استثناء ألماني ومعجزة آسيوية في مواجهة كورونا.. وأين نحن؟
في مشهد غير مألوف في بلد عربي، يصدح ميكروفون رجال الأمن ومسؤولو الإدارات المحلية ليوجهوا رسائل الشكر والإشادة بمواطنيهم في مدينة لانضباطهم والتزامهم بالحجر الصحي. وأي مدينة، إنها مدينة الحسيمة الواقعة في الريف شمال المغرب، وهي مدينة ارتبط تاريخها منذ حوالي قرن من الزمن بالانتفاضات ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي ثم ضد الحكم المركزي بعد إستقلال البلاد، بل إن معتقلين من المدينة بسبب حراك وقع فيها سنة 2017، ما يزالون يقبعون في السجون، وكانت الأوضاع الصحية السيئة في المنطقة من أهم الأسباب التي دفعتهم للخروج إلى الشارع.
فيفيفري 2004، زرت الحسيمة في ظروف طوارئ، كمراسل لتغطية أسوأ زلزال تعرضت له المدينة، في تاريخها، سقط فيه أكثر من ستمائة قتيل وعدد أكبر من المصابين. وكان سكان المدينة وأحيائها المجاورة المكتظة (حوالي 400 ألف نسمة) يبلون متضامنين في مواجهة أهوال الزلزال الذي لم تتوقف هزاته الارتدادية طيلة أيام وليال كانت تتمدد وكأنها شهور.
التزام سكان الحسيمة يبرهن على أن وعي الناس هناك وتضامنهم عنصر حاسم في كسب التحديات والانتصار على المحن، ولا علاقة له بالخضوع أو الطاعة لأوامر السلطة.. ففي أحياء ومدن أخرى من المملكة المغربية، نقلت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد يبدو فيها رجال الأمن وهم يصفعون شبانا ومواطنين يخرقون الحجر الصحي، وقد تكون بعض تلك المناطق معروفة بتصويتها في الانتخابات لأحزاب الموالاة.
في مثل تلك المناطق تظافر الفقر وضعف الوعي لدى السكان بمخاطر الوباء، فأدى إلى تلك الخروقات، التي تفيد إحصاءات عديدة لوزارة الصحة المغربية، بأنها تتسبب في انتشار أفقي واسع للفيروس، ومن بين العوامل التي ساهمت في انتشار العدوى طبيعة العلاقات الأسرية.
وفي تونس، نقلت قنوات تلفزيونية محلية ومواقع التواصل مشاهد لمواطنين في أحياء شعبية بتونس العاصمة أو في مدن أخرى شمال غرب البلاد مثل جندوبة، وهم يحتشدون بالمئات ويتزاحمون على حصتهم من أكياس الدقيق والمساعدات الاجتماعية التي منحتها الحكومة للفئات الضعيفة لتخفيف معاناتها خلال الأزمة.
عندما يبكي وزير الصحة!
ومن شاهد وزير الصحة التونسي، الطبيب الدكتور عبد اللطيف المكي، وهو يجهش بالبكاء خلال مؤتمر صحفي، محذرا مواطنيه من كارثة صحية، يرصد إلى أي مدى تواجه مؤسسات ديمقراطية تونس الناشئة صعوبات في فرض سلطة القانون.
نتيجة مشابهة وصلت إليها مصر التي يتسم حكمها بالقبضة السلطوية، حيث سجلت تجاوزات كبيرة في بعض البلدات والمدن، مثل قرية هياتم بالمحلَّة أو قرية المعتمدية بالجيزة، التي سُجلت بها إصابات كثيفة، واضطرت السلطات لفرض إغلاق تام لمداخلها ومخارجها. وجاء ذلك نتيجة استخفاف بقواعد التباعد الاجتماعي، حيث تسبب إقدام العشرات من السكان على حضور حفل زواج ومناسبة مأتم، في انتشار أفقي واسع للفيروس.
بينما تسجل الإحصاءات التي تنشرها وزارات الصحة في تونس ومصر والمغرب والجزائر، وجود أعداد قليلة من الإصابات بالفيروس في مناطق عديدة مثل صعيد مصر، ومحافظات سيدي بوزيد وسليانة والقصرين التونسية، وعلى غرار منطقة الحسيمة والأطلس المتوسط وأقاليم جنوب المغرب الصحراوية، هنالك أمثلة من الجزائر في منطقة القبائل ووهران والأقاليم الصحراوية جنوبا.
