سكورسيزي.. العصابات.. الأيرلندي: عما كان كل هذا؟
محمد المصري-موقع مدى مصر
حين شاهدت فيلم الأيرلندي The Irishman لأول مرة، بحماسٍ ضخم وفي قاعة سينما ممتلئة، لم أحبه كثيرًا.
غلبني الإرهاق من ملاحقة هذا التدفق السريع للصور والأسماء والأحداث، وشعرت أن سكورسيزي يصنع فيلمًا ضخمًا بالخبرة والزمن و«شويتين السينما»، دون إضافة كبرى.
شيئان فقط أبقيا الفيلم في ذهني بشكل مستمر: الأول هو طريقة تقديم الكثير من شخصياته الفرعية بلقطة ثابتة مكتوب عليها أسماءهم وطريقة قتلهم. والشيء الثاني كان تتابع النهاية؛ بشخصٍ واحد في الصورة بعد فيضٍ من الناس في ساعاته الثلاث الأولى، وإيقاع ساكِن تمامًا نكاد لا ننتظر فيه إلا الموت، ولقطة ختامية تترك شعورًا أثقل من أي فيلم آخر لسكورسيزي أو في أفلام العصابات بشكل عام.
فكّرت أن الفيلم وإن تشابه أسلوبيًا مع أفلام سكورسيزي الأخرى ولكن ما يُحركه هو حِس ونَفَس مُختلفين، ودون أن أخطط بدأت في ملاحقة هذا الفارق بين كل فيلم وآخر، في إعادة فُرجة لم تحدث منذ زمن، وحين وصلت إلى The Irishman مرة أخرى، لم يكن فقط فيلمًا هامًا أو منطقيًا ضمن تلك المسيرة، ولكن ربما قفلة قوس حتميّة لها.
(1) فلاش باك: عصابات سكورسيزي
في لقاءِ قديم، قال السيناريست بادي تشايفسكي (صاحب سيناريو فيلم Network إنتاج 1976، وأحد أهم كتاب هوليوود طوال تاريخها) إنه في اللحظة التي «يكتشف فيها الجوهر الأساسي للقصة التي يحكيها فإنه يكتبه على قصاصة صغيرة ويضعه أمامه على الآلة الكاتبة كي لا يتوه منه طوال مرحلة الكتابة»(1).
هذا «الجوهر»، بتعبير تشايفسكي، له أسماء أخرى عند صناع ومعلمي السينما الآخرين، «التيمة/Theme» هي اللفظة الأكثر شهرة، وهناك تعبير «الفكرة الحاكِمة/ Controlling Idea» الذي يستخدمه روبرت مَكِي، أحد أشهر أساتذة السيناريو في هوليوود، ويشرح التعبير بكونه «الفكرة المركزية التي يدور حولها العمل، وتشكل خيارات الكاتب نحو ما هو ملائم أو غير ملائم لقصته»(2).
جزء أساسي من تحليل أي فيلم، أو مجموعة من الأفلام وصلتها ببعضها، هو إدراك «الفكرة المركزية» التي تَقود كل عمل منهم، وبعدها تكون الصورة الكبرى والتفاصيل الصغيرة أوضح بكثير.
أول فيلم لـسكورسيزي عن العصابات المنظمة كان «شوارع وضيعة/ Mean Streets»عام 1973، مقدمًا صورة أقل سينمائية وشاعرية وملحمية عن هذا العالم مما قدمه فرانسيس فورد كوبولا قبلها بعامٍ واحد في The Godfather. تشجّع سكورسيزي للمشروع بعد فشل فيلمه الثاني Boxcar Bertha، وأخبره المخرج چون كازافيتس حينها أنك «ضيعت عامًا من حياتك في الخراء، اذهب واكتب عما تعرفه»(3)، فاستلهم «شوارع وضيعة» من الحياة التي عاشها كأمريكي إيطالي في أحياء «نيويورك»، وحكى عن بطلٍ تائه، ممسوس بالخطيئة، يشعر بذنب دائم تجاه حياته، وعاجز تمامًا عن إيجاد السكينة، دون أن تكون «الجريمة» مغوية أو عالمها جاذب. كان سكورسيزي في الحقيقة يتخفى وراء بطله كي يعبّر عن هواجسه «الكاثوليكية» حينها، في فيلمٍ جوهره الحقيقي هو «البحث عن الخلاص»، وهي فِكرة سَيطرت عليه كثيرًا وصَبغت كل أفلامه في تلك المرحلة.
