لست متضامنا مع حمزة البلّومي
منذ سنوات الآن أصبحت أكاد لا أطيق عبارات “التضامن” وأشكاله الّتي تنتشر هنا وهناك على صفحات التواصل الاجتماعي مصحوبة بصور وعبارات منمّقة وأحيانًا بعض الأغاني وشيء من الشعر والإنشاء، وسبّ الجهة المقابلة أحيانًا أخرى.
والحقيقة أنّ هذا الأمر، وهو ذاتيّ صرف لا ألزم به أحدًا ولا أدعو أيّا كان إليه، أراه مقترنا في الذهنيّة العامّة بضروب من الظرفيّة أو يمكن أن نسمّيه “شعور المناسبات” يخيّل إليّ دائما أنّه نوع من أنواع “الانفعالات الحزينة” تماما كالكراهيّة الّتي وصفها ذات مرّة الفيلسوف فتحي المسكيني بهذا الوصف. نوع من السلبيّة والعدميّة الّتي ما إن تنطلق حتّى تنتهي لنعيد “التضامن” ومشاعر “المؤازرة” مرّة أخرى.هذا ما خطر لي وأنا أتابع حملة “تضامن” مع الإعلامي حمزة البلّومي ضدّ من نصب له العداء والبغض منذ مدّة الآن، ولا أرى أيّ موجب لذكر الجهة المعادية له إمّا قولا أو كتابة أو ذكرا أو حتّى تلميحا فقديما قالوا: “إذا راب الحليب…”وأترك لكم إكمال ما قاله أجدادنا في شأن من لا رجاء من محاولة علاجه أو إصلاحه.
إنّ أكثر ما يهمّني هو تقييم مواقف الفاعلين وأصحاب القرار وقد رفعوا شعارات رنّانة منذ سنوات عن الحريّة وتوفير ضماناتها، وترسيخ دولة القانون، والمبادئ الديمقراطيّة وهي أكبر بكثير من مجرّد الشكليّات الانتخابيّة وإن كان الانتخابات من جوهر العملية الديمقراطيّة. وسمعنا الخطابات الطويلة وقد تمّ إعلان الحرب فيها على العنف والدعوة إليه، وعلى الكراهيّة ونشرها، وعلى الإرهاب وتمجيده، وعلى التكفير ما ظهر منه وما بطن وهو المجرّم دستوريّا.
نعم سمعنا خطبا كثيرة في هذا الاتّجاه ولكنّها خطب لم تمنع وكرًا مثل وكر الرقاب من الاستمرار طيلة سبع سنوات، نعم يا سادتي، سبع سنوات من سنة 2012 إلى بداية سنة 2019، ولولا كشف مثل هذا المكان إعلاميّا في برنامج “الحقائق الأربع”لواصل أصحابه في ما نُسب إليهم من جرائم في حقّ الأطفال والمجتمع إلى اليوم، والقضايا مازالت إلى اليوم منشورة أمام القضاء، وما أشيع عن عدم سماع الدعوى يتعلّق فقط بتهمة الاتّجار بالأشخاص، وهو حكم ابتدائيّ، لا يعدو أن يكون مواصلة “لطلب ثأر” من برنامج إعلاميّ ممثّل في معدّه ومقدّمه لا لشيء إلاّ لأنّه قام بدوره الّذي يجب عليه أن يقوم به لانتشال أطفال قصّر أبرياء من براثن الكراهيّة والعنف وغسل الأدمغة والاستغلال وإعادتهم إلى مكانهم الطبيعي: المدرسة العموميّة لتربّوا على قيم المواطنة الحقّة مع بقيّة الأطفال الّذين أنصفهم القدر بوالدين يرون فيهم المستقبل الجميل، فالواضح أنّ القدر ليس دائما منصفا وقد يكون أحمق الخطى.
