الحمدو لله…..بقلم فتحي بن الحاج يحي
في ماي2012 نشرت المغرب وموقع نشاز مقالا بعنوان”الحمدو لله” لفتحي بن الحاج يحي مؤلف كتاب”الحبس كذاب والحي يروح” وعلى الرغم من مرور ست سنوات على المقال فإن القراءة التي قدمها فتحي بن الحاج يحي لتونس وسياسييها ومواطنيها تظل جديرة بالانتباه
في ما يلي نص المقال الذي نعيد نشره بموافقة من كاتبه
تعوّدنا نحن التّونسيّين على التلفّظ بعبارة “الحمدولاه” كنوع من معاينة مصيبة حلّت بنا إلى درجة كلّما سمعنا معها أحدا ينطق بها إلاّ وسارعنا بصفة لا إرادية للسؤال : “يا خُويَا مَاوْ لاَبَاسْ ؟”.
يُحكى عن كهل تونسي، إيطاليّ الأصل، مسيحي الديانة، ينادونه “نينو”، يسكن حذو جاره محمّد، الغنيّ عن التعريف من حيث الديانة لعلاقة بيّنة بين الدّال والمدلول لا تحتاج تأويلا.
قامت زوبعة ذات يوم معلوم فرَحَلت بالدّاعي وما كَسَب ولم تُبق شيئا من بيت محمّد المتواضع فهرع إليه صاحبه “نينو” سائلا عن أحواله. وجده مذهولا أمام هول الكارثة فواساه قدر ما تيسّر له من زاد لغوي متواضع في لغة الضّاد، ومحمّد يعدّد له حجم الخسائر من سقف انهار بنيانه، وحيطان استوت بالأرض، وأدباشِ عُمْرٍ صارت هباء منثورا… خاتِمًا مَرْثِيَّتَهُ بـ”الحمدواللّه” على كلّ حال.
نينو سجّل العبارة الأخيرة في ذهنه كما فهمها من خلال ثقافته المسيحية المحدودة بطبعها (وإلاّ ما استلزم الأمر إنزال ديانة ثالثة لاستكمال ما لم يكتمل ولختم الرّسالة)، ظلّ يردّدها في خاطرته وقد حسبها تلخيصا لعُصارة هول الكارثة، وعاد في انتظار الزّوبعة التالية التي ستأتي، وفق ما تقتضيه مقوّمات الحكاية، على جزء يسير من مسكن الطلياني، وتصيبه ببعض أضرار لا علاقة لها بحجم ما لحق بصاحبه المسلم.
وطبعا جاء محمّد ليعود صاحبه عملا بتأكيدات محمّد الآخر، نبي المرسلين، في باب حسن الجوار، ولا ندري إن كان “نينو”، يوم جاء صاحبه، فعلها من تلقاء نفسه أو هو الآخر عملا بتوصيات عيسى ؟
قال “نينو” وهو يكاد يعتذر عن غياب العدل بالقسطاس : جاءت خفيفة يا صاحبي، انهار من السقف جزء وسلِمت أجزاء… ثمّ سكت برهة وأضاف، وهو على نيّاته وطيبة سريرته، : “شْوَيَّه بَرْكَه لا الْحَمْدُولاَهْ!”.
