اول الكلام
رحيل هشام جعيط : عزاء مغربي
.كتب الدكتور حسن طارق سفير المملكة المغربية نصا مؤثرا في وداع المؤرخ التونسي هشام جعيط نشره على صفحة السفارة على الفيسبوك
ومعلوم أن سفير المملكة المغربية في بلادنا مختص في العلوم السياسية ونائب سابق عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية الذي يعتبر تاريخيا حزب المعارض الراحل المهدي بن بركة وشغل حسن طارق المتخصص في القانون الدولي خطة استاذ تعليم عال بجامعة محمد الخامس بالرباط ورئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق بمدينة السويسي ورئيس الجمعية المغربية للعلوم السياسية وهو إلى ذلك صاحب مؤلفات عديدة منها “السياسات العامة بالدستور المغربي الجديد” والمغرب السياسي عام 2009 و “المغرب الاجتماعي 2009-2010″ و”المغرب الاجتماعي ” و”الجهات والنمو” وله صداقات عديدة بتونس وخصوصا بالاوساط الجامعية.
ويشغل خطة سفير لبلاده في تونس منذ فيفري 2019
على عكس العادة، في الثلاثاء الماضي، كان يمكن للعبارة المسكوكة “عزاؤنا واحد” أن تستعيد -على اجترارها- الكثير من المعنى وهي تذيل عبارات الأسى وكلمات الفقد التي خص بها كُتاب ومفكرون وإعلاميون ومثقفون وقراء من المغرب نبأ وفاة المفكر التونسي هشام جعيط.
فعلا كان العزاء واحدا والخسارة واحدة وكان الإحساس بالفقدان نفسه في تونس أو في المغرب أو في غيرهما من الجغرافيات المفتوحة حول قضايا النهوض الثقافي والحضاري.
ازداد هشام جعيط عام 1935، خلال السنة نفسها التي توفي خلالها الطاهر حداد، وعين فيها علي بلهوان أستاذا في الصادقية وأتم خلالها الحبيب بورقيبة إجراءات تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد، وانطلق فيها فرحات حشاد في نشاطه النقابي. كان ذلك في وسط الثلاثينيات القرن الماضي، العشرية السحرية التي مثلت خميرة ثقافية للمجتمعات العربية الحديثة ،و شهدت بدايات ترسخ الحركات الوطنية التحررية، عبر استئناف جذري لأسئلة القرن 19 حول تجاوز التأخر التاريخي، ولعله العقد الذي قد مثل رمزيا الإنطلاق الفعلي للقرن 20 العربي “القصير” (1920/1960)، المليء بأفكار النهضة والتجاوز والاستقلال والوطنية، التي فتح الشاب جعيط اعينه على أحلامها، قبل أن يرافق كذلك خلال سنواته السادسة والثمانين، بما يلزم من ذكاء لامع و معرفة أصيلة محاولات الدولة الوطنية في البناء و التحديث، وإشكاليات الإنتماء والهوية، و قضايا الديمقراطية والعدالة.
ولعل هذا الالتقاء بين التاريخ الشخصي والتاريخ العام والذي انعكس بالتأكيد على طبيعة التزامه الثقافي، قد جعل منه شاهدا كبيرا على كل تحولات وقطائع ومصائر مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
تعود علاقة هشام جعيط بالمغرب إلى المنتصف الثاني من السبعينات، حيث تلقت النخبة الجامعية والثقافية مؤلفه حول “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” بكثير من الانتباه لمغامرة فكرية مختلفة في النظر إلى أسئلة التاريخ والهوية والدولة الوطنية.
سياق الإصدار وخلفيته الثقافية ستجعل من هذا الكتاب لبنة تأسيسية لمجموعة من المشاريع الفكرية المتجاورة مع أطروحته، وخاصة مؤلف عبد الله العروي حول “الايديولوجيا العربية المعاصرة” ومؤلف الراحل محمد عابد الجابري وفاتحه مشروعه “نحن والتراث”.
بعد هذا اللقاء الثقافي المكثف، الذي سيكرس إسم هشام جعيط ضمن خريطة القراءة الفكرية غير القابلة للالتفاف في الأفق الثقافي المغربي، ستشهد بداية الثمانينات أول لقاء مباشر بين الفقيد وبين أبرز المفكرين والكتاب المغاربة ضمن أنشطة ندوة تأسيسية لخلق إطار خاص بمدرسي الفلسفة في الفضاء المغاربي، نُظّمت بمبادرة من الفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي.
سيظل بعدها حاضرا، من خلال إصداراته المتلاحقة، كأحد المراجع الكبرى لكل المنشغلين بقضايا النهضة واسئلة التقدم وتحديات الحداثة.
