اعتبرني بلال يا أخي | إعادة فهم محمد منير
شاب نوبي صغير، لا يملك في جعبته إلا أربعة ألبومات، وصوت خاص لا يشبه أحد، لا من السابقين ولا المعاصرين، يقف خجولًا في أحد حلقات برنامج استديو ٨٤، معلنًا رفضه الغناء لعبد الحليم حافظ. “أنا بموت في عبد الحليم بس للأسف ماعرفش أغني له”، هكذا قال. رفض الغناء للأسطورة الجماهيرية التي حاول أغلب أبناء جيله السير وراءها واستحواذ نجاحها، كان يرى نفسه وتجربته مختلفَين، لا علاقة لهما بكل من جاء قبله، رغم تقديره وحبه لهم.
لم يحاول محمد منير اقتحام ساحة الطرب والغناء الكلاسيكي، بل سعى عامدًا وبقوة إلى الابتعاد عن كل ما يمكن للمشاهد ربطه بتلك الفترة. لم يغنِّ لأحد من السابقين، لم يشابههم في الأسلوب، كسر قاعدة الملابس الرسمية وظهر للجمهور كأنه واحد منهم، مرتديًا بنطلون جينز وتي شيرت، واضعًا سلك المايكروفون حول رقبته.
اعتبرني بلال
في النصف الثاني من التسعينات، صرّح المطرب محمد الحلو بأنه هو وهاني شاكر وعلي الحجار ومدحت صالح يشكلون نخبة الطرب الأصيل، رغم تأكيده على أن محمد منير مطرب كبير له أسلوبه الخاص المختلف عن الجميع. بعد إدلائه بهذا التصريح، رن هاتف سيارة محمد الحلو ليجد على الطرف الآخر من المكالمة صوت منير الصارخ: “خلاص … إنتم الأربعة اللي ماسكين لواء الغناء العربي يعني؟ الخلفاء الراشدين؟ شتيمة … طب اعتبرني بلال يا أخي!”
قصد محمد منير ببلال مؤذن الرسول بلال بن رباح، لا من زاوية الصوت الجميل، لكن من زاوية اللون والعنصرية التي كانت تمارس ضده. صرح منير في برنامج واحد من الناس بأنَّ مسألة اللون و”الشعر الكنيش” قد عطلا مسيرته الفنية لعدة سنوات. من الواضح أنه كان واعيًا لهذه المشكلة التي خلقت في داخله صراعًا وشعورًا حقيقيًا بالغربة، كانا على الأرجح وراء ولادة الفنان في داخله، ورغبته في تقديم ما هو مختلف.
لكن ما الجديد الذي طارده منير بعيدًا عن النوبة والسلم الخماسي؟ وكيف استطاع أن يضع بصمته الفنية على كل عملٍ أعاد تقديمه؟ الجواب ليس ثابتًا، إذ أن كل مرحلة من النجاح والشهرة قد دفعت منير إلى إعادة فهمه وتعريفه لذاته، وبالتالي منحته دوافع جديدة للبحث عن أصوات ومغامرات جديدة. إذا قسمنا تجربة محمد منير إلى أربع مراحل، الثمانينات والتسعينات والألفينات حتى ٢٠١٠ وأخيرًا منذ ٢٠١٠ وحتى اليوم، ستتكون لدينا نظرة أفضل عن تقلبات ومصير بلال الأغنية المصرية الذي عاش في منير.
