كيف أسقط المحتجون ألمانيا الشرقية بلا انترنت أو هواتف محمولة؟
م يعرف العالم مواقع التواصل الاجتماعي أو الهواتف المحمولة عام 1989، وهي الوسائل المستخدمة في العصر الحالي لحشد المحتجين.
لكن سكان ألمانيا الشرقية كانوا ضجوا من الشيوعية، وخرجوا إلى شوارع مدينة لايبزيغ، ثاني أكبر مدن ألمانيا الشرقية، على الرغم من القيود الصارمة المفروضة على الحريات الشخصية هناك.
وتقول كاترين هاتينهاور، أحد منظمي المظاهرات التي عرفت بمظاهرات يوم الاثنين في لايبزيغ آنذاك: “لم يكن لدينا هاتف في المنزل. كان ممنوعا. وكانوا يتصنتون على المكالمة في كل الأحوال”.
لكن نقطة التحول كانت عند خروج مسيرة بالشموع، شارك فيها 70 ألف شخص، تدفقوا إلى قلب المدينة، وأتتهم الجرأة لأول مرة للسير نحو مقر جهاز الأمن السري المعروف باسم “شتاسي”، وهم يهتفون “نحن الشعب”.
ووقف حوالي ستة آلاف شرطي في ملابس رسمية ومدنية، يراقبون المسيرة من الشوارع الجانبية، لكنهم تراجعوا، غالبا بسبب تفوق المتظاهرين عليهم عدديا.
ما الذي أجج المظاهرة؟
انتشر الغضب والحنق في ألمانيا الشرقية، التي كانت تُعرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية. لكن وتيرة الغضب تصاعدت عام 1989.
وكان الملايين في ألمانيا الشرقية يتابعون قنوات التليفزيون في ألمانيا الغربية سرا، كونها ممنوعة وغير قانونية. ورأوا الحياة المرفهة في الجانب الغربي الرأسمالي، والبضائع الكثيرة المتوفرة. لكن فرصهم في الذهاب إليها كانت محدودة. وفي المقابل، كانت الحياة في الجانب الشيوعي قاسية، وتعاني من التقشف والعجز المستمر.
وتعرض المعارضون للمراقبة، ولاحقتهم قوات “شتاسي”، التي اعتادت على تحديد خيارات الناس في التعليم والعمل.
وكان الزعيم الشيوعي البالغ من العمر 77 عاما آنذاك، إريش هونيكر، يقاوم التغيير، في حين كانت بولندا والمجر في الجوار تمران بفترة تحول ديمقراطي.
وكان الاتحاد السوفيتي الذي هو بمثابة الراعي أو الأخ الأكبر للنظام في ألمانيا الشرقية يمر بتحولات بقيادة الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف وسياسة “الغلاسنوست” (الشفافية) التي اتبعها وشجعها الغرب، وقد سمح للمواطنين السوفييت المعارضين بمواجهة جرائم الشيوعيين التي ظلت مخفية لوقت طويل.
وبات نداء “غوربي غوربي” شعارا شائعا بين المتظاهرين في ألمانيا الشرقية المتعطشين إلى إصلاحات تشبه التي قدمها غورباتشوف.
وفي صيف عام 1989، أزالت المجر السلك الشائك الذي يفصل حدودها عن النمسا، فأصبحت طريقا يهرب سكان ألمانيا الشرقية من خلاله إلى الجانب الغربي. وكانت المجر وجهة الشرقيين في العطلات، إذ كان النظام يفرض قيودا على السفر إلى الخارج.
وتدفق الشرقيون عبر هذا الطريق، حتى أن الآلاف طلبوا اللجوء في سفارة ألمانيا الغربية في تشيكوسلوفاكيا، وتفرق شمل الكثير من العائلات في ألمانيا الشرقية.
وفي الذكرى الأربعين لتأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية، زار غورباتشوف برلين الشرقية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وطالب هونيكر بالشروع في الإصلاحات السياسية “لأن الحياة تعاقب المتأخرين”.