وستنجز العديد من المشاريع البحثية والأطروحات في الجامعات المغربية حول منجزه الفكري، كما ستشكل محاورته -من بعيد- ومقاربة إشكالياته ومسالك تحليلاته المتفردة جزءا من بنية اشتغال الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، تماما مثلما ستستحضر الكثير من إسهاماته إشراقات لافتة للمدونة الفلسفية المغربية الحديثة.
ولعل هذا ما سيجعله رفقة محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعلي أومليل وآخرون معالم سامقة في سجل المدرسة الفكرية المغاربية التي تبلورت في سياق تفاعلات وقراءات وحوارات ببنية متبادلة، حيث كثيرا ما يذكر هشام جعيط تفاعله مع الكتابات المبكرة لعبد الله العروي، والتي فتحت الفكر العربي المعاصر على آفاق جديدة، تماما مثلما يذكر بكثير من الحنين ما تلقاه من معارف عن طريق جده الذي كان متصوفا “تيجانيا”.
استدعاء هشام جعيط في السياقات الثقافية المغربية كثيرا ما يقترن باستحضاره في صيغة المقارنات المبنية على التكامل والامتداد والاختلاف مع المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي، الذي يقتسم معه الشغف المزدوج بالفلسفة والتاريخ والانتصار الواضح للحداثة دون أي تبسيطة إيديولوجية، مع أصالة عميقة في المقاربة المنهجية.
في مقدمة كتابه الأول الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، سيعبر بشكل شفاف “هشام جعيط الشاب” عن تفاعله مع آراء عبد الله العروي وافكاره التي يصفها بالاتزان والرقة والمتانة، مشيدا بالجهد الفكري المغربي/ المغاربي الذي لا يعادله أي جهد مماثل في المشرق.
هذا التفاعل سيبدو بقوة خلال الفصل الختامي للكتاب المعنون باستراتيجية المستقبل عندما سينتقد محدودية مقاربات التحديث بسبب أزمة الأيديولوجيا العربية المعاصرة من حيث غياب المشروع الحضاري المعبأ وتركيز المثقف العربي على مبدأ العدل دون مبدا الحرية.
إغراء البحث عن التقاطعات ومساحات الوصل وفراغات القطائع، يبدو متحققا كذلك في حالة محمد عابد الجابري، ذلك أن كل من جعيط والجابري اشتغلا في زمن متقارب، لكن بمقاربات متفاوتة في الرؤية والمنهج، على موضوعه الإسلام التأسيسي من خلال تفكيك أثر اللحظة الفارقة التي انبثقت فيها السياسة والدولة من داخل زمن الدعوة والنبوة، إذ بين 1989 و1991 سيصدر على التوالي هشام جعيط كتابه “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” وعابد الجابري “العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته”.
الإغراء ذاته يخص النظر للعلاقة بين جعيط وعلي أومليل أساسا من خلال قراءة الإرث الخلدوني والصيغ متعددة الرهانات لاستعاداته داخل الراهن الفكري العربي، واتفاقهما على ما يقدمه إسهام ابن خلدون من دلائل على قوة ورسوخ التواصل الجغرافي والثقافي بين أجزاء المغرب العربي.
خلال إحدى مشاركاته الفكرية بالمغرب العام 2006، سيساهم في ندوة حول الإرث الخلدوني، نظمها المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء في دورته 12، تزامنا مع الذكرى المئوية السادسة لميلاد العلامة ابن خلدون، سيستفيض هشام جعيط في إبراز دور العزلة الفكرية التي فرضها على نفسه صاحب المقدمة في تجويد منجزه الفكري، وهو ما سيقرأه آنذاك الكثير من الحضور كمديح شخصي لإختيار العزلة النسبية التي أحاط بها جعيط نفسه كنمط في تدبير الحضور العمومي وكمسافة ضرورية تجاه اليومي والسائد والعابر، دون أن تكون قطيعة مع أسئلة المجتمع و قضاياه.
يغادرنا هشام جعيط، ابن “الزيتوني” وخريج “الصادقية” الذي درس في “باريس” وتشبع بالفكر الإنساني من داخل عمق الهوية الوطنية المغاربية العربية الإسلامية التي تبحث عن سبل الانتماء إلى روح العصر وأفق العقل، دون أن تغادرنا أسئلة التقدم والحداثة، لعلنا نلتمس الإجابات الجماعية والمجتمعية والثقافية من أنوار كتاباته.
توفي هشام جعيط، ليلتحق في الأبدية الواسعة برفاقه الموتى- فلاسفة ومثقفون وكتاب – الذين طالما قال إنه لا يحيا إلا بجوارهم .
توفي الرجل لكن أمام كتبه وأفكاره وتحاليله حيوات لامتناهية تتناسل بتعدد القراءات المفترضة لمنجزه العميق.
توفي المثقف التونسي الكبير، لكنه كان قد خلد إسمه ضمن المساهمات الغنية لتونس في الذكاء الإنساني المشترك.