[metaslider id=2149]
أشكي لمين؟
في نهاية السبعينات، قدم بليغ حمدي أغنية أشكي لمين للمطرب الصاعد وقتها محمد الحلو. أعجب محمد منير بالأغنية، رأى في الكلمات مساحة أكبر من التي يوفرها توزيع بليغ، فهذه الأغنية بالنسبة لمنير، كما قال في أحد البرامج: “هي إحساس ومعاناة وتجربة وانصهار مع الكلمة.” طلب منير من الحلو أن يستأذن بليغ لمنحه الأغنية، ووافق الأخير. ابتعد منير في نسخته عن التوزيع الشرقي، تخلى عن الكمان والآلات الشرقية، وذهب إلى موسيقيين يشابهونه بالعقلية ويشاطرونه شعور الغربة. كان الجيتار والبيانو والدرامز، ووراءهم الثلاثي عزيز الناصر وفتحي سلامة ويحيى خليل، قادرين على جعل الموسيقى تتفاعل أكثر مع الكلمات، لا أن تكون خلفية فقط لصوت المغني. اختفى الكورس الذي كان يصاحب الحلو، وجاء صوت منير منفردًا وكأنه شكوى شخصية، ثم ترك لفرقة يحيى خليل إنهاء الأغنية، هذه المساحة التي سيستغلها بعد سنين لتقديم فرقته في نهاية الحفلات، ربما ابتداءً من منتصف الألفينات. نزَّل منير الأغنية في ألبوم شبابيك عام ١٩٨١. اليوم، وبعد ٤٠ عامًا، لم يسمع أحدهم الأغنية من محمد الحلو، لم تعلم غالبية الناس أنها أغنية محمد الحلو من الأساس.
على مدار الثمانينات، قدم محمد منير سبعة ألبومات، كان شبابيك ثالثهم، وعلَّم بداية مرحلته مع يحيى خليل. تبع شبابيك بـ اتكلمي وبريء ووسط الدايرة وشيكولاتة، وتزامن صدور هذه الألبومات مع ظهور رومان بونكا وفرقة لوجيك أنيمال. اعتمد منير في تلك الفترة على تقديم ألحان نوبية ذات سلم خماسي، وإعادة توزيعها وتقديمها بشكلٍ معاصر، مستغلًا حداثة السلم الخماسي والألحان النوبية على الأذن المصرية، كما في أغنية الليلة يا سمرا التي عرفت على يد محمد حمام، وليست من تلحين أحمد منيب كما جاء في غلاف الألبوم. كذلك كان منير يتعاون مع شعراء أصدقاء له مثل عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب وعوض بدوي ليكتبوا له كلماتٍ مصرية معاصرة لألحانٍ نوبية.
لم يقف محمد منير خلال هذه الحقبة عند البحث داخل السلم الخماسي، نوبي كان أو سوداني، واتسع بحثه خارج حدود مصر، خاصةً في الموسيقات الإثنية وموسيقات الأقليات. قال في أحد حوارته عام ١٩٨٥ إنه يمثل مصر في مهرجان قرطاج، وإنها فرصة للاستماع إلى موسيقات مختلفة لـ ناس الغيوان وجيل جيلالة. إلى جانب ذلك، كانت صداقته مع رومان بونكا عاملًا مهمًا لاكتشاف موسيقات جديدة وعازفين جدد.
من وحي كل ذلك، قدم محمد منير إعادة توزيع للأغنية المغربية حكمت الأقدار في ألبوم وسط البلد عام ١٩٨٧. في غلاف الألبوم، كتب أن الأغنية من كلمات وألحان الفرقة الألمانية Dissidenten، والتي كان يغني معها المطرب المغربي حميد بارودي، لكن مع البحث يتضح أن الأغنية في الأصل للفرقة المغربية لرصاد، وتحكي قصة مدرِّس يهاجر بعيدًا عن مدينته. في نفس الوقت، قررت الفرقة المغربية لمشاهب جمع جزء من أغنية حكمت الأقدار مع جزء آخر من أغنية جابتني لك الأقدار لفرقة لرصاد أيضًا، وصناعة أغنية جديدة، ومن هنا نجحت الأغنية في ثوبها الجديد، وقدمتها فرقة Dissidenten ثم قدمها منير، ليكون أول الفنانين المصريين اقتحامًا لموسيقى الراي وشمال أفريقيا، حتى قبل نجاح شاب خالد ورفاقه في مصر.
