نادر الحمامي يكتب عن الاقتصاد الاسلامي
لا يمكن، في تقديري، الحديث عن “اقتصاد إسلامي” إلاّ في إطار أشمل وأوسع، غدا معروفا تحت مسمّى “أسلمة المجتمع”. وتعني “الأسلمة” وضع حدود دينية لمجال هو في الأصل غير ديني، وقد يكون ذلك المجال اجتماعيا أو سياسيا أو فكريا أو علميا، وعلينا أن نعي أن هذه الأسلمة ليست جديدة ولكنها تبقى في كل الأحوال ظاهرة حديثة انطلقت أساسا في فترة ما بين الحربين أي مع ظهور أبرز تيارات الإسلام السياسي، انطلاقا من حركة الإخوان المسلمين، ويمكن أن نتبين أنّ هذه “الأسلمة” أخذت أبعادا تنظيمية منذ سبعينات القرن العشرين، إذ في تلك الفترة سيتمّ التنظير لما يسمّى “الصحوة الإسلاميّة” التي قامت على اعتبار أنّ الخروج من الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي لا يكون إلا ببناء “مشروع حضاري إسلامي” وبـ “منهجيّة إسلاميّة”، وأنّه لا سبيل إلى ذلك إلاّ بالعودة إلى ما يندرج في إطار ما يسمّى “القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة”. وفي إطار هذه الرؤية العامّة وعلى مدى أربعة عقود على الأقلّ ستنظم الندوات والمؤتمرات بالمئات ويكتب الكتّاب وتؤسّس المجلات، وتنشأ جمعيات ومراكز بحث أخرى وكلّ ذلك بأموال طائلة لتمرير أفكار خادمة لمقولة “أسلمة المجتمع” التي تستند في جانب كبير منها على “الدعاية الأخلاقوية” وعلى مقولة “خدمة قضايا الأمّة” وعلى الهجوم أيضا على كلّ الأشكال الثقافية المعارضة لها برميها بالتفاهة أو الانحلال أو التغرّب أو معاداة الهوية الثقافية الإسلاميّة.
في هذا السياق يمكننا تنزيل مقولة “الاقتصاد الإسلامي” كما يروّج لها في أدبيات تُظهر علنا أو تستبطن الانتماء إلى الإسلام السياسي، إذ أنّ اعتبار الاختيارات الاقتصاديّة ضربا من الأوامر الإلهيّة لا يعدو أن يكون سوى مدخل من مداخل تركيز مقالة “الحاكمية” في بعدها الاقتصادي إلى جانب الأبعاد السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة وغيرها؛ لقد كانت “أسلمة الاقتصاد” واحدة من أفكار أبي الأعلى المودودي في الأربعينات بغاية تعميق ما يمكن أن نعتبره “هويّة إسلاميّة مغلقة” تتمايز بها عن بقيّة المجتمعات. ولذلك فإنّ مقولة “الاقتصاد الإسلامي” لا تعدو أن تكون مقولة إيديولوجيّة بامتياز ولا أدلّ على ذلك في المستوى العملي أنّ الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم ورفعت شعارات العدالة والتنمية الاجتماعيّة لم تتخلّ مطلقا عن تنبنّي اقتصاد السوق في شكله الأكثر وحشيّة، ويكفي أن نقارن بين المقالات النظرية والممارسات العملية البيّنة للوقف بوضوح تامّ بين النظرية والتطبيق وإن لبس ذلك التطبيق لباسا دينيا إسلاميّا. يشكّل مثل هذا الأمر تحويلا للوصف الإسلامي إلى تعبير إيديولوجي فجّ يوجب إيجاد مصطلحات من قبيل “الاقتصاد الإسلامي”.
لقد رفع الداعون إلى اقتصاد إسلاميّ شعارات كثيرة أهمّها أنّ ما يتبنّونه يجنّب المجتمعات الإسلاميّة مساوئ الرأسماليّة التي فشلت وأنّ الحلّ يكمن في تبني حلّ إسلاميّ لافتاته الكبرى إلغاء الربا الذي يرتبط بالنظام البنكي الغربي ويبنون على ذلك مقولات مقاومة الحيف تحقيقا للمساواة. والواضح أنّ مثل هذه الشعارات “الطهريّة” ليس لها أيّ رجع صدى في المستوى العمليّ، ذلك أنّ الصيرفة الإسلامية ومصطلحاتها التي نحتتها من قبيل الإيجار والمضاربة والمرابحة ليست سوى “لعبة لغوية” إذ أنّها قائمة على نظام الفائدة في نهاية المطاف بل إنّها في كثير من الأحيان تكون فيها نسب الفائدة أكبر ممّا هو معمول به في البنوك العاديّة. وغير بعدي عن ذلك فيكفي النظر في تجربة جبر الناس على دفع الزكاة عن طريق أجهزة الدولة على فشل إدماج الأمر الديني ضمن النظام الاقتصادي فقد أثبتت تلك التجربة أنّ المستفيدين لم يكونوا مطلقا من الفقراء والمساكين وإنّما كانوا إمّا من رجال الدين أو ممّن أطلقت عليهم تسمية “العاملين عليها” وهم من موظفي الدولة.