يخال لي أحيانا بأنّ أحوالنا هي إلى قولة “نينو” أقرب. في كلّ مرّة يطرأ حدث وتحتدّ الأوضاع بما ينبئ بالانفجار ثمّ تنفرج فجأة في انتظار المجابهة القادمة. هكذا عشنا منذ الأيّام الأولى التي تلت 14 جانفي. يلتقي السلفيون بالعلمانيين في خضمّ مظاهرات عارمة فتتشنّج الأعصاب وتشرف الأوضاع على نقطة اللاعودة لتقف عند اعتداءات لفظية وجسدية يحسدنا عليها الإخوة في ليبيا ومصر واليمن وسوريا. ويُخفض العلم الوطنيّ حدادا على إسلام لا يتعرّف أغلب التّونسيين على أنفسهم فيه فتهتزّ البلاد بأسرها ثمّ يسلّم الجاني نفسه بعد مفاوضات مع أعرافه وضمانات لطيّ القضية في ذاكرتنا القصيرة. ويحمى الوطيس في الجامعة حول قضية النّقاب فتشغُل الرأي العامّ صباحا مساء قبل أن تغطيها قضية شهداء الثّورة وجرحاها، ومسيرة الشباب القادم من سيدي بوزيد وأنحاء أخرى، ومعركة الاتحاد والحكومة قبل الشروع في المفاوضات، والاعتداء على الفنانين أمام المسرح البلدي، والنّداء علنا بالقتل من قبل المدرّب الوطني لفرق الإرشاد والأئمّة في وزارة الشؤون الدينية قبل أن يعبّر عن استعداده تقديم الاعتذارات لسوء الأحوال الجويّة ويتراجع ثانية، وصولا إلى منع التظاهر بشارع الحبيب بورقيبة وما ترتّب عنه من استعادة البوليس هيبته أمام “البهيّم القصيّر” الذي لا يحمل سيوفا ولا رايات سود ولا يهدّد بخرابها إن اعتُدِيَ على واحد من أفراده أو أوقف أحدهم لحمل سلاح أو سيطرة على جامع أو قرية، ثمّ يأتي يوم غرّة ماي، عيد الشغل ليعيد المياه إلى مجاريها ويظهر من جديد مستوى تحضّر شعبنا وبوليسنا وسياسيينا.
أي أنّ تعبيرا كتابيا من درجة الابتدائي في وصف يوم 20 مارس ثمّ 9 أفريل فغرّة ماي، سينتج ما يلي: أهدى المواطن وردة إلى عون الأمن ففرح بها فرحا شديدا وانهارت الدّموع من عينيه فاقتلع علما من بناية الوزارة وأهداه بدوره إلى المواطن الكريم وتعانقا الاثنان عناقا مؤثّرا وصار الواحد يقول للآخر أنا أحبّك أكثر حتّى تخاصما فغضب البوليس وأطلق اللاكريموجان فدمعت عينا المواطن فضرب البوليس بحجر وجُرح من جُرح ثمّ عادا بعد أيّام وتباوسا مجدّدا دون نسيان الورود والأعلام…في انتظار موعد قادم لا محالة.
هكذا نشارف في كلّ مرّة على “الحمدولاه” ونخرج منها سلامات في انتظار الحمدولاه المقبلة، و في الأثناء تتكوّن لجان التحقيق للنّظر في هل أنّ زيدا هو الذي ضرب عمرا لتستقيم الجملة العربية أم أنّ المفعول به حلّ محلّ الفاعل في هذه المرّة فكان لا بدّ من إقامة العصا لتقويم النّحو والصّرف حفاظا على بنية الهويّة، ونظلّ نحن ننتظر نتائج البحث إلى يوم يبعثون أو قد تطلع علينا التّقارير بأنّه لا وجود لعمرٍ ولا لزيدٍ وأنّ الحكاية مجرّد عركة بين سعد ومسعود فطلع سعد اللّه براء.
وفي الأثناء، أيضا، تشتغل حركة النّهضة الماسكة بمقاليد الحكم في البلاد ليلا نهارا لاكتساح المناطق التي عافت الحداثة ولم تر منها سوى تسلطية الحكام، وإثراء أقلية، وتفضيل مناطق على أخرى، وأحياء راقية مقابل محتشدات سكنية، وإقصاء عن الشأن العامّ، وبوليس يتحكّم في الرّقاب ويرقب سكنات العباد، وسجون وتعذيب لأعداد مهولة من المناضلين وغير المناضلين ألخ…
فهي تعمل لاكتساح البلديات في كلّ مكان، وتعيّن المعتمدين والولاة من أتباعها، وتتسرّب إلى قلب جهاز الدّولة والإدارة، وتجهد في تركيع الإعلام العمومي وترهيب الإعلام الخاصّ، وتمويل الجرائد الجديدة الموالية لها في محاولة منها للسيطرة على المشهد الإعلامي الخارج عن إرادتها حاليا، وزرع فروعها ومقراتها في أحياء الشعب تاركة المنارات والمنازه والضاحية الشمالية المتيسرة لأهلها بل حتى إنّ لها موطئ قدم في هذه الأماكن فضلا عن الجوامع والمساجد المنتشرة في البلاد بنسبة جامع لكلّ ألفي مواطن إذا ما اعتمدنا قسمة بسيطة لأعدادها المقدّرة بخمسة آلاف مسجد مقابل العشرة ملايين ساكن، نساء ورجالا وأطفالا ورضّعا.
