«بيري ريس».. غواصة حديثة تركية الصنع تم إنزالها إلى المياه بولاية كوجالي في إطار مشروع محلي، يهدف إلى المساهمة في زيادة قدرات البحرية التركية وتطوير الصناعات الدفاعية التركية بهذا المجال، وقد تمت عملية الإنزال خلال مراسم حضرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 22 ديسمبر 2019، لكن لماذا سميت الغواصة بهذا الاسم؟
يعتبر بيري ريس أحد نوابغ القرن السادس عشر، فإلى جانب كونه قائداً بحرياً قاد حروباً في عهد ثلاثة من السلاطين العثمانيين، كان ريس عالماً وجغرافياً رسم واحدة من أهم خرائط العالم بدقة سبق فيها جغرافيي عصره، وخلف لنا كتاباً يصنف من أهم الدلائل الإرشادية في مجال الملاحة البحرية.
من هو بيري ريس؟
تميز بيري ريس بالعديد من الصفات التي جعلت منه شخصية هامة في تاريخ البحرية العثمانية، فقد كان أدميرالاً (قائداً بحرياً) وجغرافياً ورساماً للخرائط، بالإضافة إلى إتقانه العديد من اللغات مثل اليونانية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية إلى جانب التركية، لغته الأم.
اسمه الحقيقي أحمد محيي الدين بيري، وقد ولد في مدينة غاليبولي، وعلى الرغم من أن تاريخ ميلاده الدقيق غير معروف، فإن التقديرات تشير إلى أنه ولد ما بين 1465 إلى 1470.
بدأ بيري ريس الإبحار والتنقل في سن مبكرة برفقة عمه كمال ريس، وشارك مع عمه في غارات ومعارك بحرية ضد فرنسا وسردينيا وصقلية وكورسيكا.
وقبل أن تنشئ الإمبراطورية العثمانية أسطولها البحري بسنوات، أُرسل كمال ريس تحت الراية العثمانية إلى إسبانيا بتكليف من السلطان العثماني بايازيد الثاني، لنقل وإنقاذ المسلمين من الاضطهاد في غرناطة.
وشارك بيري ريّس عمه في إجلاء عددٍ كبير من اللاجئين المسلمين واليهود من إسبانيا إلى شمال إفريقيا.
التحق بيري ريس رسمياً بعد ذلك بالبحرية العثمانية، وتولى قيادة إحدى سفن الأسطول العثماني في معارك عام 1494 البحرية التي جرت بين الإمبراطورية العثمانية وإمارة البندقية.
وذاع صيته خلال المعارك البحرية التي خاضها في الفترة من عام 1499 إلى 1502، وكان أبرزها معركة مودون التي هزم فيها العثمانيون أسطول البندقية هزيمة ساحقة.
وعندما توفي عمه ومعلّمه كمال ريس في حادث بحري مفاجئ وقع عام 1511، عاد بيري ريّس إلى غاليبولي حيث شرع في العمل على خرائطه وكتابه عن الملاحة.
وأثمر عن اعتكافه خريطةُ العالم التي انتهى من رسمها عام 1513 وأهداها إلى السلطان العثماني سليم الأول، كما أتم واحداً من أهم الكتب في مجال الملاحة، والذي سماه «كتاب البحرية».
هديته لسليمان القانوني
في عام 1517، أصبح بيري ريس أميرالاً في حملة السلطان سليم الأول المصرية، وعندما ذهب إلى الديار المصرية، والقاهرة، أتيحت له الفرصة لرسم خريطة تلك المنطقة ونهر النيل.
وكما قاد بيري ريس معارك بحرية مهمة في عهد بيازيد الثاني وخليفته السلطان سليم الأول، أتم ريس مسيرته في الفتوحات التي قادها السلطان سليمان القانوني والتي شكلت حقبةً مهمةً في تاريخ الإمبراطورية العثمانية.
