عبد الفتاح مورو : الإقصاء أكبر خطر يهدد الانتقال الديمقراطي
عربي21 –
عبد الفتاح مورو نائب رئيس البرلمان ونائب رئيس حزب “النهضة” في تونس، شخصية سياسية وثقافية إسلامية معتدلة ومثيرة للجدل، تؤدي دورا في الصف الأول في تونس والدول العربية والإسلامية منذ حوالي 50 عاما.
تخرج عبد الفتاح مورو من كلية الحقوق من الجامعة التونسية العصرية قاضيا، ثم أصبح محاميا، وقد تأثر منذ صغر سنه بجار عائلته العلامة المناضل الوطني، والزعيم السياسي النقابي، الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، فارتدى منذ الـ 16 من عمره ملابس مشايخ الزيتونة، وأصبح مورو من أشهر خطباء الجوامع والمنابر الإسلامية التونسية، قبل أن ينخرط في العمل السياسي ويشارك في تأسيس الحركة التي أصبحت تسميتها في 1981 حركة الاتجاه الإسلامي، ثم منذ 1988 “النهضة” بعد أن اشترط قانون الأحزاب التونسي عدم اعتماد أي تسمية دينية أو لغوية أو عرقية للأحزاب.
في الجزء الثاني من حديثه لـ “عربي21”، يتحدث مورو عن التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه الإسلاميين في تونس، ومجمل حركات التغيير التي تبوأت الحكم في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي.
وهذا هو النص الكامل للجزء الثاني من الحوار:
س ـ السؤال الكبير الذي يؤرق التونسيين والمراقبين بسبب تعثر مسار التغيير وتضارب بعض القرارات والمواقف والممارسات: من يحكم في تونس؟ المدنيون أم الجيش أم البوليس أم بعض لوبيات المال والأعمال؟
ـ يحكم تونس سلطات سياسية تنفيذية وبرلمانية منتخبة وشرعية. لكن الإدارة التي لم تتغير عموما بسبب كثرة العراقيل والمتدخلين.
يضاف إلى ذلك، أن الطبقة السياسية “الجديدة” ليس لديها تجربة أو خبرة، وهذا خطير ويهدد مسار الانتقال الديمقراطي، ويفتج الباب إلى الرشوة والفساد وسوء التصرف.
نحن حطمنا هياكل “النظام السياسي القديم”، لكن النخب التي استلمت الحكم لم تكن مستعدة لتقود البلد، وهذا يمكن أن يكون مقبولا مؤقتا، لكن لا ينبغي أن يدوم.
الحركات الإسلامية والأحزاب العلمانية المعارضة مهددة بانقسامات خطيرة بعد رحيل “الرئيس”
غيرنا الدستور وقانون الانتخاب ووقع حل الحزب الأكبر الذي حكم البلاد طوال 55 عاما، وكان لديه مليونان ونصف منخرط، واعتمدنا نظاما سياسيا جديدا بدستور جديد، وبدأ الاعتماد على أحزاب جديدة ليس لديها خبرة اتخذت مواقف متناقضة من ملفات كثيرة، بحكم افتقارها للتجربة وللخبراء والتكنوقراط المؤهلين، الذين لا ينتمون حزبيا وسياسيا للحزب الحاكم السابق وللمنظومة الإدارية والسياسية القديمة.
الطرف الذي استفاد هو الاتحاد العام التونسي للشغل باعتباره الطرف الوحيد المنظم. اجتمع حوله جزء من المحرومين من العمال والفقراء والطبقة الوسطى. لكن النقابات عاجزة عن تعويض الأحزاب والسلطات التنفيذية والتشريعية المنتخبة.
النقابات لا تعوض الأحزاب
س ـ لماذا لا يمكن للنقابات أن تؤدي دورا أكبر؟
ـ لأن النقابة عاجزة عن الدفاع عن 3 فئات لها وزن كبير في تونس، هم فئة العاطلين عن العمل التي تضم حوالي 600 ألف شخص، وفئة ثانية تضم حوالي 15 بالمائة من سكان البلاد المقيمين في الأرياف والمناطق النائية، والفئة الثالثة التي تهم جيش العاملين والمستفيدين من القطاع الموازي، علما أن الدراسات الرسمية تعدّ أن أكثر من 54 بالمائة من التونسيين والتونسيات يعتدون على قطاع الاقتصاد الموازي غيرالمنظم.
