بعد حوالي أربع سنوات، تعود منطقة الكركرات في الصحراء الغربية، للواجهة مجددا، إثر مخاوف من أن يصل التوتر بين المغرب والبوليساريو، الطرفين المتنازعين على المنطقة، إلى مواجهات تنهي وقف إطلاق النار المتفق عليه بينهما منذ عام 1991.
سبب التوتر الجديد يعود إلى منع عناصر من جبهة البوليساريو لسائقي الشاحنات المغاربة من عبور معبر في المنطقة يستخدمونه بكثافة لنقل البضائع، ما دفع الجيش الموريتاني لوضع عدد من عناصره في المنطقة تفاديا لأيّ تصعيد، ولتأمين حدود بلاده الشمالية في منطقة حساسة.
وظهر سائقو شاحنات مغربية في مجموعة من مقاطع الفيديو وهم يتحدثون عن سرقة بضائعهم وبقائهم عالقين منذ أكتوبر الماضي وسط الصحراء دون أن يظهر أيّ حل في الأفق، فيما أظهرت فيديوهات أخرى عناصر من البوليساريو يحملون أعلام “الجمهورية الصحراوية” غير المعترف بها دوليا، وهم يتحدثون عن وجودهم في المعبر.
ويقول أبّي بشرايا البشير، ممثل جبهة البوليساريو في أوروبا، إن “الجبهة لم ترسل أحدا”، بل الأمر يتعلّق بـ”مبادرة مدنية اتخذتها هيئات صحراوية في سياق الإحباط من فشل المينورسو (البعثة الأممية لتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية) في مهامها، ومن ذلك تنظيم الاستفتاء في الإقليم المتنازع عليه”، مضيفًا لـ DW عربية أن هذه المبادرة هي “من اتخذت قرار الثغرة (أي معبر الكركرات) بما أنها غير شرعية ولا تتوافق مع قرار وقف إطلاق النار بين الجبهة والمغرب”.
بينما يرى عمر العباسي، برلماني عن حزب الاستقلال المغربي، أن التبرير الذي تسوقه البوليساريو لمحاولة إغلاق المعبر “متهافت”. ويتحدث لـDW عربية عن أن الجبهة “تحاول تغيير الوضع القانوني للمنطقة العازلة، وقامت على مدار السنوات بعدة خروقات واضحة لوقف إطلاق النار”، وخطوتها الآن “استفزازية وغير غريبة عن مسارها، فكلما لقيت أطروحتها أفولًا على الصعيد الدولي أمام صلابة الأطروحة المغربية، كلما جاءت مثل هذه التصرّفات” يقول العباسي.
أين توجد الكركرات وما أهميتها؟
تعدّ الكركرات آخر نقطة حدودية من المنطقة التي تخضع للنفوذ المغربي في الصحراء الغربية. يتوفر المغرب في الكركرات على مركز حدودي، ينتهي بعده الجدار الرملي العازل (تم تشييده في سياق وقف إطلاق النار)، ويتبقى معبر بري من بضعة كيلومترات حتى بلوغ حدود موريتانيا. يدور النزاع الحالي حول هذا المعبر وليس الكركرات ككل، فهو المنفذ البري الوحيد المستخدم لتنقل السيارات والشاحنات بين جنوب الصحراء الغربية وموريتانيا.
يعدّ المعبر جزءاً صغيراً للغاية من منطقة عازلة أكبر حددتها الأمم المتحدة كأحد شروط وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، رغم أن هذه الأخيرة تعتبر المنطقة العازلة ككل (تمثل حوالي 20 بالمائة من الصحراء الغربية) مناطق محررة، وإن كانت البوليساريو تتجنب وجوداً مستمراً لعناصرها في الكركرات وفي الشريط الساحلي المحاذي لموريتانيا نظراً لحساسية المنطقة (تسيطر نواكشوط بحكم الأمر الواقع على بعض النقاط المهمة كبلدة الكويرة).
حساسية الكركرات تعود لـ”موقعها الاستراتيجي بين حدود ثلاثة أطراف، مناطق يسيطر عليها المغرب وأخرى تسيطر عليها البوليساريو، وحدود موريتانيا”، يقول عبيد اميجن، إعلامي موريتاني مهتم بالشؤون الإفريقية لـDW عربية، مضيفًا أن “الكركرات عُرفت لسنوات كمكان خالٍ يعيش فيه لاجئون وبائعو الخردة، لكن الوضع تغيّر قبل سنوات، عندما أرسلت البوليساريو مقاتلين للحد من التنقلات بين المغرب وموريتانيا، ولاحقا أرسلت مدنيين يقطعون الطريق حالياً”.