الكبير كبير
ثبّت محمد منير قدمه خلال الثمانينات، أثبت أنه ليس فنانًا نوبيًا يحمل حقيبة تراث على ظهره ويتجول بها، هو فنان يصنع تجربة جديدة، يقدم موسيقى وشكلًا فنيًا يؤهله لمكانة أكبر بكثير مما كان يتصور أحد في ذلك الوقت – بما في ذلك منير نفسه. مع بداية التسعينات، أصبح منير مهتمًا بصناعة أغنيته الخاصة، فابتعد بعض الشيء عن إعادة توزيع الأغاني، وانخرط بتجربة مهمة مع أحمد فؤاد نجم في محاولة للبحث عن كلمات جديدة، مستغلًا عدم انتشار أغاني الشيخ إمام بشكلٍ كبير وسط الأغنية التجارية. بدأ منير بتقديم أغاني كتبت للشيخ إمام، مثل: يا اسكندرية، بلح ابريم، توت حاوي، يامه مواويل الهوى، لكنه لم يحافظ على لحن أيٍ منها، وقدم لهم ألحان وتوزيعات جديدة. ربما كان منير يرى محدوديةً في ألحان إمام، وعدم قدرتها على الاتساع للتوزيعات التي كان يفكر فيها، لذا فقد أعد لإعادة إنتاجها فريقًا ضم الملحنين عبد العظيم عويضة وحسن أبو السعود وأحمد منيب وحمدي رؤوف كملحنين، والموزعين مودي الإمام وطارق مدكور.
بعد هذه النجاحات، أصبح محمد منير أكثر ثقةً بنفسه، وأكثر هدوءًا. لم يعد أسير تصنيفه على أنه نوبي، وبدأ بالغناء أكثر باللغة النوبية. في نفس الوقت، أصبح قادرًا على غناء الأغاني القديمة بأسلوبه وشخصيته دون أن يقع في فخ المقارنة، ربما ذلك ما شجعه على أن يستعيد أغاني لأصوات نسائية أكثر بكثير من الأصوات الرجالية، خاصة في الأغاني المصرية. انجذب منير مثلًا للحن أغنية يا حبيبي عودلي تاني، والذي ألفه منير مراد لشادية على السلم الخماسي، لتؤديه في حفلٍ تحيةً للشعب السوداني. سجل منير الأغنية في ألبومه من أول لمسة الصادر في ١٩٩٦، كانت وكأنها كتبت له في الأصل. عكس نسخة شادية، حل صوت منير الرجالي النوبي المتمرس بارتياح أكبر على الخماسي، بينما ساند منير كورس نسائي – بدل الرجالي الذي كان يساند شادية – وأخذن بالترنم بآهات على خلفية السلم الخماسي. بدأ منير الأغنية من الجملة الثانية: “اللي راح من عندي عندك راح ما جاني”، وأضافت هذه التفصيلة الصغيرة بعدًا آخر للأغنية، فأصبح المستمع مشدودًا، يبحث عن الناقص في الأغنية / القصة بعد أن حذفت الجملة الرئيسية.
أصبح “الكبير كبير يا محمد يا منير” الهتاف الرسمي للحفلات بدايةً من الألفينات، خاصة مع بدء منير حفلات الأوبرا التي عرف الجميع مواعيدها المحددة مسبقًا. كانت هذه الفترة من أكثر فترات منير انتشارًا، من بداية الألفينات وحتى انتهاء حفلات الأوبرا وبدء ثورة يناير. بدأ منير يطمئن للنجاح ويجني ثماره، وأصبح قادرًا على غناء ما يحب.
في حقبته الثالثة هذه، تحرر محمد منير وانطلق، أعاد توزيع كل ما يحب، فكانت أنا بعشق البحر ولولا السهر لنجاة الصغيرة، وحكايتي مع الزمان لوردة، وأغنية ليلى جمال شيء من بعيد، وآه يا اسمراني لشادية، جاءت التوزيعات جديدة ومعاصرة، من الثنائي أوزان ومراد 1 إلى رومان بونكا وأشرف عبده وحميد الشاعري. كما لم يتوقف منير عند الأغاني المصرية، بل حاول الاشتباك مع كل التجارب الموسيقية المحيطة بنا، فكان الفلكلور الأردني في أغنية يا طير يا طاير، والتي غناها لأول مرة المطرب الأردني اسماعيل خضر، ومع الجزائر وأغنية إمبارح كان عمري عشرين للمطرب الجزائري الهاشمي قروابي وكلمات وألحان محبوب باتي.