في مثل هذه الحالة، من المفروض أن تقوم أجهزة الدولة بدورها، فالأطفال ليسوا ملك آبائهم وأمّهاتهم، ومن حق الدساتير والقوانين أن “تهتك حرمات البيوت ولا تهابها” في العديد من الحالات إذا كان هناك ما يهدّد سلامة الأطفال جسديّا أو معنويّا، وتقف تلك الأجهزة بصرامة تامّة أمام كلّ ما يساهم بشكل أو بآخر في ذلك التهديد وبأيّ طريقة كانت، سواء بالترويج أو المساندة قولا أو فعلا. ولا يدخل هذا مطلقا في باب التعدّي على الحريّة، إذ لا يمكن مثلا في دولة ترفع شعار الحريّة أن تترك مجالا للدعوة إلى العنصريّة أو الفاشيّة أو القتل أو العنف فهذه مسائل مجرّمة.
يزداد الأمر حدّة كلّما ارتبط ظاهريّا بمسألة “المقدّسات”، وأقول ظاهريّا لأنّ ما سمّي بقضيّة “مدرسة الرقاب” كما أثيرت في برنامج “الحقائق الأربع” يوم 31 جانفي 2019 لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بأيّ مسألة دينيّة من أيّ نوع، إنّها إثارة لقضيّة تمسّ سلامة أطفال تونسيّين يتمّ استغلالهم، وعلينا أن نفهم أنّ تحويل وجهة القضيّة من قضيّة اجتماعيّة حقوقيّة إلى قضيّة دينيّة هو من باب اللعب على العاطفة الشعبيّة لغاية سياسيّة صرف هدفها “التمكين الإعلامي” عبر تمرير مشروع قانون تنقيح المرسوم 116 المتعلّق بحريّة الاتّصال السمعي البصري، وهو مشروع يهدف أوّلا وبالأساس إلى تعويض الترخيص بتصريح للوجود فيفسح المجال لكلّ من هبّ ودبّ لإنشاء قنوات تلفزيّة أو إذاعيّة أو غيرها وتمكين القنوات الخارجة عن القانون من الاستمرار دون حسيب ولا رقيب، وزاد الأمر إلحاحًا بالنسبة إلى المطالبين بذلك بعد التحالفات السياسيّة الأخيرة، وانقلاب العداوات الظاهرة في الماضي إلى ودّ وتآلف وغدا العدوّ خلاّ وفيّا. هذا بطبيعة الحال بالإضافة إلى تبنّي أفكار عنيفة وشعبويّة علينا القول بصراحة اليوم أنّها تجد صدى وقبولاً أحيانا كثيرة، فيبدو أنّ تربة مهيّئة لذلك موجودة اجتماعيّا تنبت زرعا طالحا سماده الفساد.
القضيّة مرتبطة بالحريّة وهي لا تربط بقضية ما كشفه برنامج “الحقائق الأربع” بل يتجاوزه إلى ما خلنا أنّنا اكتسبناه بعد سنة 2011 من حريّة الإعلام، فتلك الحريّة هشّة إلى حدّ كبير، وهي مهدّدة من جهات مختلفة، وفي الحرب على الحريّة تستعمل أسلحة كثيرة من بينها التكفير الظاهر والتكفير الذي يكاد ينطق به صاحبه من وراء التسويق لمعاداة الدين والقرآن، وهو تسويق عانينا منه كثيرا طيلة العشريّة الأخيرة دون ردّ فعل جدّي والاكتفاء بالتنديد و”التضامن الفايسبوكي” السلبي، بل المواصلة في فسح المجال الإعلامي أمام دعاة المقنّع والسافر، مع صمت رهيب من أصحاب القرار.
لم يعد التضامن كافيا بصيغته المتداولة حاليّا، التضامن الحقيقيّ ينبغي أن يمرّ إلى الفعل الحقيقي لمجابهة مدّ قد لا يبقي ولا يذر.
*المقال بقلم الدكتور نادر الحمامي