مخاوف من مواجهات عسكرية
من أكبر فصول التوتر في الكركرات التي تسمى كذلك بـ”قندهار الصحراء”، ما وقع عام 2016 عندما أعلنت الرباط عن عملية أمنية لمحاربة التهريب والتبادل التجاري غير المشروع. بعدها أرسلت مهندسين لتعبيد الطريق في المعبر. وقد ردت البوليساريو بإرسال قواتها التي كانت على مسافة بضعة أمتار من القوات المغربية. تدخلت قوات المينورسو لمنع المواجهات، وسحب الطرفان قواتهما بعد ذلك بأشهر إثر دعوة الأمين العام الأممي أنطونيو غوتيريش.
غير أن شبح المواجهات لم يغب عن المنطقة، فالبوليساريو هددت مؤخرا بإنهاء وقف إطلاق النار إذا دخلت قوات مغربية إلى المعبر، متحدثة عن أن الإجراء إذا وقع “سيشكّل عدوانا صارخا على الطرف الصحراوي”، غير أن اللافت في بيان الجبهة إقرارها أن المعبر خاضع لسيطرة جنود القبعات الزرق، في وقت كان إعلامها يقول إن المعبر “جزء من المناطق المحررة”.
وقد أكد المغرب لاحقا أنه أرسل قواته إلى المنطقة العازلة للكركرات، متحدثا عن أنه لم يكن أمامه “خيار آخر سوى تحمل مسؤولياته من أجل وضع حد لحالة العرقلة الناجمة عن هذه التحركات وإعادة إرساء حرية التنقل المدني والتجاري”، متهما البوليساريو بالقيام بـ”أعمال عصابات هناك، وبعرقلة حركة تنقل الأشخاص والبضائع على هذا المحور الطرقي، وكذا التضييق باستمرار على عمل المينورسو”.
ولا يعتقد امجين أن المواجهات ستعود، إذ يرى أن البوليساريو لا تضغط من أجل إشعال الحرب، وإنما من أجل إعادة الملف إلى مجلس الأمن لأجل إيجاد حل، خصوصا أن النزاع لم يصعد للواجهة منذ استقالة آخر مبعوث أممي، الرئيس الألماني الأسبق هورست كوهلر.
ويشير المتحدث أن الجزائر كأكبر طرف يدعم البوليساريو، “لديها مشاكل داخلية متعددة، وحدود تشهد إشكاليات أمنية مع عدة دول، ولن تجازف بدخول الحرب على حدودها الغربية”، كما أن أطراف النزاع، تدرك أن أي حرب “ستعود بالنفع على الجماعات المتشدّدة في منطقة الساحل حتى تنقل امتدادها إلى حدود الصحراء”، وهو وضع لا يخدم مصلحة أيّ طرف حسب قوله.
غير أن أبّي بشرايا البشير، يقول إن الجبهة لا تهدّد بشن حرب، وإنما بحماية “المدنيين الصحراويين الذين يتظاهرون بشكل سلمي، في حال ما أدخل المغرب قواته إلى المعبر”، مضيفا: “لن نتردد في استخدام كل الوسائل، بما فيها القوة المسلحة في مواجهة أي اعتداء على مواطنينا. كما أن مساعينا لإغلاق ثغرة الكركرات ستستمر”.
وبدوره لا يرى عمر العباسي أن المغرب يدعو إلى الحرب، دولة أو شعبا، لأن “المغاربة خاضوا حروبا ويدركون تكلفتها، والرباط الآن تتعامل مع الموضوع بحكمة وصبر، وهو أمر يجب أن يستمر”. لكن كذلك من حق المملكة، يضيف المتحدث “الدفاع عن ترابها، ومواجهة أجواء التوتر التي تحاول البوليساريو خلقه في المنطقة بسبب فشل قياداتها في تحقيق ما انبنت عليه عقيدة الجبهة، أي الانفصال”.
أيّ حلول للأزمة؟
تحتفظ موريتانيا بعلاقات ديبلوماسية مع “الجمهورية” التي تعلنها البوليساريو، ولم تقع بين الجانبين أيّ حرب منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين عام 1979 وانسحاب موريتانيا من جنوب الصحراء الغربية. غير أن موريتانيا تحتفظ كذلك بعلاقات طيبة مع المغرب وتحاول البقاء على خط الحياد في النزاع الذي لم تعد حاضرة فيه كطرف، ما قد يعطيها حظوظا لتلعب دورا كبيرا في نزاع فتيل الأزمة، خاصة أنها أكدت رسميا اهتمامها كـ”جارة لأطراف النزاع بالبحث عن حل”.
وفي الوقت الذي حققت فيه الرباط نجاحات دبلوماسية في الملف بعد افتتاح عدة دول لسفارات لها في الصحراء بتنسيق مع المغرب، يشير العباسي إلى أن حلّ الأزمة لا يجب أن يستثني النظام الجزائري، فهو “راعي الجبهة الانفصالية”. بينما ترفض البوليساريو أيّ حل “خارج العودة إلى مضامين اتفاق إطلاق النار والذي بموجبه تم إنشاء المينورسو”، حسب حديث أبّي بشرايا، معربا عن رفضه لـ” فرض المغرب للأمر الواقع”، متابعاً أن “من كانوا يراهنون أن يستمر الوضع القائم حالياً كوضع نهائي ثبت لهم فشل رهانهم”.
