الترفيع في سن التقاعد : إصلاح “القرن” و نقلة تاريخية في منظومة الضمان اجتماعي
بقلم الدكتور عبد المجيد المسلمي
و أخيرا و بعدما يقارب 20 سنة منذ بداية تشخيص أزمة الصناديق الإجتماعية في تونس توصل التونسيون – بتأخير كالعادة- إلى إصلاح أنظمة التقاعد و لسان حال الجميع يردد المثل الفرنسي ” يأتي متأخرا أحسن من أن لا يأتي أبدا”
و برأينا يمثل إصلاح انظمة التقاعد إصلاح “القرن” كما يحلو للنقابيين تسميته. فهو أهم إنجاز اجتماعي في تونس في القرن 21 بعد أنشاء الصندوق الوطني للتأمين على المرض سنة 2004. و هم محقون. فالصناديق الإجتماعية تمثل الممول و الضامن لأهم خدمتين يستحقهم الانسان و هما جراية التقاعد و الخدمات الصحية
تأمين جرايات التقاعد في المستقبل
هنالك عوامل موضوعية ناتجة عن التطور الإقتصادي و الإجتماعي تفسر العجز الفادح الذي وصلت إليه الصناديق الإجتماعية سواء تعلق الامر بصندوق المشتغلين في القطاع الخاص ( الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي CNSS ) و خاصة صندوق موظفي الدولة و المؤسسات العمومية ( الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الإجتماعية CNRPS ) مما جعلها عاجزة عن تأمين جرايات التقاعد و التكفل بمصاريف العلاج و تطلب الوضع تدخل الدولة لتضخ أموالا من الميزانية لتسديد ذلك العجز
فقلد تطور معدل الأمل في الحياة ليبلغ 75 سنة ( بعد أن كان 50 سنة في الستينات) و تطور عدد المتقاعدين مقارنة بالنشيطين ( متقاعد واحد على 2,3 نشيطين حاليا بعد ان كان في الستينات متقاعد واحد على 8 نشيطين). كما تضاءل اللإنتداب في الوظيفة العمومية و تراجع التشغيل في القطاع الخاص مع بروز موجة إغلاق المؤسسات و تسريح العمال التي بدأت سنوات قبل الثورة و تواصلت بعد الثورة مما حرم الصناديق الإجتماعية من منخرطين جدد يساهمون في تمويلها. بالإضافة طبعا إلى مشاكل الحوكمة و انتشار الفساد مما جعل هذه الصناديق في حالة عجز دائم
إن الترفيع في سن التقاعد لم تبتدعه بلادنا و إنما مثل حلا حقيقيا اهتدت إليه جميع البلدان المتقدمة لمجابهة التحديات الجديدة للصناديق الإجتماعية. ففي فرنسا تبلغ سن التقاعد 62 سنة و تنكب الحكومة الفرنسية حاليا على إصلاح جديد لأنظمة التقاعد وعد به الرئيس “ماكرون” في حملته الانتخابية و أخرته انتفاضة السترات الصفراء. أما في البلدان الاوروبية فإن سن التقاعد تتراوح بين 62 سنة و 67 سنة
تطوير منظومة التأمين على المرض
إن الصناديق الإجتماعية مساهم كبير و ضخم في تمويل خدمات الصحة في تونس. فهي تساهم بما يقارب 35 بالمائة من نفقات الصحة في تونس ( ما يقارب 3000 مليار سنويا) في حين تساهم الدولة بما يقارب 25 بالمائة من ذلك التمويل ( حوالي 2000 مليار). أما المواطن فهو يساهم بما يقارب 40 بالمائة في تمويل الصحة و هو رقم كبير و مفزع لأنه يمس من القدرة الشرائية للمواطن. تذكيرا بأن المنظمة العالمية للصحة تشترط أن لا تتجاوز مساهمة المواطنين في نفقات الصحة 20 بالمائة
و تؤمن الصناديق الإجتماعية الخدمات الصحية للمنخرطين عبر ذراعها “الصندوق الوطني للتأمين على المرض ” CNAM ( الكنام) التي تمثل تقريبا جهاز مناولة مكلف من طرف الصناديق الإجتماعية بتأمين الخدمات الصحية و التعويض عن حوادث الشغل لما يقارب 9 ملايين تونسي ( منخرطين و اصحاب الحق من أفراد عائلتهم). و تضخ “الكنام” سنويا ما يقارب 3000 مليار للقطاع الصحي العمومي و الخاص.
