مجابهة كورونا- سبعة مفاتيح لفهم انبهار الفرنسيين بالألمان
قارنة تكاد لا تتوقف.. “أنظروا لما يفعله الألمان“!
في السادس والعشرين من مارس 2020، قدًر كريستيان دروستن (رئيس قسم علم الفيروسات بمستشفى شاريتيه في برلين، أحد أبرز الوجوه العلمية ـ الإعلامية في ألمانيا منذ تفشي فيروس كورونا المستجد) بأن بلاده تُجري أسبوعيا ما لا يقل عن نصف مليون اختبار للكشف عن فيروس كورونا المستجد. بعدها بأيام واجه الوزير الأول الفرنسي إدوارد فيليب وابلا من الأسئلة في البرلمان حول عدد الاختبارات التي تجريها فرنسا مقارنة بألمانيا. فيليب تجنب الرد المباشر مكتفيا بالقول بأن الرقم المشار إليه لا يعكس بالضرورة الواقع، وإنما الطموح الذي تسعى ألمانيا إلى تحقيقه.
وبغض النظر عن مدى دقة هذا الرقم، فإن المشهد يكشف حدة الضغوط التي يتعرض لها المسؤولون الفرنسيون، في ما يشبه مواجهة دائمة مع ما تسميه وسائل الإعلام الفرنسية بـ”النموذج الألماني” في التصدي لجائحة كورونا. هوس تعزز بعدما استقبلت مستشفيات ألمانية مرضى فرنسيين، بل وتواردت تقارير بشأن احتمال تدخل الجيش الألماني لمساعدة فرنسا. وهو ما يرى فيه البعض انبعاثا لفكرة التضامن الأوروبي، فيما يرى فيه آخرون تراجعا لكبرياء فرنسا أمام جارتها الشرقية.
قصة استغاثة مقاطعة فرنسية بالجارة الألمانية
كانت “مقاطعة الشرق الكبير” (غران إيست)، ثالت بؤرة لتفشي فيروس كورونا المستجد في فرنسا، أول من أرسل نداء استغاثة للولايات الألمانية المجاورة، بعدما عجزت مستشفيات مدينتا كولمار وميلوز عن استقبال المزيد من المرضى. وكانت “بادن فورتنبيرغ”، المتاخمة للحدود أول ولاية ألمانية تلبي النداء. بعدها انخرطت ولايات أخرى في العملية، منها سارلاند، رينانيا بالاتينا وهيسن، في تقديم يد العون للفرنسيين. رمزية هذا التعاون تتعدى ظرفية كورونا، لتغوص في أعماق ذاكرة تارخية مؤلمة لبلدين مزقتهما قرون من الحروب الدامية، ودفعت بهما أوروبا الموحدة لاستكشاف دروب الصداقة والتعاون على صعوبتها. حتى نظرة الفرنسيين للجيش الألماني “بوندسفير” تجاوزت تابوهات الماضي، إذ كشف موقع “دير شبيغل” يوم (26 مارس 2020) عن وجود اتصالات عسكرية على المستوى الجهوي لبحث إمكانية “مساهمة الجيش الألماني في تقديم مساعدة سريعة إلى فرنسا على ضوء حالة الطوارئ السائدة هناك. ورغم أن الموقع وصف الاتصالات بغير الرسمية، إلا أنه توقع أن تتلقى وزير الدفاع الألمانية طلبا رسميا بهذا الشأن من قبل نظيرتها الفرنسية في حال خرت الجائحة عن السيطرة في فرنسا.
صحيفة “لوبس” الفرنسية كتبت في عنوان بارز “سنفعل كل ما بوسعنا لمساعدة الفرنسيين” في استشهاد بما قاله الدكتور هاتموت بروكله رئيس قسم الانعاش والعناية المركزة بمستشفى مدينة فرايبورغ في ولاية بادن فورتنبرغ. بروكله أوضح للصحيفة أنه يعتبر نفسه مواطنا أوروبيا بالدرجة الأولى، معبرا عن قناعته بأن القضاء على جائحة فيروس كورونا المستجد، ممكن بطريقة واحدة فقط هي “التعاون بيننا”. ومع ذلك فإن أوروبا أظهرت عجزا واضحا في التعامل مع هذه الأزمة. إيطاليا توسلت مساعدة شركائها دون تفاعل كبير، بل شهدنا معارك ديبلوماسية بشأن كمامات طبية تم الاستحواذ عليها بطريقة غريبة. التعاون الألماني الفرنسي لو تعزز أكثر سيكون واحدا من قصص النجاح القليلة لأوروبا في هذه الأزمة.