ويدافع بشريا عن غلق المعبر، متحدثا عن أن “الخيار الوحيد الذي يضمن للمنطقة الاستقرار وفتح العديد من المعابر للنشاط التجاري والإنساني هو تمكين الشعب من تقرير مصيره على أساس الاستفتاء”. غير أن المطلب الذي ترفعه البوليساريو بإغلاق المعبر قد لا يظهر حلا واقعيا بالنسبة للمغرب الذي لا يبدي أيّ استعداد للتنازل عن شريان اقتصادي غاية في الأهمية، فالرباط لا تراه منفذا تجاريا فحسب، بل كذلك صلة وصل بينها وبين إفريقيا التي يوليها الملك محمد السادس اهتماما خاصا.
ذكرت القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية المغربية في بيان، أنها أقامت ليلة الخميس/الجمعة (13 نوفمبر)، حزاما أمنيا من أجل تأمين تدفق السلع والأفراد عبر المنطقة العازلة للكركرات، التي تربط المغرب بموريتانيا، في خطوة اعتبرتها جبهة البوليساريو “نهاية” لاتفاق وقف إطلاق النار و”بداية” للحرب.
وقالت وزارة الخارجية المغربية إنه “أمام الاستفزازات الخطيرة وغير المقبولة” لـ “ميليشيات البوليساريو” في المنطقة العازلة للكركرات بالصحراء المغربية، “قرر المغرب التحرك، في احترام تام للسلطات المخوَّلة له”، بحسب وكالة الأنباء المغربية (ماب).
وأشار المغرب إلى أن البوليساريو وميليشياتها، التي دخلت المنطقة منذ 21 الحادي والعشرين من أكتوبر 2020، نفذت “أعمال قطع طرق هناك، وعرقلت حركة الأشخاص والبضائع على هذا الطريق، واستمرت في مضايقة المراقبين العسكريين”.
وشدد المغرب على أن أعمال ميليشيات الجبهة الموَّثقة تشكل “تهديدا حقيقيا لزعزعة الاستقرار، والتي تغيّر وضع المنطقة، وتنتهك الاتفاقات العسكرية وتشكل تهديدا حقيقيا لاستدامة وقف إطلاق النار”، وزاد أن “هذه الأعمال الخطيرة تقوض أيّ فرص لإحياء العملية السياسية التي يرغب فيها المجتمع الدولي”.
وأضاف البيان “أن دعوات المينورسو والأمين العام للأمم المتحدة، وكذا تدخلات العديد من أعضاء مجلس الأمن، ظلت للأسف بدون جدوى”.
وفي اتصال هاتفي من العاصمة الجزائرية مع وكالة فرانس برس، أعلن وزير الخارجية الصحراوي محمد سالم ولد السالك بأن “الحرب بدأت” وأضاف أن “القوات الصحراوية تجد نفسها في حالة دفاع عن النفس وتردّ على القوات المغربية”.إلى ذلك، أفاد بيان صادر عن “الحكومة الصحراوية” بأن “قوات الاحتلال المغربي أقدمت في الساعات الأولى من فجر اليوم على فتح ثلاث ثغرات شرق الثغرة غير الشرعية بالكركرات ولذلك تعتبر الحكومة الصحراوية أن هذا الخرق ينسف نهائيا وقف اطلاق النار” الموقّع بين طرفي النزاع عام 1991 .
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور تظهر أعمدة دخان وخيما محترقة، وأكد مصدر بالجيش المغربي “إن أفراد البوليساريو لاذوا بالفرار عند دخول افراد الجيش المغربي إلى المنطقة وقاموا بعمليات حرق للخيام، وأكد المصدر نفسه أن الدخان لا يعني استعمالا للسلاح أو المتفجرات وإنما ناتج عن حرق متعمد للخيام”. موضحا بأن الجيش المغربي لن يستعمل السلاح الا في حالة الدفاع عن النفس.
يذكر أن الكركرات هي منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي ترعاه الأمم المتحدة والذي أوقف حرباً بين المغرب وجبهة البوليساريو.
ويسيطر المغرب على 80 بالمائة من الصحراء الغربية التي يعتبرها تاريخيا جزء من أراضيه، وقدم مقترح الحكم الذاتي تحت سيادة الرباط. في المقابل تسعى جبهة البوليساريو إلى الانفصال التام عن المغرب وإنشاء جمهورية مستقلة.
ويعد هذا النزاع من أقدم النزاعات في إفريقيا، إذ بدأ عام 1975، ولازالت الجهود الدبلوماسية لإنهائه تراوح مكانها.
المصدر: dw