فقد شارك بيري ريّس في حصار رودس في عام 1522 والذي أسفر عن فتح العثمانيين لجزيرة رودس، وكلّف بعد ذلك بقيادة أسطول بحري توجّه في مهمة إلى مصر، برفقة الصدر الأعظم إبراهيم باشا الفرنجي.
وأثناء تلك المهمة نشأت صداقة بين بيري ريس وإبراهيم باشا الذي أعجب بآراء بيري واكتشافاته، وفي العام 1525 أهدى بيري ريس أعظم إنجازاته «كتاب البحرية» إلى سليمان القانوني عن طريق إبراهيم باشا.
إعدام بيري ريس
في 1547، ترقّى بيري ليصبح قائداً للأسطول العثماني، وبعد وفاة الأميرال العثماني خير الدين بربروس باشا، خلفه بيري ريس وتولى قيادة الأسطول المصري.
وفي عام 1551 خرج بيري ريس من مدينة السويس على رأس قوة بحرية قوامها 30 سفينة حربية متوجهاً إلى المحيط الهندي، وبقى 3 أيام في مدينة جدة، استولى فيها على مسقط ودخل في معركة بحرية مع قوة برتغالية قوامها 70 سفينة حربية وانتصر عليها.
وعندما هرب البرتغاليون وتحصنوا في قلعة هرمز، توجه نحو القلعة وحاصرها، لكنه فك الحصار عندما سمع بتجمع أساطيل البرتغاليين الموجودة في المحيط الهندي وتوجهها نحوه.
ثم عقد اتفاقية مع البرتغاليين رفع بموجبها الحصار عن القلعة مقابل مبالغ مالية وهدايا تدفع للدولة العثمانية.
في إثر هذه الحادثة استطاع أعداء بيري ريس وعلى رأسهم والي البصرة «قوباد باشا» إقناع السلطان بفشل حملة بيري ريس محرضين السلطان ضده، كما اتهموه بالتخاذل والجبن.
وكان رد السلطان أن حجر عليه وحبسه بعد تبين النتائج السلبية لحملته ثم أعدمه في العام 1554 عن عمر يناهز 84 عاماً، وقيل 89.
قيل أيضاً إن أبحاث بيري ريس العلمية حول كروية الأرض ووجود قارات جديدة لم يتم اكتشافها بعد، أثارت عداء مشايخ العثمانيين.
فاتهمه علماء إسطنبول بالجنون ومخالفة إجماع علماء المسلمين، وطلبوا من سليمان القانوني قتله، فاجتمعت لسليمان القانون عدة أسباب دعته للتخلص من ريس.
تعتبر الخريطة التي رسمها بيري ريس في العام 1513 للعالم أقدم خريطة موجودة لقارة أمريكا على سطح الأرض، بما أن خريطة كولومبوس قد ضاعت.
ويشير بيري ريس في ملاحظاته إلى أنه استعان بخريطة لكريستوفر كولمبوس -غير متوفرة حالياً- لرسم السواحل الشرقية للأمريكتين.
رسم بيري خريطته على جلد غزال مستخدماً تسعة ألوان مختلفة.
تظهر الخريطة جبالاً في نقوش بارزة، والأنهار بخطوط سميكة، والمسطحات بنقاط حمراء، ومناطق حجرية تتضمن رسومات لنباتات شائعة وصور حيوانات، إضافة إلى ملاحظات حول مختلف المناطق.
يشمل الجزء المتبقي من الخريطة السواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي، وتتضمن الخطوط الساحلية للأمريكتين الشمالية والجنوبية، وجزر الأنتيل وشمال غرب إفريقيا وفرنسا وإسبانيا.
تحظى الخريطة بقيمة تاريخية كبيرة، لما اتسمت به رسوماتها من دقةٍ كبيرة مقارنة بالأدوات والمقاربات العلمية التي كانت متاحة آنذاك، إذ فاجأت خريطته علماء الوقت الحاضر لدقتها.