حين عاد سكورسيزي، بعد 17عامًا، لعالم العصابات مرة أخرى في «رفقة طيبة/ Goodfellas» كان يتحرّك بمنظورٍ مختلف عن العالم، جوهره هو «البقاء للقوة»؛ أن تكون رجل عصابات هو أن تملك كل شيء لأنك قوي، ولكن ضمن هذا القانون الحاكم ستكون مُعرّضًا دومًا للخطر في حالِ كان هناك من هو أقوى منك؛ إما ستُقتل أو تتحول لـ«جرذ» كي تنجو بحياتك، «الناس يسمونهم جرذان بذلك لأنهم يفعلون أي شيء للبقاء». وعلى العكس مما يبدو فإن قيم الصداقة والعائلة ليست ما يُحرك الفيلم، وبطله لا يشعر بالندم عند الوشاية بـ«رفقته الطيبة» كي ينجو بحياته، الشيء الوحيد الذي يفتقده في النهاية هو تلك القوة؛ «كل شيء كان ممكنًا، والآن انتهى كل هذا، وهو الأمر الأصعب».
في فيلم العصابات الثالث «كازينو/Casino» عام 1995 كان سكورسيزي يحكي في الحقيقة «قصة حب»، ربما قصة الحب الوحيدة التي تحتل المركز في أحد أفلامه، وفكرته الحاكمة كانت سؤالًا عن «الثقة»؛ عن أنك «حين تحب أحدًا يجب أن تسلمه مفتاح كل ما تملكه»، وتكون خطيئة بطله التي تفقده كل شيء ليست في كونه رجل عصابة أو على صِلة بالمافيا أو مُلاحق من الشرطة، ولكن أنه أحب شخصًا غير مناسِب لمنحه ثقته، ولم يستطع الخلاص من هذا الحب حتى كاد أن يحرقه حرفيًا.
مع وصوله للفيلم الرابع «المُغادِر/ The Departed» عام 2006 أصبح العالم عند سكورسيزي أكثر قتامة بكثير، لم يكن بطليه الأساسيين متصالحين مع كونهما رجال عصابات مثلما كان حال أبطال «رفقة طيبة» و«كازينو»، لم تكن تغريهم «القوة» أو «السلطة» أو «المال»، لكنهم -كبطلِ «شوارع وضيعة»- يبحثون عن «خلاصهم»؛ الخلاص من ماضيهم وما يُلطخهم، ويكون الخيار المنطقي أن يكونوا مع «رجال شرطة»، ويبذلون جهدًا خارقًا من أجل النجاة، ولكن في عالمِ الفيلم تنمحي الحدود الفاصلة بين هذا وذاك؛ رجل العصابة يعمل شرطيًا، والشرطي يتخفى وسط العصابة لكي يسقط رئيسها، وهذا الرئيس يتعاون مع الـ FBI ويحمونه، تكون «الفكرة الحاكمة» للفيلم هي «الهوية»، «من أنت؟»، ومأساة أبطاله أنه في هذا العالم لا فارق حقيقي بين أن تكون شرطيًا أو رجل عصابات، ولا يبقى غير صورة ظاهرية مشتتة ومرتبكة مآلها الحتمي هو الموت.
«الخلاص» «القوة» «الثقة» «الهوية»، بشكل أو بآخر أكملت الأفلام بعضها؛ كان الزّمن يغيّر في سكورسيزي وبالتالي يتغير جوهر كل فيلم. وفي الخامسة والسبعين من عمره.. بدأ في إخراج The Irishman.
(2) سمعت أنّك ترى الأشباح
*هذه الفقرة تحوي حرقًا لأحداث الفيلم.