ولا تتوفر هذه المناطق من بلدان شمال أفريقيا، على تجهيزات صحية أفضل من نظيراتها التي تسجل بها أرقام مرتفعة من الإصابات، لا بل إنها في غالب الأحيان تصنف ضمن المناطق الأقل حظوظا في التنمية. وهنالك من الخبراء من يشير إلى أن مثل هذه المناطق هي أقل تداخل بشري مقارنة مع مناطق سياحية أو مناطق تنتشر فيها الأنشطة الاقتصادية، حيث تسجل فرص انتشار عدوى الفيروس على نطاق أفقي أوسع وبوتيرة أسرع.
بيد أن خاصية مهمة يمكن التوقف عندها في تحليل العوامل التي تساهم في الانضباط العام والتزام الحجر الصحي، بمناطق دون أخرى في البلد الواحد.
أولهما، روح التضامن القوية بين السكان المحليين، ومن شأن هذا العامل أن يشيع روح الاطمئنان والسكينة، لأن أهلهم وجوارهم وأبناء عشيرتهم لن يتركوهم يموتون جوعا!
وثانيها، وجود أنساق من القيم والتقاليد المحلية التي يستند إليها الأعيان والمراجع المجتمعية أو الدينية في بسط نفوذها على السكان المحليين، وهي خاصية ما تزال تلعب دورا كبيرا في مناطق مثل ريف المغرب والأطلس المتوسط وأقاليم الصحراء وصعيد مصر ومناطق جنوب الجزائر وتونس ووسطها. وتكشف الأزمة الحالية إلى أي حد تحتاج الدولة الحديثة إلى الاعتماد على أدوات محلية متداخلة، ثقافية ودينية ومجتمعية، كآليات للضبط الاجتماعي وبسط نفوذ مؤسسات الدولة وتمرير قراراتها.
كما يظهر في مواجهة مثل هذه التحديات، تفاوت ملحوظ في أداء الأنظمة السياسية ببلدان شمال أفريقيا، ففي بلد مثل المغرب حيث تتداخل بينة الدولة الحديثة بهياكل “المخزن”(مصطلح يطلق على الحكم المركزي التقليدي بالمغرب) وسلطة الملك الدينية، تُمكّن الدولة من أدوات أكثر نجاعة في الضبط الاجتماعي ومرونة في مواجهة الأزمات. وقد أظهر أداء “القايدة حورية” بمدينة آسفي جنوب غرب المغرب، وتفاعل السكان المحليين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، نجاعة أهمية الدور الذي تلعبه البنيات العميقة للسلطة في علاقتها بالمجتمع.
بينما تضطر السلطة المركزية في نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أن ترخي قبضتها الأمنية والعسكرية، لتفسح المجال في مناطق مثل صعيد مصر، للأعيان والشيوخ لإدارة الأزمة بوسائلهم التقليدية والمحلية. كما تضطر السلطات المصرية إلى أن تغض الطرف على نشطاء المجتمع المدني الذين طالما لاحقتهم، كي يطلقوا مبادراتهم في الأحياء الشعبية بالقاهرة لمساعدة كبار السن والعائلات الفقيرة جدا.
أما في تونس فان قيادتها السياسية المنتخبة ديمقراطيا، تواجه صعوبات في إدارة الأزمة، وتتلمس الطريق نحو النجاة من الكارثة، بالاعتماد على حشد قوى المجتمع المدني وعلى إحياء هياكل الدولة المترهلة التي تنخرها البيروقراطية والفساد منذ عقود، وخصوصا قطاع الصحة الذي يتجه إلى تحقيق معجزة إذا لم يُحبطها عدم الالتزام بالحجر، كما قال وزير الصحة التونسي.
لقد حققت تونس استثناء على المستوى السياسي في دول الربيع العربي، لكن هذا البلد الصغير الذي كان من أوائل الدول العربية التي اعتمدت بفضل رؤية بعيدة النظر لزعيمها الراحل الحبيب بورقيبة، على التنمية البشرية وخصوصا التعليم والصحة وحقوق المرأة، تضعها الجائحة اليوم أمام امتحان عسير، فهل تحقق معجزة أم تسقط في سيناريو الكارثة الإيطالية؟
“استثناء ألماني” و”معجزة آسيوية”
بعد مرور مائة يوم منذ إعلان الصين رسميا أول حالة إصابة بفيروس كورونا، تكشف مؤشرات وخارطة انتشار الوباء تضاريس مجتمعية وثقافية، كانت تحجبها سطوة المال والقوة في النظام العالمي. وتظهر عوامل حاسمة لم يكن يوضع لها الكثير من الحسبان في قراءات المحللين، ففي بلد مثل سنغافورة أو تايوان، أو الصين نفسها، يرصد خبراء دور عوامل مثل الانضباط الاجتماعي والتضامن والقيم الثقافية في تحقيق ما تصفه تقارير صحية وإعلامية عديدة بـ “معجزة” الانتصار على الفيروس الفتاك.