هؤلاء يستحقون إلى جهد كبير لنقلهم إلى الاقتصاد القانوني وإدماجهم اجتماعيا والمسلك القانوني، وهو ما يعني حاجة إلى موارد بشرية ومادية وليس لديهم نقابات تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل.
إذا لم تعالج قضايا هذه الفئات الثلاث، فستتواصل الأزمة الاجتماعية الاقتصادية، وستظهر انعكاساتها السياسية، وقد تفشل عملية الانتقال الديمقراطي.
الكفاءة ومعرفة الملفات
س ـ وماذا عن قيادات حركة “النهضة”؟ هل لدى ساستها خبرة ومعرفة بالملفات مقارنة بالسياسيين الجدد، الذين استلموا الحكم بعد انتفاضة العاطلين والطبقة الوسطى في موفى 2010 ومطلع 2011 واندلاع ثورات الربيع العربي؟
ـ عندما قامت الثورة كانت حركة “النهضة” مثل غالبية الحركات الإسلامية حركة يهتم مناضلوها أساسا بالقضايا الأخلاقية والتوعية الدينية.
بعد الثورة تغيرت المعطيات؛ فقد برزت الحاجة إلى عالم الاقتصاد ومدير البنك ورئيس الشركة والأستاذ الجامعي والخبراء، وإلى تخطيط موارد بشرية مؤهلة، وهو ما لم يكن متوفرا.
حركة “النهضة” وبقية الحركات الإسلامية المعارضة السابقة، فرض عليها أن تستلم الحكم أو تشارك فيه في تونس وعدة دول قبل أن تتهيأ لذلك، وهو ما يفسر تواصل الصعوبات التي تمر بها دولنا.
“النهضة” حاولت فنجحت وأخفقت، لكن المحاولات تكون خطيرة عندما تفشل فتتعمق مشاكل الشعب، وتنقص الموارد المادية للدولة لأسباب اقتصادية واجتماعية، وهو ما حدث في تونس
س ـ لماذا ؟
ـ لأن اقتصاد تونس يعتمد أساسا على الخدمات وعلى الصناعات الخفيفة والقطاعات الهشة، مثل قطاع النسيج الذي يمر بصعوبات عالمية بسبب المنافسة الصينية، وفي بلادنا، أغلب المؤسسات صغيرة ومتوسطة وغير مهيأة لكسب ورقة المنافسة.
وحسب بعض التقديرات، فإن الأزمة المستفحلة في الشقيقة ليبيا تسببت في عودة مئات الآلاف من العمال والتجار والصناعيين، وأحالتهم على البطالة وحرمان حوالي 600 ألف عائلة تونسية من فرص الشغل في ليبيا وتوفير موارد رزق دائمة.
كما دخلت اقتصاديات الدول الأوروبية الشريك الاقتصادي الأول لتونس بدورها في أزمة، لا سيما فرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان.
في الوقت نفسه تسبب ظهور الإرهاب في تعطيل القطاع السياحي والصناعات التقليدية.
رؤية ومشروع ؟
س ـ وهل تغيرت حركة “النهضة” جوهريا بعد الثورة من حيث رؤيتها وتصوراتها؟ هل أصبحت لديها رؤية ومشروع واستراتيجية للبلاد ولمهامها الجديدة كحزب سياسي يشارك في الحكم؟
ـ ليس لها ولا لأي طرف سياسي كبير حاليا رؤية ومشروع واضحان. تطورت حركة “النهضة” وأغلب الحركات الإسلامية والمعارضة العلمانية السابقة من حركات خارح الحكم إلى أحزاب حاكمة، تعلن أنها تؤمن بالدولة ومنطق الدولة، ويمارس القياديون فيها مهمات سياسية مدنية لا علاقة لها بالضرورة بخلفياتهم الدينية وتجاربهم السابقة في حقل الدعوة والإرشاد، وجمعيات الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، أصبحت مطالبة بممارسة الحياة العامة من موقع المسؤولية وليس من موقع المعارضة.