و قد ترتب عن أزمة الصناديق الإجتماعية ان هذه الأخيرة لا تضخ الأموال المفروضة عليها إلى “الكنام” . إذ بلغت مستحقات “الكنام” لدى CNSS ما ينهاز 1800 مليار و بلغت مستحقات الكنام لدى CNRPS ما يعادل 1000 مليار. فالصناديق الإجتماعية أعطت أولوية لمرتبات المتقاعدين و تركت “الكنام” في درجة ثانية من أولوياتها
و قد ترتب عن ذلك عجز “الكنام” عن الإيفاء بتعهداتها المالية المستوجبة تجاه المستشفيات العمومية ( 400 مليار) و إزاء الصيدلية المركزية ( 800 مليار) و إزاء الصيدليات الخاصة و المصحات الخاصة ( 400 مليار).
و كما هو معلوم نتج عن هذه الحلقة المفرغة الجهنمية تدني خطير للخدمات الصحية المقدمة للمواطنين كما تفسره الأزمات المتكررة و ليس اخرها وفاة 15 رضيع بمستشفى الرابطة بتونس
و إن من شأن الترفيع في سن التقاعد بسنتين ( إضافة إلى الترفيع في نسبة الإقتطاع) ان يضخ ما يقارب 500 مليار في الصناديق هذه السنة و ضعفها في السنة القادمة و أن تنعش التوازنات المالية للصناديق و تعيد لصندوق التأمين على المرض تعافيه من العجز لينطلق في مزيد تطوير مساهمته لتمويل نفقات الصحة للمنخرطين و معاضدة مجهود الدولة في ذلك. و هو ما سيؤدي بالضرورة إلى تحسين الخدمات الصحية و تخفيف العبئ على المواطن
مسؤولية الحكومة و شجاعة الإتحاد العام التونسي للشغل
قد يبدو للوهلة الاولى أن هذا القانون مر بسهولة في المرة الثانية التي عرض فيه في البرلمان بعد أن تم رفضه في ديسميبر الماضي. و لكن المتابعين للملف يعلمون أن الترفيع في سن التقاعد مطروح منذ بداية سنوات 2000 و قد عجز النظام السابق عن معالجته و توجه للحلول الترقيعية. و بعد الثورة أصبح هذا الملف من ضمن الاوليات الوطنية.
صحيح أن الحكومة الحالية كانت مصممة على الإصلاح و تمكنت من إنجازه و هذا يحسب لها. و لكن شجاعة الإتحاد العام التونسي للشغل و واقعيته جعلت هذا الأمر ممكنا. فالإجابة الطبيعية لكل الشغالين في العالم هو رفض الزيادة في سن التقاعد و هو امر إنساني مفهوم. فبعد عشرات السنين من الكد و العمل ينتظر العامل بالساعد و الفكر ان يخلد للراحة و ينعم بالتقاعد. و لكن هذا الإجراء هو بمثابة الدواء المر و العلقم و لكنه بلسم ضروري للشفاء.
لقد تمكن الإتحاد العام التونسي للشغل و بصورة خاصة قسم التغطية الإجتماعية من إقناع الرافضين و المحترزين من الشغالين و من إطارات الإتحاد و انضجت حوارا دام ما يقارب 10 سنين في صفوف الإتحاد و اتخذت قرارها الشجاع بالإنخراط في الترفيع الإجباري لسن التقاعد بما فيه مصلحة كل الشغالين بالفكر و الساعد. مرة أخرى يضرب الإتحاد العام التونسي للشغل موعدا أخر مع التاريخ و يسير في النهج الذي يضمن حقوق الشغالين نشيطين أو متقاعدين
هكذا تطوي بلادنا صفحة إصلاحية هامة في تاريخها بفضل عزيمة الأطراف الإجتماعية و شجاعتها و نفسها الإصلاحي. و هذا ليس سوى ” صفحة من كتاب ” على حد تعبير الشهيد الرمز شكري بلعيد
*ننشر المقال بموافقة كاتبه