وفي ألمانيا، تُسلط الأضواء على العوامل المؤسساتية مثل منظومة الصحة والتدابير الاحترازية وحسن إدارة المستشارة أنغيلا ميركل للمرحلة، الأمر الذي ساعد على تحقيق أدنى معدل وفيات (أقل من 2 في المائة) بين المصابين بفيروس كورونا، مقارنة ببلدان أوروبية أخرى، ففي فرنسا تجاوز المعدل 7 في المائة وفي إسبانيا وصل إلى أعلى من 11 في المائة، بينما تجاوز في إيطاليا 12 في المائة.
وقد ذهبت صحيفة نيويورك تايمز، في عددها ليوم 4 افريل، إلى الحديث عن “استثناء ألماني“. بيد أن عوامل اجتماعية وثقافية مهمة تلعب دورها في تحقيق التفوق الألماني، وضمنها طريقة تنظيم العلاقات الاجتماعية ورعاية المسنين، وثقافة الانضباط الاجتماعي واحترام القانون، حتى عندما يتعلق الأمر بمناسبات وتقاليد اجتماعية عريقة. وكانت المستشارة ميركل ناشدت مواطنيها بالتخلي عن الزيارات العائلية والرحلات خلال عيد الفصح رغم مكانته الدينية والاجتماعية عندهم.
وقد أظهرت دراسة أنجزها فريق من الباحثين بجامعة مانهايم الألمانية بإشراف عالمة الاجتماع آنولين بلوم، نشرت صحيفة تاغيس شبيغل البرلينية ملخصا عنها في عددها ليوم الأربعاء (8 افريبل 2020)، أن الألمان يواصلون الالتزام بقواعد الحجر الصحي الأكثر صرامة وخصوصا التباعد الاجتماعي، وبأن نسبة الالتزام الصارم تصل حاليا إلى 69 في المائة.
دروس مبكرة من الأزمة
بالنسبة لأكثر المتفائلين في بلدان شمال أفريقيا، وبحكم محدودية الموارد المادية والتقنية والتجهيزات في المنظومات الصحية ونزيف الكفاءات الذي تعرضت له بسبب هجرة الأطباء، فهم يتمنون فقط تجاوز الأزمة بأقل الأضرار وخصوصا تفادي كارثة صحية.
ويُعزا التفاؤل الحذر أيضا إلى إدراك طبيعة المرحلة الانتقالية التي تجتازها بلدان المنطقة، سواء على المستوى السياسي والاقتصادي أو المجتمعي، فلا هي بلدان آسيا ذات الاقتصاديات الناهضة والأنساق الثقافية والمجتمعية الملائمة والمحفزة، ولا هي ألمانيا المتفوقة اقتصاديا وعلميا والمعتمدة في نهضتها، بعد الحرب العالمية الثانية، على الملاءمة بين تقاليد الانضباط الاجتماعي لدى مواطنيها وقواعد دولة القانون.
في خضم أزمة كورونا، بات فريق من النخب الفكرية والسياسية يدرك أكثر من أي وقت مضى، حاجة بلدان المنطقة إلى ضرورة إعادة ترتيب الأولويات في استراتيجيات التنمية، وهذا ما يطرحه خبراء اللجنة الوطنية المكلفة بوضع نموذج تنموي جديد في المغرب، بأن يكون قطاع الصحة في الصدارة.
كما يدعو مثقفون في تونس إلى مراجعة عميقة لفلسفة الدولة ليس فقط على مستوى النموذج التنموي، بل أيضا في النظرة لثقافة السلطة والقيم الفردية والجماعية في المجتمع، بما فيها القيم الدينية التي أظهرت الأزمة دورها الاستراتيجي سواء في إحداث الفوضى أو في تحقيق الضبط الاجتماعي.
لكن هنالك أصوات أخرى ترتفع في دولها ولا يُسمع لها، مثل نشطاء حراك الجزائر حيث استيقظ الجميع على الفجوة الكبيرة بين موارد البلاد الهائلة من النفط والغاز والاختلالات الكبيرة في الصحة وصناعات التغذية والمعدات الطبية. أو مصر التي اضطرت حكومتها إلى الافراج عن عشرات المعتقلين السياسيين للتخفيف من وطأة انتقادات منظمات حقوق الإنسان وتحذيراتهم من حدوث كارثة في سجون البلاد التي تعج بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين.
المصدر:dw منصف السليمي