هذا وجه النّفاذ إلى جهاز الدّولة أمّا الوجه الأهمّ فهو الاشتغال على الذّهنيات وكسب ميولات التونسيين وتعاطفهم. فلحركة النّهضة في هذا المجال أسبقية أنتولوجية بمعنى أنّ خطابها وعقليتها وإيديولوجيتها محفورة في الخام السوسيولوجي لأغلبية المجتمع التونسي الذي أربكته الحداثة ثمّ العولمة وتبعاتها على الضفة الغربية للمتوسّط وكامل البلاد الإسلامية إضافة إلى الجاليات المسلمة في بلدان الغرب. ذكور العرب أقرب من غيرهم إلى استنفار الفحولة والرّجولة في نفوسهم، وعندما يقدَّم خطاب الهوية والاقتداء بالسّلف الصّالح يحتفظون منه بشكل خاص بقوامة الرّجل على المرأة، وإعادة ضبط الأدوار التي لخبطها الزّمن الحديث، وأشياء أخرى تتشربّها العقول ولا علاقة لها تذكر بمفاهيم الحرية واحترام الآخر في أن يكون على ما يريد أن يكون عليه، ولا قرابة لها بكسر القيود على العقول والخروج من دائرة المحرّم والمحلّل، والمنكر والمباح وفتاوى العلماء الذين لا صلة لهم بآينشتاين رغم اشتراكهم معه في صفة العالم.
أحد السياسيين قال بأنّ أعدادا كبيرة من التّونسيين يشعرون بعقدة ذنب تجاه حركة النّهضة التي قدّمت آلاف المساجين في زمن كان فيه النّاس سكوتا ولم تتجاسر فيه سوى قلّة على الكلام ومواصلة النّضال في ظروف يغلب عليها الإحباط، والتسليم بالأمر المقضي، ومسايرة التيار، والخنوع، والتصفيق. وفي هذا الرأي بعض وجاهة وجانب من تفسير وزنها الذي يقاس إلى حدّ ما بمعاقبة الذّات مع التذكير بأنّ القلّة النّاشطة كانت تغلب عليها أطراف من غير الاتّجاه الإسلامي وهي ذاتها التي يشار إليها اليوم بالعلمانية والحداثية والمارقة وتجنّد لها الميليشيات لمنعها من الاقتراب من النّاس في أحياء البلاد ومدنها ألخ…
تتحدّث الإحصائيات عن حوالي العشرين ألف إسلامي بمختلف مشاربهم ممن عرفوا السجون والتعذيب والتنكيل زمن بن علي وبورقيبة علاوة على الآلاف المؤلّفة من العائلات والأقارب الذين طالهم القمع بشكل مباشر أو غير مباشر على امتداد مناطق البلاد دون استثناء تقريبا. هذا معطى يسمّى “وجعا” ويسمّى “ألما” أو “معاناة” لا يعرف سرّه سوى الذي عاشه في لحمه ودمه، وهو معطى من المفترض أن يتجاوز دوائر السياسة ولعبة النّفوذ ومعركة التنازع على السلطة ولكنّه يصرّف اليوم ضمن هذه المستويات جميعها مضافا إليها دائرة السيكولوجيا وما تختزنه النّفس من غضب وشعور بالمهانة والعيش على هامش المكان والزّمان، ثمّ يستجيب القدر فجأة وتدور عجلة الزّمان ليجد ضحايا الأمس أنفسهم أسياد الحاضر وأصحاب الدّولة فتتغيّر المشية وسط الحيّ، وتتبدّل اللّهجة التي تصبح مسكونة بعقلية المسؤول على الطريقة التقليدية، ويزاح رئيس الشعبة القوّاد، والعمدة الصبّاب، والمعتمد الغاشم، ليُملأ الفراغ فجأة بوجوه جديدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتتناحر فيما بينها على إمامة الجوامع تقرّبا للّه (وللسلطة بالمناسبة) وتعمل على تجييش العواطف باسم الدين تحسبا لانتخابات قادمة تمنحها فسحة سنوات خمس لإحكام قبضتها على البلاد.