مستقبل حركة “النهضة”
س ـ في هذه المرحلة التي تتنبأ فيها دراسات كثيرة بنهاية ما تسميه “الإسلام السياسي”، قرر المؤتمر العاشر الفصل بين الدعوي والسياسي؟ هل تحرر قادتها فعلا من الشأن الديني وتوظيف الدين في المعارك السياسية والحزبية والانتخابية، عوض خوض غمار التنافس مع الأحزاب “العلمانية” حول برامج ومشاريع واستراتيجية ومقترحات عملية لإصلاح والتغيير؟
ـ أتابع التطورات في تركيا منذ السبعينيات من القرن الماضي، الدولة علمانية لكن غالبية الشعب متمسكة بإسلامها وبتدينها. الشيء نفسه في تونس؛ فالدين اختيار شعبي وليس قضية الحكومة أو بقية مؤسسات الدولة.
ظروف تونس الحداثية والمسلمة تختلف عن ظروف بقية الدول العربية والإسلامية بما في ذلك تركيا العلمانية، التي تبين أن غالبية شعبها مسلم ومتدين بعد قرن كامل عن إقرار العلمانية.
“النهضة” قررت أن تفصل بين الدعوي والسياسي لأنها حزب سياسي، وهذا واجبها وفق الدستور وقانون الأحزاب ومنطق الأشياء.
الخطوط الحمراء
س ـ ما هي الخطوط الحمراء التي لا ينبغي لحركة “النهضة” أن تقترب منها؟
ـ الخط الأحمر بالنسبة لكل الأحزاب والأطراف السياسية بما فيها حركة “النهضة”، هو احترام الحريات ورفض الإقصاء، ثم التواضع والنقد الذاتي والاعتذار عند الاقتضاء. لا بد من الاعتراف بحق الفرد والمجتمع بممارسة حقوقه الدينية وشعائره بكامل الحرية.
الديمقراطيات في العالم تختلف حسب اختلاف ثقافاتها ودياناتها. الهند أكبر ديمقراطية في العالم تحترم خصوصيات الشعب الثقافية. والأوروبيون لديهم هوية ثقافية مختلفة كذلك، لكن على الجميع احترام الحريات وحق الاختلاف والتعدد ورفض الإقصاء.
أين الحوار الفكري والثقافي؟
س ـ ما الذي تلومونه على حركة “النهضة” والأحزاب الحاكمة في تونس ؟
ـ أهم نقد يوجه إلى حركة “النهضة” وبقية الأحزاب الإسلامية والمعارضة التي وصلت إلى السلطة بعد اندلاع الثورات العربية، أن الحكم شغلها عن تنظيم حوارات فكرية وثقافية ومجتمعية وسياسية. ولا يخفى أن الانشغال بالحكم حرمها من أن تطور نفسها، وأن توسع جمهورها، وأن تخاطب شعبها خطابا مدنيا.
ومن بين نقاط الضعف حاليا بالنسبة “للنهضة” وبقية الحركات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة، أن الشعب لم يعد يصنفها تصنيفا دينيا عقائديا وأخلاقيا وصوتا يعبر عن “ضمير الأمة”، بل أصبح يعتبرها “فئة مغلقة” لديها أجندات سياسية.
ليس لها مستقبل
س ـ ماذا تقصدون بالفئة المغلقة أو “المنغلقة “؟
ـ الفئة المتدينة التي تمثل قطاعا من الشعب وجزءا من الرأي العام وليس كل الشعب. وهذا التصنيف النمطي لا يخدم حركة “النهضة” والحركات السياسية عموما؛ لأن الحزب الوطني ينبغي أن ينفتح على كل الفئات في المجتمع وكل طاقات الشعب ونخبه، وأن يعبر عن مصالح فئات مختلفة ومشاغلهم ومشاكلهم.
لا مستقبل للنهضة والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية إذا لم تقم بمراجعات
إذا لم تنتقل “النهضة” وبقية الحركات الإسلامية من جماعة أو فئة إلى حزب وطني جامع وعصري، لا أرى لها مستقبلا كبيرا.