التصدي لكورونا ـ ملامح “النموذج الألماني“
في تحليل مطول يوم (الرابع من افريل 2020) لإذاعة “فرانس كولتور” الثقافية التابعة لراديو فرنسا، تساءل ستانيسلاس فاساك عن ملامح “نموذج ألماني” في احتواء كورونا وكتب محاولا رصد عناصر قوة المسار الألماني: ” في مواجهة كورونا قاومت ألمانيا بشكل أفضل من الدول الأوروبية الرئيسية الأخرى. عدد المصابين مرتفع جدًا، لكن معدل الوفيات أقل بكثير من إيطاليا وإسبانيا أو فرنسا”. وأضاف الكاتب أن “كفاءة النظام الفيدرالي الألماني تفسر جزئياً هذه النتائج الجيدة”.
وصل معدل الوفيات رسميا إلى 1.2بالمائة، إلا أنها نسبة أقل بكثير من البلدان الأوروبية الأخرى: (إيطاليا 12بالمائة، اسبانيا 9 بالمائة، المملكة المتحدة 8 بالمائة، وفرنسا 7 بالمائة). ويرى بعض الفرنسيين أن سر نجاح ألمانيا يكمن في تمكنها من احتواء الجائحة وإدارتها بشكل أفضل، لأنها أدركت الخطر مبكرا. يرى هانز ستارك، أستاذ الحضارة الألمانية في جامعة السوربون أن “الأولوية السياسية في فرنسا خلال شهر فيفري كانت إصلاح نظام التقاعد أكثر من أي شيء آخر، في وقت أخذت فيه ألمانيا المشكلة الناشئة آنذاك في الصين بجدية، ربما بسبب العلاقات التجارية الوثيقة للغاية بين البلدين “.
نظام صحي متطور ـ سر الفحوصات الاستباقية
تملك ألمانيا بنية صحية تحتية متطورة تُغطي كل مناطق البلاد مكنتها من إجراء اختبارات واسعة على الفيروس بمعدل 300 ألف إلى نصف مليون فحص في الأسبوع. وعلى سبيل المثال لا لحصر، أُجريت اختبارات على العائدين من المناطق الموبوؤة كالصين وإيطاليا وتيرول في النمسا. كما فُرض الحجر الصحي على القادمين من منتجع إيشغل، أحد المصادر الرئيسية لانتشار الوباء في أوروبا. وبهذا الصدد قالت سوزانا غلاسماخر، المتحدثة باسم معهد روبرت كوخ “أوصينا بحملة فحص واسعة في أولى علامات الوباء للكشف عن الإصابات بأسرع وقت ممكن وإبطاء العدوى”. يذكر أن معهد روبرت كوخ مؤسسة حكومية والهيئة المرجعية المخولة رسميا بتقييم مخاطر وباء فيروس كورونا في ألمانيا. وهو ما ذهب إليه كريستيان دروستن، خبير علم الفيروسات في مستشفى شاريتيه في برلين، الذي أوضح أنه مقتنع بأن “حملة الكشف المبكر جعلت من الممكن اكتشاف الوباء بسرعة”.
وتعتمد ألمانيا في الأوقات العادية على عشرين ألف سرير للإنعاش والعناية المركزة، ورفعت هذا العدد بعد أزمة كورونا إلى أربعين ألف سرير، منها ثلاثون ألف مجهزة بآلات التنفس. أما فرنسا فكان عدد الأسِرة المماثلة فيها،لا يتجاوز 5000 سرير قبل الأزمة. وتسعى الحكومة الفرنسية إلى رفع العدد إلى 14 ألف في الأسابيع المقبلة. يوفر النظام الصحي الألماني 6 أسرة لكل 1000 نسمة، ما يجعلها تحتل المرتبة الثالثة عالميا، بعد اليابان وكوريا الجنوبية، فيما تملك إيطاليا 2.75 سريرًا لكل 1000 نسمة، وإسبانيا 2.9 ، وفرنسا ثلاثة فقط.