والمسألة أعقد من هذا إذ تتداخل فيها أطراف داخل النهضة لها من الإدراك بما يكفي لتقدير متطلبات العصر، وموقع البلاد من محيطها العالمي، وخطورة اللّعب على أوتار الدين والأيديولوجيا لكنّها محكومة، إلى حدّ بعيد، بثقل قاعدتها الشعبية وعدد من رموزها السلفية من حيث بنيتها الفكرية وآليات تفكيرها في أمور الدين والدنيا. وما معركة البند الأوّل من الدّستور سوى تعبير من تعبيرات الجدلية القائمة صلبها. وقد يرى البعض أنّ الفارق الوحيد بين هذا الطرف وذاك لا يتعدّى الاختلاف حول إستراتيجية الأسلمة بين متهافت ومتأنّ.
وأيّا كان الأمر فلا مناص أيضا من الحديث عن الطّرف الآخر من معارضة تجهد في لمّ شتاتها فلا يزداد يوم إلاّ ونسمع بانقسام جديد في صلبها والحال أنّه ما من واحد من أطرافها لم يصرّح بضرورة التوحيد وواجب التجمّع حتى يخال للملاحظ بأنّهم اتفقوا على الاعتصام…بحبل اللّه جميعا ولكنّهم تفرّقوا عن أيّ الحبال يشدّهم إلى بعضهم البعض كالبنيان المرصوص.
خارج دائرة السياسة ومعارك النّفوذ والحريات وكبرى الشعارات تواصل الحياة مسارها : وجه البلاد والشارع بصدد التحوّل تدريجيا إلى حلبة تجتاحها يوميا عقلية الوصاية على الغير، وعلى النساء والبنات بشكل خاصّ. وسائل النّقل العمومي، والأحياء والشوارع، والمدارس والمعاهد تشهد عودة الذّكر بشكل ملفت للنّظر وكأنّ في بعض الثّورة ثأر بالتقويم الهجري لرجولة مفقودة. والحيز الضّيّق الذي افتكّته المرأة على مدى الخمسين سنة المنقضية ما فتئ يتقلّص ويضيق لا سيّما وأنّ أعدادا كبيرة من النّساء قد استبطنّ هذه العقلية لأسباب يجدر تناولها بالعمق الذي يتجاوز التفسيرات السياسية البدائية التي قدمت هنا وهناك، ومحاولة فهم الأسباب المعقّدة التي تقف وراءها من قبيل عودة المكبوت واحتماء الفرد بالجماعة طلبا للطمأنينة أمام تيه الحرية وأرقها ووحشة الفرد كلما حمل مصيره على كفّه.
أحد آخر القرارات، إن صحّ الخبر، هو رصد بضع مئات من المليارات لتعويض المساجين السياسيين مقابل ما تعرّضوا له من حرمان وتنكيل في السّجون ووفق سلّم ضُبط، على ما يبدو، بـ 20 مليون من المليمات لمن سجن دون الخمسة سنوات، و50 مليون لأصحاب ما بين الخمسة والعشرة سنوات، و75 مليون لما فوق. رفيق من زمن السجن وجدته يتحسّر أسفا ويسبّ الحاكم القديم الذي أطلق سراحه شماتة قبل شهرين من بلوغه الخمسة سنوات، قال “زعمة يْخَلِّيوْني نْكَمِّل عندهم ها الشهرين؟”.
لست أعلم الحكمة من هذه القاعدة الحسابية، ولا أعرف ماذا سيكون حظّ الأنثى من حظّ الذّكر في تجارة الألم والمعاناة.
