، بدل الإعلان عن قرارات وإجراءات حازمة للتعامل مع الوضع (غير المسبوق) لظاهرة انتشار المهاجرين في المدن التونسية، استغل رئيس الجمهورية كلمته في مجلس الأمن القومي لطرح التساؤلات والاستفسارات والاستفهامات الإنكارية نفسها التي يطرحها المواطنون في بيوتهم وهم يتصفحون الفايسبوك.
معظم هذه الاستفسارات تنطوي على اتهامات صريحة للداخل التونسي (المجتمع المدني) بالتورط في هذا الملف، فضلا عن استفهامات لا يمكن إطلاقا أن يطرحها المسؤول الأول عن الدولة وممثل الجمهورية. فالأموال التي (تتدفق) على المهاجرين تأتي بطريقة مشروعة وقانونية، وهؤلاء يستقبلونها في مراكز البريد، بما يعني أن السلطة تمتلك بين يديها وسائل الإثبات حول المرسل والمرسل إليه، كما هو شأن أي معاملة مالية بالويسترن يونيون (ولا ندري هنا أي دور يتساءل عنه الرئيس للجنة التحاليل المالية) والحال أننا إزاء معاملات قانونية ودولية، لها طرق معيارية في التثبت من مصادر الأموال واتجاهاتها بصفة قبلية. ولا يمكن حاليا تجفيف المنابع إلا بإغلاق (الويسترن يونيون) وال(الموني غرام) وكل أشكال الدفع المالي الفوري وهو أمر مستحيل وانتحار اقتصادي لأنه يعني العودة إلى الوراء عشرات السنين. والخروج من الدورة الاقتصادية المعولمة…
ثم إن الأموال التي تتدفق على المهاجرين من خارج الدولة ليست هي المشكلة ما لم تكن مخصصة لمخططات إرهابية (كما كان الشأن مع الجماعات الدينية المتطرفة) فوجود هؤلاء على أرضنا ومعهم أموالهم أفضل من وجودهم دون أموال، لأن مشكلة التونسيين الأولى هي الأمن وحفظ النظام العام واحترام البيئة والحياة العمرانية السليمة، ولم تكن أبدا مسألة تمييز عنصري أو شوفينية.
ولو تأملنا قليلا هنا لوجدنا أن أسلوب الحكومة في معالجة الظاهرة هو الذي عمق الأزمة، فتجريم كل أشكال التعامل القانونية مع المهاجرين جعلهم (جسما غير مرغوب فيه) ودفعهم إلى إنفاق أموالهم التي تدخل بطرق قانونية في السوق الموازية ومع المهربين والمحتكرين ودفعهم إلى التنظم خارج سياق الدولة المضيفة بدل الاندماج الموضوعي والمتناغم فيها.
رغم أن أعلى هرم الدولة (كما يبدو من مجلس الأمن القومي) ما يزال في مرحلة طرح التساؤلات فإنه من الضروري الانتباه إلى أن قضية المهاجرين تنقسم إلى مسألتين اثنتين: المسألة الأولى تتعلق بحماية الحدود البرية والبحرية، فالعقل المواطني لا يمكنه أبدا أن يفهم كيف تتركز الجهود الأمنية على حماية الحدود البحرية لمنع المهاجرين من الخروج بالطريق غير الشرعية نحو أوروربا والحال أنهم يتدفقون من الجهة الغربية وكأن الحدود البرية مفتوحة أو لا قدرة لأجهزتنا إطلاقا على حمايتها!!!!
أما المسألة الثانية فتتصل بوجود المهاجرين على الأراضي التونسية، فالدولة مطالبة بمعاملتهم وفق الصيغ التي تحترم المعاهدات الدولية ومبادئ حقوق الانسان، وهي مبادئ كونية وليست إيديوليوجا يتبناها المجتمع المدني..
وفي ضوء هذا الواقع يتساءل المواطنون أسئلة أخرى لا يطرحها الرئيس على نفسه، وعلى المجلس:
لماذا لا يتم تشديد الرقابة على الحدود البرية واتخاذ إجراءات استثنائية لو لزم الأمر؟
لماذا لا تتعامل دولتنا مع المهاجرين بقوانينها الموجودة لا بإملاءات ميلوني؟
ما الحكمة من نقل المهاجرين من مدينة إلى أخرى والاقتراب بهم من حدود الجزائر؟
لماذا لا يتم استغلال البيانات المتاحة في مراكز البريد لضبط هويات المهاجرين والجهات الوافدين منها؟
وهكذا لو فتحنا باب التساؤلات على مصراعيه لما أمكن إغلاقه أبدا، ومن الغريب في وضع أمني واجتماعي خطير كهذا الذي تعيشه بلادنا أن نواجه أزمة من أعمق الأزمات التي عرفها مجتمعنا بالاستفهامات الإنكارية وصيغ التعجب الإنشائية، والغمز بتوجيه أصابع الاتهام إلى طابور خامس مفترض في الداخل بدل تسمية الأطراف الأجنبية التي تعمل بلا هوادة على وضع بلادنا في فوهة المدفع