يتقاطع «الأيرلندي» مع أفلام سكورسيزي السابقة، يمكن بسهولة إسقاط «أفكارها الحاكمة» عليه، ولكن جوهره كان مختلفًا بالكلية، جَوهر يَليق بالعجائز، والرجال في أواخر أعمارهم، هو فيلم عن النهايات، عن «الثمن».
حين يُثبت سكورسيزي اللقطة، ويَكْتُب عليها (اسم الشخص- تاريخ وفاته- طريقة مَقتله)، لم يفعل ذلك من باب التلاعب التقني، أو للمحة كوميدية وسط الأحداث (حتى إن ضحك الناس في قاعة العرض) ولكنه كان يعبر في كل مرة عن «تيمة» فيلمه ويثبّتها أمامنا على الشاشة؛ أن لكل هذا ثمن، ليس من مَنظور أخلاقي، أو بمنطق العدالة، أو «الجريمة التي لا تفيد»، هي تُفيد في الحقيقة؛ عاشوا حياةً صاخبة وممتلئة، ولكن هناك «ثمن» نهائي لما اختاروه وعاشوه، «it’s what it is» كما يُقال أكثر من مرة في الفيلم.
وبالمثل كان فرانك شيران، حيث لكل خيار يقوم به ثقلًا أكبر وأكثر وطأة من أفلام سكورسيزي الأخرى، القتل السريع في الشوارع ودهان البيوت بالدماء كمهمة عمل معتادة لا يمران بشكل عابر، ففي كل مرة كان يسبقه أو يلحقه بالابنة «بيغي» وهي تراقب؛ تظهر في خلفية المشهد، وخلفية الحياة الصاخبة التي يعيشها فرانك، لا يلتفت لها، يتلهى بالأسماء والصور والأحداث والمهام، مثلما نتلهى أيضًا -لساعتين ونصف- مع أسلوب الفيلم الصاخِب المتلاحق؛ جيمي، راسل بيل، توني وتوني وتوني، قتل وصفقات ونقابة وسياسة ورصاص، وفي النهاية يَسْكُن كل شيء، ينتبه لها حين لم تعد تَنظر،ولا يبقى بعد ذلك غير الأشباح، وعجوز وحيد في أواخِر عمره يتذكر ويتذكر ويتذكر، دون نَدَم أو ذنب، فقط بمعايشة «الثمن».
ولم يكن ثمن ما عاشه هو اضطراره أن يقتل صديقه الأقرب دون خيار، ولا أن يتصل بزوجة الصديق -بعد أن قتله- ويخبرها مطمئنًا أنه حتمًا سيعود، ولا في تجاهل ابنته له وإشاحة نظرها عنه لباقي حياته، ولا في وحدته النهائية وموته حيًا وهو يختار قبره بنفسه، ولا في رؤيته أشباح الماضي من حوله في الصور والذكريات داخل غرفته الخالية، لم تكن لحظة واحدة ثمنًا، كان «الثمن» هو كل هذا.
(3) الخطيئة
(4) لن يعرف أحد أننا كنا هنا
من جانب آخر، وبعيدًا عن روح مخرجٍ في أواخر سبعيناته يحكي عن أبطالٍ عجائز وما تركوه وراءهم، فإن «الأيرلندي» يحمل شيئًا آخر انشغل به سكورسيزي طوال مسيرته، وهو -إن صحت التسمية- التاريخ غير الرسمي لأمريكا.
في آخر مشهد من فيلم «Gangs of New York /عصابات نيويورك» (2002) يقول الراوي، بينما يقف أمام حرائق وحِطام «نيويورك» بعد حرب عصابات عام 1862، أنه «بمرور الوقت لن يعلم أحد مطلقًا أننا كنا هنا»، قبل أن تبدأ صورته وصورة المدينة ذاتها في الذوبان داخل صور أخرى لتشييد نيويورك حتى وقتها الحالي، بمبانيها العملاقة وتاريخها السرّي.
تكون تلك الصورة مشابهة لختام فيلم «كازينو»، حيث تتحطم مباني وكازينوهات «لاس ڤيجاس» القديمة التي سيطرت عليها المافيا، وتبنى الشركات والمؤسسات الحديثة مبان أخرى لامعة، دون أن يعرف أحد عما هو موجود تحت الأنقاض، كأنه تاريخ لم يعد له أثر أو وجود.