علم منير أن الإيقاعات الجزائرية ستلقى رواجًا في مصر، فجعلها الأغنية الرئيسية للألبوم، وأصبح هذا تقليده خلال الألفينات، يجعل الأغاني الرئيسية في الألبومات إما جعفرية 2 مثل في عشق البنات، أو سودانية مثل قلبي مساكن شعبية، أو جزائرية. لم يتردد منير خلال المرحلة إزاء الغناء بلهجة غير مصرية، وأعاد تقديم لحن كلاسيكي للـهادي جويني في ٢٠٠٨، كما أعاد توزيع أغنية غير مشهورة لصباح مع الأخوين رحباني.
بلال أم خامس الخلفاء؟
إذا كانت المرحلة الثالثة في مسيرة منير هي المرحلة الأهم، سواءً من حيث النجاح والشهرة أو من حيث ترسيخ وإتمام مشروعه الموسيقي، فكانت المرحلة الرابعة التي ما زلنا فيها، هي الأسوأ. مع بدايات ٢٠١٠ ثم ثورة يناير، وصدور الألبوم الأسوأ برأيي في مسيرة منير، أهل العرب والطرب، يتضح لنا التخبط وعدم اتضاح الرؤية، الرؤية ذاتها التي من خلالها استطاع منير سابقًا أن يخلق عالمًا وجمهورًا خاصًا به وحده. جاءت الأغاني التي تم إعادة توزيعها في هذه الفترة غير واضحة وضائعة، من حارة السقايين لمنير مراد وشريفة فاضل والعيون لماهر العطار وألحان عمار الشريعي، إلى يا أبو الطاقية الشبيكة من التراث النوبي. لم يضف منير شيئًا على هذه الأغاني، ولا حتى في أغانيه التي أعاد توزيعها، حيث لم تجد في عنيكي غربة وغرابة وافتحوا يا حمام نصيبًا أفضل من النجاح.
أعتقد أن محمد منير قد فقد في هذه المرحلة العوامل التي أدت قبلًا لنجاحه، من الشغف بالموسيقى وصناعتها والعثور على ما هو معاصر وجديد فيها، إلى تقدمه بالسن ومرضه وضعف صوته وإنتاجيته الفنية، انتهاءً بالثورة والأحداث السياسية التي لم يعلق عليها أو يبدي تأييده لها ولو بشكلٍ مستتر، ما أثر بالطبع على تقبل أعماله الأخيرة من الشباب، عدا عن كونها لا تليق بمسيرته الفنية عمومًا.
في ٢٠١٣، أطل منير علينا بتجربة مفاجئة: محمد منير يغني لأم كلثوم. عند سماعي الخبر، والذي ذكرني بأدائه لجزء صغير من بلاش تبوسني في عينيا لعبد الوهاب في ٢٠٠٤، أخذت أتخيل ما يمكن لمنير أن يقدمه عندما يقرر الغناء للست، هذه الأماكن التي طالما منع نفسه من الاقتراب منها. الحزين في أغنية أم كلثوم أنها كانت على طريقة البلاي باك 3، حيلة أفقدت منير الكثير من خصوصيته. قبل قرابة ثلاثين عامًا من أداء هذه الأغنية، رفض محمد منير غناء عبد الحليم، لكنه خلال الأعوام الماضية أدى عدى النهار لحليم، عدوية وقمر اسكندراني لمحمد رشدي، ساعات لصباح ويا بيوت السويس لمحمد حمام. بدون نقطة تحول واضحة، قد يبدو أن بلال قد تحول إلى خامس الخلفاء الراشدين الذين صرخ عليهم يومًا ما، لكنه وصل إلى هنا لا عبر تقليدهم والسير على خطاهم، بل على العكس، عبر شق طريقه الخاص، محاكاة لا أحد، والاختلاف عن الجميع باللون والمكان، بالصوت والمشروع، وفي خلفية أغانيه الجديدة كما القديمة، لا يزال بإمكاننا سماع صوت منير يردد بفخر: حقًا، أنا بلال الأغنية المصرية.