خطوات عملية
س ـ ما هي الخطوات المطلوبة لتحقيق هذه النقلة إلى حزب وطني جامع وعصري؟
ـ إذا أرادت حركة “النهضة” وبقية الحركات الإسلامية والمعارضة الوطنية أن تحقق هذا، لا بد لها من النقد الذاتي وفتح حوارات فكرية ومراجعات، وأن تتوفر عدة شروط من بينها الانفتاح على الكفاءات داخلها وحولها وتغيير قياداتها التاريخية بجيل جديد من النخب والقيادات؛ جيل يكون أكثر واقعية يكرس التداول على المواقع والقيادة.
منذ 8 أعوام هناك حديث عن التداول والتغيير ومواكبة المستجدات، لكنها عمليا لا تزال فئة وجماعة منغلقة.
س ـ هل الإصلاح ممكن من داخل حركة “النهضة” وبقية فصائل المعارضة الوطنية من داخل الحركات الإسلامية والأطراف التي تنتسب إلى تيار الهوية؟
ـ الإصلاح ممكن إذا فهم هذا المعارضة والحركات الإسلامية الواقع ومشاغل الشعوب والجيل الجديد، وتطورت قولا وفعلا إلى معارضة تستوعب تحديات مطلع العقد الثاني من القرن 21. العالم يتطور ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تبقى على هامش هذا التطور، بما في ذلك من حيث أساليب الحكم والتسيير.
ففي الوقت الذي تسير فيه كل الأنظمة في اتجاه اللامركزية وتقاسم السلطات، تزداد هذه المركزية في كثير من الحركات والأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، بما فيها الحركات الإسلامية، بما يعني أن كل السلطات والصلاحيات تصبح أساسا بأيدي الرئيس أو الأمين العام، أي شخص واحد وبعض المحيطين به.
الخلافات الداخلية
س ـ ما هو أكبر تهديد يهدد الحركات الإسلامية وبقية الأحزاب السياسية في تونس ودول المنطقة في ضوء المتغيرات السريعة داخليا وإقليميا ودوليا؟
ـ التهديد الأهم داخليا، هو استفحال الصراعات الداخلية خدمة لأغراض شخصية انتشرت في كل الأحزاب والحركات السياسية في تونس والدول العربية في محطات معينة، من بينها رحيل رئيسها أو زعيمها الأول بسبب الوفاة أو الإقالة أو المعارك الداخلية والانشقاقات.
النخب العربية لا تقوم بدورها وعليها التضحية بمصالحها
هناك مخاطر الانقسام إلى عدة مجموعات وأحزاب على غرار ما حصل بعد وفاة الشيخ محفوظ النحناح زعيم حركة مجتمع السلم الجزائرية مثلا، وفي فصائل فلسطينية وأحزاب عربية قومية ووطنية وإسلامية ويسارية.
ومن بين المخاطر أن المتنافسين غالبا على تعويض الرئيس أو الزعيم أو الأمين العام متساوون في القدرات والمؤهلات والإشعاع، وليس بينهم مؤهل لزعامة منافسيه؛ لأن الرئيس والملك والزعيم في بلداننا لا يسمح ببروز قيادات في عهده.
المشكل أن الاختلافات بينهم ليست اختلافات حول الرؤى والتصورات والمشاريع والاستراتيجية، لذلك قد يستخدمون ورقات التنافس الجهوي والفئوي وحول المصالح، وسوف يبرز دكتاتوريون جدد.
الإقصاء.. الإقصاء..
س ـ وما هو أكبر خطر يهدد الانتقال الديمقراطي وانتصار قوى المعارضة في تونس وعربيا؟
ـ خطر الإقصاء، كل طرف يعلن أنه مع الديمقراطية والتعددية، لكنه لا يتردد في الإعلان عن كونه يريد إقصاء طرف سياسي معين.
وتسمع في تونس اليوم شعارات من نوع: نحن مع الانفتاح والشراكة مع كل الأطراف، إلا مع الطرف الفلاني.
الفكر الإقصائي يستفحل لدى أقصى اليسار واليمين. في صفوف العلمانيين والإسلاميين والقوميين والليبيراليين، وهو قائم كذلك لدى المحسوبين على “الوسط” ممن لم يفوزوا في الانتخابات السابقة، ويطرحون أنفسهم البديل الوحيد ويريدون إقصاء غيرهم من بين الفائزين في الانتخابات.