ربّما قد يُعلن سجناء النّهضة والسلفية تخليهم عن هذه التعويضات لفائدة المجهود الوطني، فما من مرّة كتب أحدهم أو تحدّث عن تجربته السجنية إلاّ وكان الكلام عن إعلاء قيم الحقّ والذّود عن راية الإسلام وهلمّ جرّا من حرارة الإيمان وكسب الآخرة. ولعلمي فإنّ اللّه لا يدفع كاش وإلاّ لما استقام مفهوم الآخرة فضلا على أنّه لا يجازي بالدينار التونسي، فيما أعتقد، لانخفاض قيمته نسبةً إلى الدّولار واليورو، وأهل مكة والمدينة وتُقاة الخليج أدرى بذلك ولكم أن تسألوا القرضاوي في هذا الشأن طالما هو نازل بين ظهرانينا… وعلى ظهورنا.
عندما أعلن عدد من مساجين اليسار رفضهم هذا الإجراء سرعان ما تحرّكت الماكينة النّهضوية لتكشف مرّة أخرى عن مؤامرة جديدة تحاك ضدّهم في الظّلام لحرمانهم من قبض فاتورة النّضال. أحد قياديهم رأى في مبدإ التّعويض بعدا نضاليا صالحا للأجيال المقبلة التي قال عنها بأنّها ستتشجّع أكثر على مقاومة الدّكتاتورية أيّا كان مأتاها عندما ترى بأنّ تضحياتها لن تذهب سدى، بمعنى أنّ النّضال بقدر ما يتحوّل إلى استثمار على المدى القصير أو المتوسّط يتحوّل إلى قدوة للغير ويكون أنفع من نضال ينتهي بـ “ينوب اللّه” أو “كلّ شيء بثوابه” وهو المفترض أن يكون الأقرب لحركة ذات مرجعية دينية.
صحيح إنّ الدّولة مطالبة بإنصاف عدد من الحالات الاجتماعية المأساوية من أطفال حرموا من آبائهم بحكم وفاتهم تحت التعذيب، وطبيعي أن يتوفّر لأعداد من المساجين الذين قبعوا سنوات طوال في السجن حقّ الرّجوع إلى عملهم وتدارك ما فاتهم في سلّم الوظيفة قياسا بنظرائهم، وأن يُفسح المجال أمام المنقطعين عن دراستهم للعودة إلى التعليم، وأن يحظى من لحقتهم أضرار بدنية وإعاقات بحقّ المعالجة المجانية… أمّا أن تعالج المسألة بوضع معايير “موضوعية” صالحة في نفس الوقت لمن صار اليوم وزيرا ولمن بقي خارج دورة الحياة فالأمر يصبح من قبيل تحويل النّضال من فعل إرادي يختاره الفرد طواعية ليجازف بحريته بوازع التزام حرّ وواع يعرف عواقبه مسبقا، وفعل محمَّلٍ بمعنى وجودي، إلى نوع من التأمين على حوادث الطرقات أو منحة شيخوخة، علاوة على الوجه الآخر للمسألة وهو تعميق ثقافة التسوّل في النّفوس وتواصل عقلية التعامل مع الدّولة كدولة مانحة نستجديها صباح مساء والحال إنّ الثورة قامت على شعار الكرامة قبل الخبز حسب ما فهمته، على الأقلّ، من عدد من شعاراتها الكبرى.
قد يكون من الأجدى، من باب حفظ الكرامة، فتح سجلات البوليس السياسي وإقامة متحف في أقبية وزارة الداخلية يتضمّن أسماء الذين طالهم التعذيب منذ الاستقلال وساهموا كلّ بقدر ما استطاع في مقاومة الاستبداد، وعرض الأدوات والطرق المستعملة، والتأريخ لتلك الصفحات الحالكة من تاريخنا بشتى الوسائل والوسائط كما فعلت ألمانيا الشرقية مثلا حين حوّلت مبنى البوليس السياسي “الستازي” إلى معلم من هذا النّوع لما في ذلك من نفع على البلد في استعادة ذاكرته ولما قد يوفّره من ربّ مناعة ضدّ تجدّد المأساة.
إنّ قضية مثل هذه تثير مسألة المعنى. ويجدر بالمعنى ألاّ يتحوّل إلى دينار غير قابل، بطبعه، للتحويل.