سكورسيزي مشغول بهذا التاريخ السري، يلقي بظله على أغلب أفلامه؛ كيفية تأثير ما لم يُحكَ على ما حدث في الجانب المُعلن من الصورة، وتشكيله لطبيعة المكان/المدينة/أمريكا ذاتها، والعلاقات المتداخلة بين مؤسساتها الرسمية وعالمها المخفي.
في «الأيرلندي» ينعكس ذلك، أكثر ربما من أي فيلم آخر له، فراوية فرانك شيران الحقيقي التي أملاها على الكاتب والمحقق تشارلز براندت وصدرت في كتاب يحمل اسم «I Heard you Painted Houses» عام 2004، تحمل في تفاصيلها رجلًا أقرب للشبح، «لا يعلم أحد أنه كان هنا»، ولكنه موجود وشاهد ومؤثر أحيانًا في خلفية أحداث كبرى في التاريخ الأمريكي. لا يهتم سكورسيزي تحديدًا بدقة الوقائع التي يسردها شيران وما إذا كانت روايته تلك تضخم دوره أم لا، فكما يُقال له في أحد المشاهد المهمة والجمل المحورية «الأمور ستحدث سواء كنت جزء منها أم لا»، وسكورسيزي معنى تحديدًا بأن تلك الأمور الوضيعة قد حدثت، وشكلت جزءًا من ماضي المكان الذي ينتمي إليه وعاش حياته كلها محاولًا أن يفهمه ويفهم نفسه داخله.
لذلك يتبنى الفيلم ما يقوله شيران في الكتاب، يتتبع الأحداث التاريخية الكبرى من خلال وقائع أصغر؛ عن تأثير المافيا على وصول ج.إف كينيدي إلى الحكم من أجل الإطاحة بفيدل كاسترو، وبالتالي عودة نشاطها وأعمالها في كوبا، وأنهم ساعدوا المخابرات المركزية لنقل الأسلحة في «غزو خليج الخنازير» للإطاحة بكاسترو، وأن انقلابهم على كينيدي بعد ذلك هو ما أدى لاغتياله لأنه «نسى إلى مَن يُدين»، كيف تحكمت المافيا في أموال النقابات والمؤسسات الرسمية ويصل تأثيرها إلى تحديد من يجلس على كرسي الرئاسة، وصولًا بالطبع إلى اختفاء/اغتيال رئيس نقابة السائقين (وثاني أقوى رجل في الدولة خلال خمسينيات وستينيات أمريكا) چيمي هوفا؛ لأنه لم يعد قويًا كما كان ورفض أن يتنحى جانبًا، و«من قتل رئيسًا يمكن أن يقتل رئيس نقابة».
وفي كل هذا يبدو -من جديد- أن الفارق -بالنسبة لـسكورسيزي- ممحي بين رجال الدولة ورجال العصابات، قانون القوة هو المُسيطر، والثقة -في عالم كهذا- تَقْتُل أصحابها. كأن «الأيرلندي» يحمل كل أفكاره وما حركه في أفلامه السابقة، ولكن بجوهرٍ مختلف يليق بهواجسه وروحه الحالية وقد قارب الثمانين؛ حيث لم يعد «الخلاص» هو المسألة، ولكن الذكريات، والأثمان، والانتظار؛ انتظار الغفران أو انتظار الموت.
(1) حوار بعنوان Go Into The Story مع بادي تشايفسكي – 1973
(2) كتاب Story للكاتب روبرت مكي
(3) سكورسيزي في «Q&A» بعد عرض للفيلم عام 2011 في «مهرجان نيويورك السينمائي»
(4) جملة من رواية «الصمت» اليابانية للكاتب شوساكو إندو، والتي ظل سكورسيزي يحاول اقتباسها سينمائيًا لمدة ربع قرن حتى أخرجها أخيرًا في فيلم بنفس الاسم عام 2016
(5) الجملة الافتتاحية لفيلم Mean Streets عام 1973 – والتي يلقيها سكورسيزي بصوته