خريطة 1528
بعد اطلاع بيري على الأماكن المكتشفة حديثاً في الغرب، وانتهائه من «كتاب البحرية» رسم خريطة جديدة أكثر دقة في العام 1528 وأهداها للسلطان سليمان القانوني.
وتعد هذه الخريطة إحدى أكثر الخرائط إذهالاً وإثارة للدهشة لدقتها الشديدة إذا ما قورنت بالخرائط المرسومة في ذلك القرن.
وتحمل الخريطة التوقيع المألوف لبيري ريس، حيث كتب في الزاوية السفلية من الخريطة: «رسم هذه الخريطة في 935 هـ [1528 ميلادياً] العبد الفقير بيري ريس، ابن الحاج محمد، وابن شقيق الراحل كمال ريس، من غاليبولي».
الأمم المتحدة تحتفل ببيري ريس
تعد «خريطة العالم» التي رسمها بيري ريس جزءاً من التراث العالمي للوثائق والخرائط.
وقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2013 عاماً لإحياء ذكرى بيري ريس، بمناسبة مرور 500 عام على خريطة العالم التي رسمها.
حيث أُقيم معرض تضمن أعمالاً تُظهر التصورات المختلفة عن العالم ما قبل خريطة بيري ريس، تحت عنوان «بيري ريس وخريطة العالم 1513: 500 عام من الغموض» في «مركز توبهانة أميري للثقافة والفنون» التابع لجامعة معمار سنان للفنون الجميلة في إسطنبول.
يُذكر أن مدير المتاحف الوطنية التركية، خليل أدهم بك، عثر على خريطة بيري ريس في عام 1929، خلال عملية ترميم قصر طوب كابي سراي في إسطنبول.
وعمل الباحث التوراتي أدولف ديسمان والمستشرق الألماني بول كاهل على دراسة الخريطة وتحقيقها.
وفي عام 1931، كُشف النقاب عن خريطة بيري ريس التي رسمها في عام 1513 وتضمنت المحيط الأطلسي والقارات المحيطة به، وأعلن عنها للعالم أجمع.
عُرضت الخريطة في متاحف مختلفة في جميع أنحاء العالم، وهي محفوظة اليوم في متحف قصر توب كابي سراي.
كتاب البحرية لبيري ريس
عاش بيري ريس حياته متنقلاً في البحار وسجل خلال رحلاته العديد من الملاحظات والمعلومات التي أهلته لكتابة واحد من أهم الكتب في مجال الملاحة: «كتاب البحرية» الذي انتهى في العام 1521.
يعتبر هذا الكتاب واحداً من الأعمال الرائدة في علم الجغرافيا ورسم الخرائط التاريخية في التاريخ العثماني والعالمي.
ويتناول مواضيع مثل أهمية علوم الملاحة للبحارة، وأسماء الرياح والعواصف، ومقدمة في الخرائط، وعلامات الخرائط، وأسماء البحار.
كما يحوي الكتاب معلومات قيمة عن بحر الصين، والمحيط الهندي، والخليج الفارسي، وسواحل الحبشة في إثيوبيا وجزر القمر، والبحر الأبيض المتوسط، ومضيق هرمز، وجزر الأنتيل، واكتشاف أمريكا، والبحارة البرتغاليين الذين أبحروا إلى المحيط الهندي.
ويصف بيري ريس في بداية الجزء الثاني بحر إيجه، واليونان، وسواحل البحر الأدرياتيكي، وسواحل البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا ومصر، وساحل شرق المتوسط، وقبرص وموانئ ساحل الأناضول المطلة على بحر إيجه.
ويختتم الكتاب بالحديث عن خليج ساروس، الذي يقع إلى الشمال من غاليبولي.
وصف المؤرخون هذا الكتاب بأنه عمل عظيم ودليل إرشادي للتاريخ البحري. ومازال كتاب البحرية وألغاز خرائط بيري ريس موضع نقاش حتى عصرنا هذا.
المصدر:عربي بوست