لكن جمهورية ألمانيا الديمقراطية كانت تقول إنها حررت “الشعب” من استغلالية الرأسمالية، وإن الشيوعية تجلب الأمن الوظيفي، والإسكان الرخيص، والرفاهية الجماعية.
ما أهمية لايبزيغ في سقوط ألمانيا الشرقية؟
على مدار سنوات، قاد القس كريستوف فونبيرغير “صلوات السلام” كل يوم اثنين في كنيسة القديس نيكولاس، التي أصبحت ملاذا للمعارضين السياسيين.
وكانت ثمانينيات القرن العشرين هي فترة الاحتجاج ضد وجود الأسلحة النووية في أوروبا. وكان أغلب الاحتجاجات ضد وجود الصواريخ الأمريكية في غرب أوروبا، لكن هونيكر سمح ببعض المعارضة لوجود الصواريخ السوفيتية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
وعُرفت كنيسة القديس نيكولاس في لايبزيغ بأنها مكان للحرية. وتقول هاتينهاور، التي كانت في العشرين آنذاك: “كنا على علم بمراقبة شتاسي للكنيسة. لكن لم يقدروا على منع أنشطتنا لأنها كانت تحمل اسم “صلوات السلام” وليست احتجاجات”.
وأضافت في حوارها مع بي بي سي أن المجموعة “ازدادت صمودا. وساعدنا في مهمتنا صيف الرحيل. وانضم إلينا الكثير من اليائسين، الذين فقدوا أفراد أسرهم. وكانوا يبحثون عن مكان يستطيعون فيه مشاركة قصصهم، والوصول إلى قرار حول الطريقة التي يجب أن تستمر بها الحياة”.
وكان المعرض الدولي في لايبزيغ في الرابع من سبتمبر/أيلول فرصة نادرة للمعارضي الشيوعية، إذ سُمح للصحفيين من الجانب الغربي بالدخول إلى المدينة.
وغيرت هاتينهاور ورفاقها من المعارضين خطتهم لهذا اليوم، “وكنا بحاجة لقيادة الناس خارج الكنيسة، ليكتمل المشهد، وتكتسب الحركة وجها جديدا”.
وحمل المحتجون لافتات كُتب عليها “حرية التجمع”، و”لأجل بلد مفتوح وشعب حر”. وسرعان ما تدخلت قوات شتاسي ومزقت اللافتات، بيد الشيء المهم هنا كان تمكن تليفزيون ألمانيا الغربية من تسجيل لحظات عنف الدولة ضد المحتجين.
وتابعت هاتينهاور: “عندما شاهد سكان ألمانيا الشرقية هذه اللقطات، أدركوا الكذب الذي روجته الحكومة عنا، فنحن لا نبدو مجرمين مناهضين للثورة”.
وقال المعارض السابق أوفي شفابي لـ بي بي سي إن “الناس كانوا قد ضجوا من الحكومة الشرقية. يعيشون بشكل مستمر في الدعاية والكذب. حتى أن مدينة لايبزيغ كانت في حالة تلوث شديد. الهواء كان ملوثا لدرجة أنه رائحته عطنة”.
وكان شفابي من الداعين للاهتمام بالبيئة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وكانت السبب الأساسي لمشكلة التلوث في لايبزيغ هو مناجم الفحم البني القريبة منها.
لم كان التاسع من أكتوبر نقطة تحول؟
بحلول أكتوبر 1989، أصبحت مجموعات المعارضة كثيرة ومتنوعة، وتقول المعارضة السابقة كاترين ماهلر فالتر إن القس فونبيرغر كان المنسق الأساسي.
ويقول شفابي إن “الكثيرين قرروا أنهم لن يكونوا صحفيين أو محامين أحرار في ألمانيا الشرقية، فاتجهوا لدراسة اللاهوت ليتحرروا من قيود الدولة. وكان بينهم الكثير من المعارضين”.
وأضاف أن القساوسة الناشطين كانوا أقلية في كنيسة لايبزيغ البروتستانتية، لا يزيد عددهم على ستة من خمسين. كما أن الكنيسة الكاثوليكية قمعت النشطاء.