يُعتقد في ألمانيا، على نطاق واسع، أن موظفا صينيا يتنقل بين مصنع لقطع غيار السيارات في بافاريا الألمانية ومصنعين في ووهان (بؤرة الوباء الأولى في الصين)، هو مصدر سلسلة العدوى الأولى في ألمانيا. تم الإبلاغ عن هذه الإصابة في 28جانفي بعد ذلك بيومين، تم تحديد جميع جهات الاتصال ذات العلاقة بـ”المريض صفر” وحجرها صحيا. الحصيلة: 16 إصابة. حينها تنفس المسؤولون الصعداء، بعد نجاح ألمانيا من احتواء سلسة الوباء الأولى.
أما الموجة الثانية فكانت أكثر دمارا، وبدأت نهاية فيفري، بعد عودة الكثير من الألمان من عطلتهم الشتوية التي يحب الشباب قضاءها في منتجعات التزلج النمساوية. مثل إشلغ، وهي قرية تقع في تيرول النمساوية ومعروفة ليس فقط بمنحدراتها الثلجية، ولكن أيضًا بأمسياتها وحفلاتها الصاخبة. واتضح أن نادل حانة المنتجع تمسك بمواصلة العمل على الرغم من معاناته مما كان يُعتقد بأنه نزلة برد شديدة. ويعتقد الخبراء، أن هذا النادل لوحده مسؤول عن سلسلة عدوى قضت على مئات الأشخاص. ويرى الخبراء أن طبيعة الموجة الثانية هذه تفسر جزئيا انخفاض معدل الوفيات في ألمانيا. الاختبارات السريعة وإجراءات الحجر الفوري، منعت هؤلاء الشباب من نقل العدوى لذويهم وأفراد أسرهم من كبار السن. كما يوضح كريستيان دروستن: “لقد نقلوا الفيروس بشكل رئيسي إلى أشخاص ينتمون إلى فئتهم العمرية”، فمعدل أعمار المصابين في ألمانيا لا يتجاوز 47 عاما، مقابل 63 في إيطاليا.
العوامل الثقافية في “النموذج الألماني“
تضافرت عدة عوامل ساعدت على اختيار أو بلورة ما بات يسمى بـ”النموذج الألماني” في التصدي للفيروس المستجد، من بينها ما رصده موقع صحيفة “لابريس” (الرابع من افريل 2020) وهي صحيفة كندية ناطقة بالفرنسية استدلت باقتصاديين ألمانيين، كريستيان باير وموريتز كون، من جامعة بون، اللذين أكدا على أهمية العامل الثقافي. ففي إيطاليا على سبيل المثال لا الحصر، يسود التعايش بين الأجيال أكثر مما هو عليه الحال في ألمانيا. حيث يعيش 20 بالمائة من الإيطاليين الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و49 عامًا، يعيشون مع والديهم، فيما لا تتجاوز النسبة 6 بالمائة في ألمانيا.
يتردد خبراء الفيروسات الألمان في الجزم بشأن مآل المعركة التي تخوضها البلاد ضد الفيروس المستجد، خصوصا وأن نسبة الوفيات أخذت مؤخرا منحى تصاعديا (1.2بالمائة بعما كانت في حدود 0.47 بالمائة). وقد اندلع جدل في ألمانيا بشأن الاستراتجيات المحتملة للخروج من حالة الحجر الحالية والتفكير في عودة الحياة إلى طبيعتها. عالم الفيروسات كريستيان دروستن يرى أنه “بالطبع علينا الخروج من هذا الوضع”، لكن الخبير ذائع الصيت رفض في أكثر مناسبة رسم أفق نهاية النفق أو تحديد وقت محدد، مكتفيا بالقول يجب إلغاء القيود في الوقت المناسب. ودعا إلى بلورة تنبؤات نموذجية، مبنية على أسس علمية محضة. وفي حال رفع الحجر يجب حماية وعزل الفئات المعرضة للخطر مثل كبار السن.