يِتْجُوعِب، عبارة بليغة يستعملها التونسيون لوصف من يدّعي في العلم فلسفة ويهرف بما لا يعرف أو يفتي في كل شيء! ومن المرجح أن يكون اشتقاق الفعل من عبارة «جعبة» بسبب ذيوع جملة يستعملها طلاب المدارس الثانوية بكثرة في فروض الإنشاء يقولون: «فلان في جعبته الكثير من الأشياء» وهي صورة مستعارة من الجعبة التي تزدحم فيها الأقلام الملونة لتعبّر عن الوفرة، لكن هذه العبارة لا تستعمل بهذا المعنى الاّ مع ضمير الغائب فمن المستهجن أن يقول الشخص عن نفسه: «في جعبتي الكثير من الأشياء» لأن معنى هذه العبارة في ثقافة الشارع مختلف عن معناها في ثقافة الإنشاء.
لقد أضحى التجوعيب في السنوات الأخيرة ظاهرة ثقافية واجتماعية محيرة بعد انتشار الفايسبوك وتطور استخدامه من أداة للتواصل إلى وسيلة لنشر الأخبار والتأثير في الرأي العام، فالكتابة في كل المجالات وإنفاق الوقت في إحصاء الجامات والرد على التعليقات أمور تجعل الشخص بمرور الأيام والشهور والسنوات يفقد شيئا فشيئا إحساسه بالأرض التي يقف عليها وينسى حدود إمكانياته الذهنية المتواضعة فيرتدي قناع «الطيب جعبة» رمز التجوعيب في المخيال الشعبي، وهي شخصية ابتدعها الضمير الجمعي عندما كانت هذه الظاهرة نادرة تدعو إلى السخرية، أما الآن فقد جعل الفايسبوك الحمار يرى نفسه أسدا و الفأر يشعر بنفسه ديناصورا.
هذا السلوك لا يختص به جنس دون غيره، بل لعله أن يكون في النساء أكثر منه بين الرجال لميل المرأة بطبعها إلى ضرب من التجوعيب الفطري، وقدرتها باستخدام نون النسوة وحدها أحيانا على فتح كل مستغلق، كما لا يختص بهذا السلوك متعلّم يتباهى بعلمه فهو أكثر شيوعا لدى الأميين والمنقطعين عن الدراسة في الصفوف المبكرة والعاطلين، وأحباء الراب، والمبشرين بالهجرة وغيرهم من سقط متاع التعليم العمومي في أحلك فترات تاريخه. لأن هؤلاء يعتقدون أن الثقافة العامة لا تكتسب في المدارس والجامعات، بل في التلفزيون وفي الويكيبيديا فتجدهم يتكلمون في كل شيء لأنهم يتوهمون أنهم يعرفون كل المواضيع ولهم حلول لكل المشكلات، ولا يحتاجون إلى التثبت والتدقيق أو التأني قبل الخوض في ما يخوضون فلهم رأي جاهز في كل المسائل التي تعرض عليهم، ولا شك أنهم يفعلون ذلك نكاية في العلم والمتعلمين وإمعانا في إذلال المعرفة وابتذالها.
لا شكّ أن من بين أهم أسباب هذه الظاهرة أيضا انهيار منظومة الإعلام التقليدية وانقراض مؤسسات الرّقابة على المصنفات الثقافية والفنية، فقد أصبح كل من هبّ ودبّ يفعل ما يريد وما يحبّ، من يريد أن يمثّل فله ذلك ومن يشتهي أن يخرج فلا أحد يمنعه من ذلك، ومن يحب أن ينشط فلينشط، ومن يريد الأمرين معا فلن يعترض سبيله أحد، دعه يعمل دعه يمرّ، كلهم مبدعون عباقرة مؤثرون، هم قرروا ذلك بأنفسهم ولا حاجة لهم بأن يزكيهم أو يمتحنهم أحد، ولعل وظيفة «الكرونيكور» في برامج «التالك شو» هي التي كان لها الفضل الكبير في إعادة الاعتبار لشخصية الطيب جعبة وجعله بمثابة القدوة للأجيال القادمة أحفاد مفيدة ومن لف لفّهم، لكن التجوعيب في المجال الإعلامي والفني أمر هيّن ومقدور عليه قياسا بالتجوعيب السياسي، لقد جمّعت الجمهورية الثانية تحت رايتها كل العاهات التي ثار الشعب ضدها لكنها نالت بالديمقراطية ما لم تكن تحلم به مطلقا في ظلّ دولة الاستبداد. وهزلت إلى أن سامها كل مفلس وتعلقت همة الطيب جعبة بالجلوس على كرسيّ الرئاسة وحكم البلاد.
سيكتب التاريخ عن شعب تونس أنه أطاح بدولة الاستبداد ليقيم على أنقاضها دولة التجوعيب، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه نسأله حسن العاقبة.